تطرقت في , مقالة كتبتها قبل وقوع الحرب , الى موضوع تدخل امريكا في العراق والوعود التي قدمتها بخصوص بناء العراق وتوقعت ان تكون نتائج هذا التدخل سلبية و ليس لصالح المواطن العادي في العراق وانها-امريكا لن تقوم ببناء العراق على غرار ماقامت به في اليابان و المانيا بعد الحرب العالمية الثانية. الان اجده من الضروري العودة الى نفس الموضوع ولكن من زاوية اخرى خاصة وان الحرب قد وقعت و الكثير من الحقائق قد انجلت، لذا فانني قد اعيد بعض الافكار التي وردت في تلك المقالة.
ان اهمية ادعاءات امريكا بخصوص بناء الديمقراطية في العراق و نواياها الحقيقية و النتائج العملية لسياساتها في العراق ونجاحها فيما تريد تحقيقه لاتكمن بكونها موضوعا يشغل حيز من تفكير المثقفين العراقيين فحسب بل موضوعا سيترك اثرا كبيرا على حياة الملاين في العراق والمنطقة وعلى وعي الجماهير في العراق و العالم كله بما فيه امريكا وموقف هذه الجماهير من امريكا وبالتالي ربما على مكانة امريكا عالميا.
منطقيا سيتحقق احد ثلات احتمالات في العراق نتيجة لتدخل امريكا و سياساتها في العراق. فاما انها ستحقق كل ما وعدت به وخاصة فيما يتعلق ببناء ديمقراطية تحترم الحقوق المدنية و الحريات الفردية وهنا سيتعزز موقع امريكا وستتعزز مصداقيها وستترك اثرا ايجابيا في المنطقة او انها كما حدث دائما في الماضي سوف لن تحقق اي من الوعود التي وعدت بها وستقيم نظاما رجعيا في العراق وعندها سيزيد الريب و الشكوك حول نواياها والعداء تجاها وربما ستتاثر مكانتها عالميا و الاحتمال الثالث هو انها ستحقق بعض مما وعدت به و ستقيم نظاما يكون نسبيا افضل من الانظمة الحاكمة في الشرق الاوسط في عملية طويلة بحيث ينسى الناس وعودها وتفقد اي مقارنة مع النظام السابق او انظمة المنطقة اهميتها.
بشكل عام كان هناك الكثير من الكتاب و الاكاديميين و السياسيين و الناس العاديين الطيبين ممن اعتقدوا بان الاحتمال الاول سيتحقق و ستقوم ببناء دولة ديمقرادية على غرار الديمقراطيات الغربية في العراق وستتخذه كبوابة لنشر الديمقراطية في الشرق الاوسط كما وعد جورج بوش لسببين:
1. بعد زوال عالم ثنائي الاقطاب وبروز النظام العالمي الجديد لم تعد هناك حاجة الى دعم انظمة استبدادية بمجرد انها اصطفت الى جانب القطب الغربي بمواجهة القطب المقابل. لم يبقى لأمريكا عدو قوي يجبرها على دعم انظمة دكتاتورية لها سجل سيئ في مجال حقوق الانسان ضمن معادلات عالم ثنائي الاقطاب بل على العكس من ذلك من مصلحتها اقامة انظمة ديمقراطية متفتحة، تفتح حدودها امام الرأسمال والاستثمارات الاجنبية ومنها الاستثمارات الامريكية. يجادل هؤلاء بان عهد الدكتاتوريات قد ولى وان امريكا الان في خضم عملية ازالة كل الانظمة و الحركات و المجاميع الدكتاتورية و المعادية للديمقراطية.
2. من الصعب على امريكا ان تضحك على ذقون الناس مرة اخرى فلاتفي بوعودها بنشر الديمقراطية. لقد نكثت امريكا بالعديد من الوعود ولكن من الصعب عليها هذه المرة نكث الوعد الذي قطعته ليس للجماهير في العراق فحسب بل للعالم اجمع. نادرا مارافقت عملية عسكرية من قبل بدعاية اعلامية ضخمة بقدر الحرب الاخيرة في العراق. و اجبرت امريكا تحت ضغط الدول التي رفضت السياسة الامريكية و ضغط الرأي العالم العالمي من تقديم الكثير من الوعود. ان النكث بهذه الوعود سيدمر مصداقيتها وسيزيد العداء لسياستها داخليا وخارجيا وسيؤثر على مكانتها وهذا اخر ماتريده.
ولكن في الحقيقة اذا استثنينا بعض الكتاب المطبللين لسياسات امريكا على اساس اعمى كما كانوا يطبلون من قبل لنظام صدام حسين و يقدمون وعود اكبر من الوعود التي تقدمها امريكا عما ستقوم به فان ما حدث في العراق خلال الاشهر التي تلت الحرب بدأت تؤثرعلى رأي الكثير ممن اقتنعوا في البداية بان امريكا بصدد اقامة ديمقراطية على الطراز الغربي في العراق واعادة بناء اقتصاده و بدات تظهر عندهم الشكوك من نواياها. هذه الاحداث جعلت الكثير من الناس العاديين يفقدون الحماس ويسيطر عليها التشائم. بل حتى المطبليين بدأت اصواتهم تخفت. أمريكا نفسها غيرت دعايتها والحديث الان ليس عن اقامة دولة ديمقراطية بل دولة مستقرة.
برأي ، امريكا ستفشل ليس في بناء ديمقراطية على الطراز الغربي فحسب بل حتى في اقامة دولة طبيعية مستقرة في العراق والاكثر من ذلك ان وجودها في العراق سيبقي مصدر عدم استقرار في هذا البلد وفي المنطقة، ليس استنادا على مشاهدات فترة مابعد الحرب بل استنادا على نفس الاراء التي قادتنا للوقوف ضد الحرب رغم ان احدى نتائج الحرب كان ازالة النظام البعثي الوحشي. ان السبب وراء وقوفنا ضد الحرب و الطريقة التي ارادت بها الادارة الامريكية ازالة النظام البعثي والاسباب التي ساقتها للقيام بذلك هو القناعة من ان النتائج السلبية لهذه الحرب ستفوق كثيرا اهمية سقوط النظام. فالنظام الهش كان بالامكان اسقاطه بطرق اخرى غير شن حرب تدميرية ولكن على كل حال الحديث عن هذا الموضوع قد فقد اهميته الان حيث وقعت الحرب وحدث ما حدث. برأي امريكا ستفشل في اقامة نظام برلماني على غرارالانظمة الموجودة في الغرب والتي تحترم حد من الحريات والحقوق مثل حق التعبير والتظاهر والاضراب للاسباب التالية:
1- حقيقة ان الاستبداد هي حاجة الرأسمال في العراق كما هو الحال في بقية الدول المتأخرة تكنولوجيا: هناك فرق كبير بين ان تكون دولة فقيرة اقتصاديا او متخلفة تكنولوجيا. عراق بلد غني جدا بموارده وخاصة النفط ولكن لايزال بلد متخلف تكنولوجيا في معظم ميادين الانتاج. ان تغير هذا الواقع، اي تحويل العراق الى بلد متقدم تكنولوجيا يتطلب ان يرفع الغرب الحظر المفروض على تصدير التكنولوجيا اليه وهو امر يفترض ان يتحقق بعد ان تم احتلاله الان من قبل امريكا وحلفائها. و الامر الاخر المطلوب لكي يتحول العراق الى دولة متطورة تكنولوجيا هو حرية الراسمال الاجنبي للانتقال و الاستثمار في العراق. هذا بدوره يتطلب ان لاتتبنى الحكومة المقبلة في العراق ما تسمى بسياسة الاقتصاد الوطني المستقل فتقوم بغلق الحدود امام الاستثمارات الاجنبية كما حدث من قبل في الدول التي حكمت من قبل التيار العربي المقاتل مثل العراق وسوريا وليبيا و هو امر مستبعد مرة اخرى بعد ان تم احتلال العراق و القرارات التي اتخذها الحاكم المدني بول بريمر فيما يتعلق بفتح الاقتصاد امام الاستثمارات الاجنبية. ولكن الشرط الاخر المطلوب من اجل انتقال الرأسمال الاجنبي الى العراق هو ان يكون لهذا الرأسمال الرغبة و الشعور بالامان للانتقال الى العراق وهو مالم يتحقق لحد الان و كل العلامات تشير الى انه لن يتحقق في المستقبل المنظور. رغم التسهيلات و الاغراءات التي قدمتها سلطات الاحتلال في العراق فان الاستثمارات الاجنبية في العراق ظلت محدودة وكما توقعنا من قبل و لم تكن الا في قطاعات معينة وقتية يتمتع فيها الرسمال بحرية وسرعة الحركة. والسبب الرئيسي من وراء عدم تدفق الاستثمارات الغربية الى العراق هو غياب الامن و الاستقرار. و بالامن لايقصد فقط توقف العمليات التي تقوم بها ما تسمى بالمقاومة المسلحة والتي تستهدف البنى التحتية ووجود الغربيين بل اسقرارا اعمق وطويل. تحقيق هذا الامر في العراق الان وفي المستقبل القريب شئ اقرب الى الاسطورة منه الى الواقع. واهم سبب هو وجود حركات الاسلام السياسي وبدرجة اقل الحركات القومية العربية و التي تعادي الغرب وكل شئ غربي في الوقت الحاضر وتتخذ من هذه المعاداة هوية لها. ان مثل هذه القوى لاتحتاج الى تاييد وامكانات كبيرة لكي تبقي المنطقة غير مستقرة وغير امنة للاستثمارات الغربية. امريكا قد تكون قادرة على لجم المقاومة المسلحة الموجودة بالشكل الحالي ولكنها لن تكون قادرة على تحييد هذه القوى بشكل كلي.
التخلف التكنولوجي يضعف قدرة البرجوازية في هذه البقة الجغرافية من المنافسة مع البرجوازية في البلدان المتطورة تكنولوجيا ولذلك فانها تعتمد على استغلال اشد للعامل للتعويض عن هذا الفارق. كما يقول منصور حكمت ان تراكم الرساميل في البلدان المتاخرة تكنولوجيا يكون عن طريق تخفيض المستوى المعاشي للعمال وتقليص حصتهم من الانتاج الاجتماعي. فالراسمالية في العراق والدول المتخلفة تكنولوجيا بحاجة الى العمل الرخيص و العامل المطيع وهذا يتناقض مع الديمقراطية الغربية و مع الحقوق المدنيه الموجودة في الدول الغربية كحق الاضراب و التنظيم وحرية التعبير. وجود عامل مسلوب الحقوق ومستغل اسغلالا فضيعا يحتاج الى قمع مستمر. اذ ان توفير الحقوق والحريات الانفة الذكر وايقاف القمع المطلق مع وجود الملايين من المحرومين سيجعل من صمود الدولة البرجوازية امرا مستحيلا. العراق حيث تصل نسبة البطالة الى 60% والفقر المدقع منتشر في كل مكان و الضمان الاجتماعي غائب ليس ببيئة جيدة لتطبيق الحقوق والحريات المذكورة في ظل نظام راسمالي. نفس الشئ صحيح بالنسبة لكل الدول المتخلفة بما فيها العالم العربي حيث تصل البطالة الى 30% ويوجداكثر من 70 مليون انسان يعيش تحت خط الفقر. دون تحسين هذا الواقع يكون اي حديث عن اقامة ديمقراطية محض هراء. هذه البيئة اما ان تعيش في ظل دكتاتوية برجوازية او ان يقلب النظام الراسمالي ككل. و في الحقيقة لايتوفردليل على اي تحسن في الاوضاع بل على العكس انها تسير نسبيا( اي بالمقارنة مع التطور الهائل في التكنولوجيا في العالم) نحو الاسوأ.
وحتى في حال زوال كل هذه المعوقات وانتقال الرأسمال الى العراق سيبقى استغلال العامل في الوقت الحاضر لان الراسمال لن يتنازل عن موقعه القوي مقابل العامل تلقائيا اي انه لن يتنازل عن الاستغلال الفاحش الموجود حاليا في العراق بمجرد زيادة الانتاجية بل سيحاول الحفاظ على موقعه وعلى الاستغلال الشديد قدر المستطاع وعلى ما يرافقه من قمع. اي ان ازالة القمع المطلق وشيوع الحريات و الحقوق الفردية و المدنية كالموجودة في الغرب حتى في حال زوال الحاجة الاقتصادية تحت حكم نظام برجوازي سيحتاج الى المزيد من النضال من جانب العامل.
بل حتى في الدول الغربية تعتمد الديمقراطية وماتعنيها على الموقع الاقتصادي للبرجوازية ، لذا ففي وقت الازمات عندما تقل نسبة الارباح تحمل البرجوازية الطبقة العاملة التبعات و تشن هجمة على حقوقها وتصادرها بالقدر المتاح لها. فالديمقراطية الغربية هي ديمقراطية برجوازية الدول المتقدمة تكنولوجيا في وقت الرخاء وهي غير الديمقراطية في هذه الدول وقت الازمات .
فالديمقراطية لاتعني الحريات المدنية اساسا بل السوق الحرة والمنافسة وتراكم الرساميل ولذا فان برجوازية اي دولة وخاصة الدول الفقيرة لايشترط بها ان توفر مجموعة الحقوق و الحريات الموجودة في الغرب لكي تحصل على لقب الديمقراطية. الديمقراطية كما يقول منصور حكمت هي تسمية تطلق على تلك القوى التي هي محل ثقة الغرب ومستعدة لاطلاق حركة الاسعار وتخفيص مستوى معيشة الجماهير واعلان حالة الطوارئ بوجه الاحتجاجات الجماهيرية و سحق الحقوق الفردية و اقامة الاستبداد الفردي ومنع الاضرابات و الممارسات الحزبية. بكلمات اخرى الديمقراطية لقب خاص يطلق على كل من يحترم قوانين اقتصاد راسمالية السوق الحر ويكون مواليا للغرب.
العراق لايشذ عن كل هذا، فالنظام البرلماني لا يتلائم مع موقع ومكانة البرجوازية في العراق المتخلف تكنولوجيا ومع مستلزماتها في ممارسة القمع الوحشي لكل تململ وحركة عمالية فيه. وحتى اذا افترضنا قيام هكذا نظام فانه لن يفلت من هجمة الشرائح الاخرى من البرجوازية العراقية، اي التيارات اليمينية في المجتمع التي ستبدله من خلال انقلاب ارعن بشئ اخر يخدم حاجتها الى الاستغلال والقمع المطلق.
هذه الحاجة الى الاستغلال الشديد هو ما يفسر قيام بول بريمر بالابقاء على كل قوانين النظام البعثي بخصوص العمل و العمال وحقوقهم ويفسر قيام القوات الامريكية بشن هجمات متتالية على اي نضال عمالي. اذ تقوم قوات الدولتين التي تعتبر نفسها قائدتا النظام الديمقراطي اي امريكا وبريطانيا بشن هجمة على اتحاد العاطلين عن العمل و على النقابات العمالية واعتقال القادة العماليين مثل قاسم هادي فلاح علوان وغيرهم واطلاق النار على المتظاهرين. لاتريد البرجوازية التنازل امام مطالب الجماهير لان هكذا تنازلات لاتخدم موقعها.
كما ان العراق لايشذ عن القاعدة من حيث ان النظام المقبل في العراق لايحتاج ان تتوفر عنده مواصفات النظام البرلماني الغربي لكي يعتبر نظاما ديمقراطيا. فهو قد يكون نظام عسكري وقمعي ولكن يحصل على لقب "الديمقراطي" في نفس الوقت.