سوء تفاهم
قرأت تعقيب الشاعر الصديق أحمد جان عثمان عدة مرات. في القراءة الأولى شعرت بمزيج من الإعجاب والحسد تجاه ثقافته الواسعة ومقدرته التعبيرية، التي تضعه في مصاف الكتاب الكبار في العربية التي لا أعرف سواها. لكن في القراءات التالية خفت الإعجاب بالتدريج وتحول إلى تساؤلات مقلقة، بعد تردد، وجدت من المناسب عرضهابالوضوح الذي أقدر عليه.
ما زلت أخجل من الإعتراف بنقصي، وأحاول خداع قارئي أو مستمعي، بالإدعاء والتشاطر بشكل صريح
وبالتعميم والقفز فوق الموضوعات بشكل مضمر، والمضحك في الأمر أنني أعرف ومنتبه، أن الآخرين بمن فيهم أصدقائي، لن يروني أكبر من حجمي الفعلي، ونتيجة محاولاتي في التضليل ستبقى عكسية، حتي بالنسبة لفرد متوسط الحساسية والذكاء. فليكن الوضوح.
الواقع المفقود:
الهوية كلمة عامة وعائمة، بعدما تلتصق بفرد تأخذ المعنى والإتجاهات. الهوية صفة الفردية. إذا لم يتحقق الموصوف تبقى كلمة الهوية في المستوى اللغوي المجرد، يمكن أن تحمل معاني مختلفة، بل متناقضة إن لم تفقد المعنى والدلالات، وتتحول إلى رمز مقدس أو أجوف لا فرق.
يوجد الفرد في ثلاث مستويات متعاقبة ومتكاملة: الموقع، الموقف، الدور.
الموقع قبل شخصي وقبل الفرد كذلك، لكنه يتحدد بالولادة ويستمر مع الفرد في أطوار حياته المختلفة.
الموقع يشمل الجنس والجنسية والعائلة، وهي الموقع الموروث، إضافة لها يشمل الموقع : العمل والعلاقات
والإنجاز، وهي الموقع المكتسب. تتميز المجتمعات بالموقع المكتسب ففي مجتمع مغلق أو ساكن، الموقع بمجمله موروث. على عكس المجتمع المنفتح أو الحي، يكون للموقع المكتسب الحيز الأكبر وفيه إمكانية التحقق الفردي متاحة، وتكون الصفات الفردية : الصدق، الجدارة ، المهارة أهم من الموروثة.
في المجتمعات الكئيبة أغلب المواقع مطموسة: المختلف، الهامشي، المنبوذ، المسكوت عنه، الموقع الرسمي يطغى على المواقع الأخري ويمحوها بالعنف وليس بالحوار.
الموقف يتحدد بالإختيار، مع كل ما تحمله كلمة إختيار من إلتباس، فقد حددتها معظم الدساتير الحديثة من خلال العمر أو السن. بدءا من سن ال 18 وحتى لحظة الموت يتحقق الموقف، ويقترن بالمسؤولية.
الموقع والموقف في علاقة تبادلية دائمة.
تصور بسيط للموقف النقدي والفرد: موقف الموالاة، شائع في الحياة والثقافة العربية، كنقيضه الموقف المعارض الذي يتحدد وبمعظمه كردة فعل على الموقف السائد، ويتجاوزه بالمبالغة والمزايدات، في نفس الوقت يستمد منه المنطق والأسلوب والممارسة. يتميز الموقف النقدي بعلاقته بالحقيقة والصواب، الحقائق مشتركة والذات تتقاسم الخطأ والصواب مع الآخر، لا يوجد واقع بل ممارسات وتفسيرات . في الموقف النقدي كما أفهمه، اللغة والأفكار وسائل وأدوات للعيش تخلو من أي إمتياز آخر، شأن الحذاء والمرآة وفرشاة الأسنان.
بإيجاز، الموقف الفردي هو العيش بمجمله، الممارسة والإعتقاد وجها عملة واحدة. الموقف الفردي نقدي بالضرورة نحتازه أو نصل إليه، بعد تجاوز المشكلة الكبرى (أسطرة الذات). يوجد خطأ شائع بخصوص الموقف الفردي ، إذ يتم الخلط بينه وبين الأنانية أو التعلق المفرط بالذات، أفضل عليها تسمية الإنغلاق الذاتي.
الحقوق الأساسية تشمل جميع الأفراد، المتسلطون وأتباعهم يرفضون ويحاربون الموقف الفردي.
الموقف الفردي لا يتناقض مع الصالح العام، بل العكس، تسميات وطنية، مصلحة عليا، ضمير الشعب هي بشكل مباشر ضد مصلحة الأغلبية، وتلك التسميات ليست سوى وسائل إيديولوجية نشأت واستمرت بهدف السيطرة وإحتكار الحقوق.
الدور هو حصيلة الموقع والموقف، ويتمثل إبداعيا في التحقق الواقعي للفرد، ويمكن الإشارة إليه بكلمة إنجاز. اللغة لا تنفصل عن الفكر، وبالمثل أفكار جديدة _لغة جديدة، وكما لا توجد أفكار جديدة بالخالص كذلك بالممارسة اللغوية لا يوجد إبداع محض.
اللغة التي استخدمها الشاعر أحمد جان عثمان، لغة متعالية تطمس الوجود الفردي، الذي يحتاج إدراكه والتعبير عنه إلى أفكار جديدة، والكثير من المغامرة التي تحمل الحماقة والإحتمال الكبير للخطأ الصريح كذلك، وأول الشروط للتعبير عن الجزئيات والتفاصيل، التخفف من الحمولة الأيديولوجية بدءا من المفاهيم الموروثة وصولا إلى القيم العميقة التي تتحكم بتعبيراتنا إلى درجة كبيرة. وهنا يبرز الدور المزدوج للغة والفكر فهما حاضران في علاقة الفرد بالواقع بكل مستوياته، فمن جهة حافظان للميراث الأخلاقي، وبالتالي عائقان أمام التحقق الفردي، ومن جهة أخرى ، عبر الأفكار الجيدة والإبداع الأدبي نتعرف على وجودنا الواقعي بجديده ومحدوديته وعمقه، معا.
ولنتأمل قليلا بعبارة حقوق الإنسان وكيف تعامل معها التعيس صدام حسين في بداية العام وفي نهايته.
الموقف الأيديولوجي السائد في العربية يتوسط الواقع والوهم. هو تخطيط قابل للإدراك وغير قابل للإختبار
يصف الظاهرة في إتجاهه الواقعي، ويتحلل في اللغة في إتجاهه الوهمي. أين موقع أحمد جان عثمان فيه!؟
حسين عجيب_اللاذقية