|
المثقفون السوريون والتفاوض السوري الإسرائيلي
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 2315 - 2008 / 6 / 17 - 10:42
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
لم يحظ التفاوض السوري الإسرائيلي الذي يوشك أن يستأنف جولته العلنية الثانية في تركيا بما يفترض أن يناله من اهتمام المثقفين السوريين. هذا ربما لأن من المبكر توقع نتائج عملية من عملية اسطنبول، أو لأنه لا يزال من المحتمل أن تتعثر آلة التفاوض وتتحطم. ثمة سوابق معروفة من هذا الباب في تسعينات القرن العشرين. وقتها تفاعل المثقفون السوريون بصورة أكثر إيجابية، إن رافضين أو متقبلين. وكان لافتا أن انصب رفض الرافضين على "التطبيع"، وليس على إنهاء حالة الحرب ولا على عملية التفاوض. هذا الموقف الملتبس يعكس موقعا ملتبسا. فقد كان هُجاة التطبيع مقربين من النظام وأعضاء في اتحاد الكتاب الرسمي، واتخذوا صحيفته الأسبوعية الرسمية منبرا لخطابة عالية النبرة ضد "التطبيع". كانت حججهم تنويعات لفكرة أن إسرائيل هي العدو الطبيعي والعلاقة الطبيعية معها هي الحرب، فإن كان لا بد من تسوية، فليس لنا أن نضفي عليها صفة طبيعية. للسياسي أن يتفاوض ويبرم تسوية، لكن المثقف لن يسالم ويطبع. ولم يظهر ما يشير إلى أن "السياسي"، وهو من هو حينها، ساخط من توزيع الأدوار هذا. وفي تلك الفترة جمدت عضوية ثلاثة مثقفين سوريين في الاتحاد لأن مواقفهم بدت ناشزة عن "الوطنية الطبيعية" للسوريين، وقد تمثلت هذه آنذاك بالسيد علي عقلة عرسان الذي رأس "اتحاد الكتاب العرب" نحو 3 عقود. لا نقاش اليوم من أي نوع. العملية ما تزال في طور باكر كما قلنا، وقد لا تتخطى هذا الطور. لكن كذلك لأن موقع التفاوض في أفضليات النظام مختلف جدا. في التسعينات كان النظام السوري مرتاحا نسبيا، ومن غير المحتمل أن ينعكس إخفاق التفاوض عليه سلبيا. بالعكس، لقد بدا لكثيرين، وربما لمقرري السياسة في عهد الرئيس حافظ الأسد، وربما للرئيس ذاته، أن نجاح التفاوض هو، بالأحرى، ما قد يكون بابا لمشكلات عسيرة. مشكلات تمس تكوين النظام وأولوياته ونمط شرعيته، وقد بنيت جميعا على قاعدة أن سورية في حالة حرب مع "عدو قومي" يحتل بعض أرضها وأراض عربية عزيزة أخرى، وأن الحياة السياسة في البلد يتعين أن تتمحور حول هذا الشرط. من هذا المقترب، تهدد استعادة الجولان بفتح جدول أعمال مربك في دمشق. لعله لذلك كان النظام يتصرف في المفاوضات بحرص ودونما تعجل. لقد بدا أن "المواقف المبدئية" هي أفضل ما يلبي مقتضيات استقراره وشرعيته. والتقاء المبدئي مع المصلحي هو غاية ما يتطلع إليه السياسي. وإن كان السياسي من نمط حافظ الأسد، الرجل الذي شهد من موقع أساسي أو الأساسي وقائع 1967 و1973 مع إسرائيل، و1979-1982 في الداخل السوري، فسيكون حساسا جدا للثمن الداخلي المحتوم للسلام. ولقد وفر الإسرائيليون، عبر مطالباتهم بتعديلات على حدود 1967، فرصة أن يرفض نظام الرئيس الراحل ما يناسبه رفضه ويوافق مطلوبه. الوضع مختلف اليوم. النظام الحالي يحتاج إلى التفاوض مع إسرائيل لكسر عزلة مزعجة، ولفتح أقنية حوار مع أطراف إقليمية ودولية نافذة من وراء ظهر أطراف عربية ما انفكت تتصور أنها الأقرب إلى تلك القوى النافذة. التفاوض جيد ومرغوب في مثل هذه الحالة بقدر ما يطول أمده، وليس بالضرورة بقدر ما يعطي من ثمار فعلية. يمكن القول هنا إن "الحركة كل شيء والهدف لا شيء". هذا فضلا عن أن تحقق الهدف، استعادة الجولان والسلام مع إسرائيل، لا يبدو اليوم مقتضيا للأثمان الداخلية التي تصور الرئيس الراحل، بحكم جيله وتكوينه وتجاربه ومفاتيح سلطته، أنه مقتض لها. ولعله لهذه الاعتبارات يميل معارضو النظام اليوم إلى مقاربة مسألة السلام والتفاوض الجاري من منظور توسلها المحتمل من قبل النظام لتطبيع ذاته إقليميا ودوليا. بالمقابل قد يمكن فهم سكوت المزاج الممانع المستقل في سورية على المفاوضات الجارية بأن رفضه المبدئي للسلام مع إسرائيل يتعادل مع قرب هواه من النظام في وصف هذا قاعدة الممانعة. وفي الحالين تبدو مسألة السلام تابعة لشيء آخر فلا تقارب كمسألة مستقلة. لكن إن كان لا ريب أن التفاوض يستجيب لنازع عميق عند النظام إلى كسر العزلة، إلا أن سلاما سوريا إسرائيليا قد تتمخض عنه المفاوضات هو شيء مرغوب، تحتاج له سورية وتحتاج له الحياة السياسية والثقافية السورية، ويحتاج له المعارضون أنفسهم. كلما كان هذا أبكر كان أحسن. فلا يصح أن تقارب المسألة حصريا من وجهة نظر نوعية استخدام النظام لها. فإذا تحقق السلام فستكون آثاره أكبر وأهم من توظيف النظام له، هذا حتى لو لم نأخذ بالاعتبار أن سياسة العزلة قلما تلحق ضررا بنظام مثل نظامنا، وأن في انكسارها مصلحة للشعب السوري تفوق مصلحة النظام نفسه. من التبدلات الإيديولوجية والنفسية المهمة التي يمكن تلمس آثارها اليوم أننا لا نكاد نجد أحدا يستخدم التفاوض السوري الإسرائيلي لإدانة النظام وتخوينه. من قد يرفضون المفاوضات والتسوية مع "العدو الصهيوني" يجدون أنفسهم على قرب من النظام في شؤون متنوعة، ولديهم أسباب متنوعة للخشية من فشله وتداعيه. ومن قد يعارضون النظام لا يجدون سببا قويا لرفض التفاوض، بل قد يفضلون نجاحه من أجل التمكن من إدخال قضايا أخرى مهمة إلى النقاش العام. هذا حين لا يشككون في غرض النظام من فتح أقنية تفاوضية مع إسرائيل كما أشرنا للتو. واضح إذن أن قضية السلام مسيسة جدا في سورية. أعني أن الموقف منها يمر عبر تفضيلات وانحيازات تحددها شؤون أخرى، الموقف من النظام بخاصة. هذا موافق لطبائع الأحوال السورية التي لطالما تميزت بكثير جدا من التسييس وقليل جدا من السياسة نفسها أيضا، وأقل بعد من فسحة مستقلة للإجماع الوطني. ولعل فائض التسييس هذا يفسر إحجام المثقفين السوريين المكرسين عن التطرق إلى التفاوض الجاري، إن بخير أو بشر. من غير المتوقع في مثل هذا الشرط أن نجد نقاشا حول السلام كقيمة. ولعل غير قارئ سيتحفظ على الاستخدام المرسل لمدرك السلام في المقالة، في وصف ما هو في واقع الأمر محض "تسوية" قد تقبل على مضض. لكن كل سلام هو تسوية قد تقبل على مضض. لا ريب أن سلاما مستداما هو ما يبنى على أسس ثقافية إيجابية وليس على المضض. لكننا لا نخسر من تسوية على مضض إلا إذا كنا نجعل من تحرير فلسطين وإزالة إسرائيل هدفا سياسيا عمليا راهنا لنا. النظام السوري لا يفعل ذلك منذ 35 عاما على الأقل. بالعكس، إن تسوية تندرج في منطق الحساب السياسي العقلاني ستكون في مصلحتنا على مدى أبعد مهما تكن غير منصفة الآن. أما في غياب منطق السياسة العقلانية فلن تكون التسوية وحدها في غير مصلحتنا: كل شيء آخر سيكون في غير مصلحتنا. أليس هذا واقع الحال؟
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الوطنية التخوينية والتدين التكفيري
-
أفحمتُه، أفحمناهم... النقاش كاستمرار للحرب بوسائل أخرى
-
في نقد الأهل وأهل النقد
-
لبنان: السهل والصعب والغريب!
-
لبنان، سورية، إسرائيل وفلسطين: -نماذج مثالية- لدول استثنائية
-
في شأن الإصلاح السياسي والهوية الوطنية في سورية
-
-التفاصلية- والعلمانية ونقد الشأن الإسلامي
-
حزب الله مقاوماً في .. بيروت
-
شتاينماير ضد كانط
-
جيل عربي ثالث أمام الواقعة الإسرائيلية
-
خبز شعير.. عربي
-
الأولوية، عربيا، للتقدم أم لمواجهة إسرائيل؟
-
الدين كحق من حقوق الإنسان
-
سلام في سورية من أجل سلام لسورية...
-
من أجل نقد عقلاني للسياسة الأميركية
-
أميركا الشرق أوسطية ونحن.. الأميركيون!
-
الشرق أوسطية: الإيديولوجية والنظام
-
سورية والأزمة الوطنية الدورية
-
ما العمل حين يستحيل العمل؟
-
نقد متأخر لنظرية -قوى التغيير-
المزيد.....
-
-جزيرة النعيم- في اليمن.. كيف تنقذ سقطرى أشجار دم الأخوين ال
...
-
مدير مستشفى كمال عدوان لـCNN: نقل ما لا يقل عن 65 جثة للمستش
...
-
ضحايا الهجمات الإسرائيلية على قطاع غزة تتخطى حاجز الـ44 ألف
...
-
ميركل.. ترامب -معجب كل الإعجاب- بشخص بوتين وسألني عنه
-
حسابات عربية موثقة على منصة إكس تروج لبيع مقاطع تتضمن انتهاك
...
-
الجيش الإسرائيلي: اعتراض مسيرة أطلقت من لبنان في الجليل الغر
...
-
البنتاغون يقر بإمكانية تبادل الضربات النووية في حالة واحدة
-
الجيش الإسرائيلي يعلن مقتل أحد عسكرييه بمعارك جنوب لبنان
-
-أغلى موزة في العالم-.. ملياردير صيني يشتري العمل الفني الأك
...
-
ملكة و-زير رجال-!
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|