|
الاتفاقية العراقية-الأمريكية، مرة أخرى
عبدالخالق حسين
الحوار المتمدن-العدد: 2315 - 2008 / 6 / 17 - 10:42
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
بعد نشر مقالي الأول عن (الاتفاقية العراقية-الأمريكية، ضرر أم ضرورة؟) على مواقع الإنترنت، يوم 10/6/2008، استلمت الكثير من تعليقات القراء عن طريق البريد الإلكتروني، كما وأعطت بعض المواقع مثل (آفاق) المجال لزوارها بإضافة تعليقاتهم بأنفسهم مباشرة ودون أي تدخل من مسؤول الموقع، ومعظم المعقبين يستخدمون أسماء مستعارة ما عدا القلة. ففي عصر العولمة، وفرت التقنية الإعلامية الحديثة فرصة غير مسبوقة لنا، كتاباً وقراءً، للمشاركة الواسعة في الجدال وتبادل الآراء في أية قضية عامة وبحرية تامة. كما وحصلت خلال الأيام القليلة الماضية، تطورات متسارعة في الموضوع الذي نحن بصدده، حيث نشرت تصريحات من المسؤولين العراقيين والأمريكيين، سلطت بعض الأضواء على ما يجري وراء الأبواب المغلقة، مما اقتضى الأمر العودة ثانية للموضوع وذلك نظراً لأهميته الفائقة، والحاجة الماسة لإشباعه جدالاً من قبل الرأي العام.
فمن المؤكد أن المفاوضات بين الأطراف المعنية مازالت في بدايتها، إلا إن تعطش الرأي العام للإطلاع على آخر التطورات أولاً بأول، فسح المجال للتكهنات وبث الإشاعات وإبراز الاتفاقية من قبل المناهضين لها وكأنها شر مستطير للعراق ودول المنطقة. وقد استغل المناهضون للاتفاقية ما قاله السيد نوري المالكي، رئيس الوزراء العراقي، في مؤتمر صحفي عقده في العاصمة الأردنية عمان خلال زيارته لها، يوم 13 حزيران الجاري، عندما قال أن: "المفاوضات وصلت إلى طريق مسدود، إذ اكتشفنا عندما بدأنا بالتفاوض مع الأمريكيين أن مطالبهم تنتهك سيادة العراق وهو أمر لا يمكن ان نقبله." وأن: "المعاهدة لا تعدو كونها مسودة أفكار رفضها بالإجماع مجلس رسم السياسات العراقي". وأن "الأفكار العراقية مرفوضة أميركيا والأفكار الأميركية مرفوضة عراقيا. وصلنا إلى طريق مغلقة، وحين درسنا الاتفاقية وجدنا أنها تخل خللا كبيرا بسيادة العراق". (موقع بي بي سي العربية، 13/6/2008). وربما استعجل السيد المالكي في استخدامه التعبير "المفاوضات وصلت إلى طريق مسدود"، إذ لا يمكن أن تكون المفاوضات وصلت إلى هذه النهاية وهي مازالت في البداية. لذا فقد سارع الأمريكان من جانبهم في التأكيد أن المفاوضات لم تصل إلى الطريق المسدود. كما وصحح السيد هوشيار زيباري، وزير الخارجية العراقي، ما قاله رئيس الوزراء عندما أوضح فيما بعد في مقابلة مع وكالة رويترز للأنباء يوم الجمعة 13/6/2008، "بأنه من السابق لأوانه جدا القول بأن المحادثات التي تواجه صعوبة مع الولايات المتحدة بشأن إبرام اتفاق أمني طويل الأجل قد وصلت لطريق مسدود، وان بغداد ملتزمة بالتوصل لاتفاق. وانه على الرغم من الصعوبات بشأن "القضايا القانونية والفنية الدقيقة جدا.. فعلى حد علمي فان رئيس الوزراء والحكومة ملتزمان بمواصلة هذه المحادثات للتوصل إلى اتفاق نهائي." ومسألة تشدد كل طرف طبيعية عندما تكون المباحثات مازالت في أول الطريق لعقد معاهدة استراتيجية وبهذه الأهمية بين دولتين، مع الحساسية المفرطة حول السيادة الوطنية والحرص عليها لدى الجانب العراقي. إذ من المعروف في هذه الحالة، أن كل طرف من المتفاوضين يحاول أن يحقق أكبر قدر ممكن من المنافع والامتيازات على حساب الطرف الآخر، بحيث يبدأ المفاوض في المراحل الأولى بمطالب صعبة لا يمكن أن يقبلها الطرف الآخر. ولكن باستمرار المفاوضات، واعتماداً على خبرة ودهاء ومرونة المتفاوضين وحسن نواياهم، يحصل التفاهم وتبدأ التنازلات والتقارب إلى أن يتوصل الفريقان إلى منتصف الطريق، فيحصل كل طرف على ما يريده ليخدم الجميع في نهاية المطاف. وهذا ما يسمى بالحل الوسط أو التسوية (compromise).
فالعراق لا يمكنه، أن يستغني عن الدعم الأمريكي وهو يمر بمرحلة تاريخية عصيبة حيث تكالب عليه الأعداء في الداخل والخارج ومن كل حدب وصوب. إذ كما قال الأستاذ عبدالرحمن الراشد في (الشرق الأوسط) يوم 12/6/2008: "العراق يحتاج الى استقرار، ولا توجد صيغة أخرى تضمن سلامته من التقاتل الداخلي بدون الحضور الأميركي، وهذا قول يردده معظم الاطراف الرئيسية؛ بما فيها المعارضة. أيضا لا يمكن الاستهانة بالخطر الإيراني الذي يحدق، أو كما يقول العراقيون «يباوع»، في هذا الجار الغني المهم، كصقر يحوم فوق فريسته ينتظر لحظة الانقضاض المناسبة. العراق في الحالتين في ورطة؛ حماية مجهولة العواقب وانسحاب يعرض البلاد للتمزق..."
لا شك إن إيران وحليفتها سوريا، تشكلان أكبر مصدر خطر على العراق، لذلك نراهما أكثر معارضة وأعلىَ ضجيجاً ضد توقيع الاتفاقية، وذلك خوفاً من إقامة قواعد عسكرية في العراق واستخدامها لضربهما، رغم ما أكده المسؤولون الأمريكان بمن فيهم الرئيس بوش، في مؤتمر صحفي عقده مع المستشارة الألمانية انغيلا ميركل إثناء زيارته لبرلين قائلاً: أن "الولايات المتحدة لا تخطط لإيجاد قواعد دائمة لها في العراق وأن الاتفاقية لم تشمل قواعد دائمة أو إبقاء مستوى القوات على ما هو عليه". كما وصرح النائب الكردي المستقل، الدكتور محمود عثمان الذي حصل على معلومات من بعض المفاوضين، أن الأمريكان غيروا مواقفهم من أربعة أمور رئيسية: المقاولون الأمريكان في العراق لن يتمتعوا بأية حصانة قانونية، والمعتقلون من قبل الأمريكان يحالون إلى المحاكم العراقية، والقوات الأمريكية يمارسون نشاطاتهم فقط بموافقة الحكومة العراقية. وأخيراً تتعهد أمريكا بعدم استخدام العراق لضرب أي بلد آخر. (AP. June 11, 2008). ونستنتج من كل ما تقدم، أن معظم النقاط التي يتخوف منها المعارضون للاتفاقية بأنها تسيء إلى السيادة الوطنية، قد أزيحت عن الطريق، ولم تعد موجودة. موضوعة السيادة الوطنية بالطبع ليس هناك أي عراقي مخلص لبلاده وشعبه، لا يحرص على السيادة الوطنية، ولكن علينا أن نعرف ما هو مفهوم السيادة الوطنية دون تركه فكرة هلامية غامضة. ففي هذه الحالة، يمكن تفسير أية معاهدة أو اتفاقية مع أية دولة على أنها تسيء إلى السيادة الوطنية، يعتمد على موقف الشخص من هذه الاتفاقية. ففي بريطانيا مثلاً، يعتبر حزب المحافظين المعارض، ميثاق لشبونة لتنظيم العلاقة بين أعضاء الوحدة الأوربية، مخلاً بالسيادة الوطنية، بينما لا يرى الحزبان الآخران، العمال والليبرالي الديمقراطي ذلك... وهكذا مع الاتفاقيات والتحالفات الدولية الأخرى. كذلك فإن مفهوم السيادة الوطنية يتغير مع الزمن خاصة في ظل العولمة التي جعلت العالم قرية كونية صغيرة. فمع الزمن بدأت المصالح الاقتصادية والأمنية تنال الصدارة والأهمية على حساب السيادة الوطنية بمفهومها القديم.
وفي حالتنا العراقية، الملاحظ أن معظم الرافضين للمعاهدة الاستراتيجية المزمع عقدها بين العراق وأمريكا، رفضوها منذ الوهلة الأولى لمجرد سماعهم بها، حيث بدؤوا حملة جمع التواقيع عبر البريد الإلكتروني والانترنت احتجاجاً ضدها. بالطبع تعكز هؤلاء على (السيادة الوطنية، والاستقلال الوطني وكرامة الشعب..الخ). هناك عدة أسئلة جديرة بالطرح. هل حقاً تشكل الاتفاقية خطراً على السيادة الوطنية هذه؟ وهل هناك دولة، مهما بلغت من استقلالية وقوة وعظمة، تتمتع اليوم مائة بالمائة بالسيادة الوطنية دون الاعتماد على دول أخرى وفق المصالح المشتركة؟ وكيف عاش العراقيون في ظل السيادة الوطنية المزعومة في عهد حكم البعث الصدامي؟
ففي ظل تلك السيادة الوطنية العراقية في عهد صدام كان الشعب العراقي محروماً من ثرواته منذ عام 1990 إلى 2003، حيث كانت واردات نفطه تحت تصرف الأمم المتحدة، والشعب يعاني من الفقر المدقع رغم أن بلاده كانت عائمة على بحر من النفط. وفي ظل تلك السيادة الوطنية أحال النظام البعثي أرض العراق إلى أكبر مقبرة جماعية، وأكبر سجن لشعبه، حيث قتل منهم نحو مليونين في حروبه الخارجية والداخلية، مثل الأنفال وحلبجة، إضافة إلى الملايين من الأرامل والأيتام والمعوقين، وتشريده خمسة ملايين من العراقيين إلى الشتات. فهل حقاً كان العراقيون يتمتعون بسيادة وطنية كاملة، أم كان وطنهم مقبرة جماعية للأحياء منهم والأموات على حد سواء؟ وفي هذه الحالة البائسة، ما قيمة هذه السيادة إن وجدت للمواطن؟
ومما يجدر ذكره أن في عصر تشابك وتداخل مصالح الشعوب الاقتصادية والعلاقات الدولية والشركات عابرة القارات وفوق القومية، ليس بإمكان أية دولة الاستغناء عن دخولها في معاهدات دولية مع دولة أو دول أخرى في سبيل المصالح. فعلى سبيل المثال لا الحصر، هناك 27 دولة أوربية تخلت عن الكثير من سيادتها الوطنية، وانضمت إلى الوحدة الأوربية لأنها وجدت بالتخلي عن جزء من سيادتها الوطنية تحقيق مصالح اقتصادية وأمنية أكثر لشعوبها. وهذه تركيا وصربيا وغيرهما من دول أوربا الشرقية، تتوسل بالانضمام لهذه الوحدة. ولحد الآن تخلت 12 دولة من أعضاء الاتحاد الأوربي عن عملتها التي هي رمز سيادتها الوطنية ودولتها القومية، وتبنت اليورو كعملة موحدة لهذه الدول. وأنا واثق أن في نهاية المطاف لا بد وأن تتخلى جميع دول الوحدة الأوربية عن عملتها الوطنية وتتبنى اليورو. فعن أية سيادة نتحدث بعد كل هذا؟
متى انتهِكَتْ السيادة الوطنية؟ كتب أحد القراء المعارضين للاتفاقية في موقع (آفاق) تعقيباً في ذيل مقالي المشار إليه أعلاه، أدعى أن الأمريكان ينتهكون السيادة العراقية قائلاً أن " المارينز يدوسون رقاب العراقيين". وجوابي على هذا القول هو: نعم قد تحصل تجاوزات بين حين وآخر من قبل بعض الجنود الأمريكان ضد العراقيين، ولكن نسبة هؤلاء قليلة جداً، ويعاقبون بشدة بفضحهم من قبل الأمريكان أنفسهم، وتقديمهم للمحاكم العسكرية الأمريكية، بينما الغالبية العظمى من الجيش الأمريكي في علاقات طبيعية بناءة مع الشعب العراقي، يخوضون حرباً ضروساً ضد الإرهاب دفاعاً عن سلامة العراقيين وأمنهم.
كما وأذكِّر الأخ القارئ، أن كرامة الجندي العراقي كانت مهانة والسيادة العراقية منتهكة في عهد حكم البعث أكثر من أي وقت آخر في تاريخ العراق، فقد أهينت كرامة العراقي بفظاعة في عهد "القائد الضرورة" صدام حسين، في حرب تحرير الكويت من احتلاله الغاشم، عندما ركع الجندي العراقي على بسطال (جزمة) الجندي الأمريكي في الصحراء السعودية، وهو في حالة يرثى لها من عذاب وذل وهوان، متوسلاً إليه: "خلصنا الله يخلصك". لا أعتقد أن هناك إنساناً على الأرض لم يشاهد على شاشات التلفاز تلك اللقطة المهينة للجيش العراقي والشعب العراقي في ظل "السيادة الوطنية" المزعومة تحت حكم النظام الغاشم.
نعم جاء الجنود الأمريكان فخلَّصوا هذا الجندي والشعب العراقي من ظلم وجور الفاشية التي يتباكى عليها الآن أيتام البعث وغيرهم. فعن أية كرامة وسيادة وطنية تتحدثون أيها السادة؟ فباسم دعم "المقاومة الوطنية"، يبعث الأشقاء العرب الإرهابيين لقتل العراقيين بالجملة بحجة مقاومة الاحتلال. وباسم الوطنية تم تدمير المؤسسات الاقتصادية والبنى التحتية للعراق. كل هذه الجرائم ترتكب اليوم باسم الوطنية. حقاً ما قاله صموئيل جونسون: "الوطنية هي آخر ملاذ للأوغاد". وليت التهييج ضد قوات التحالف التي حررت العراق توقف عند أيتام البعث والشرائح المضلَّلة من المجتمع، بل تجاوز الأمر ليشمل بعض المثقفين أيضاً مع الأسف. فقد نشر قبل أيام مثقف عراقي كنا نتوخى منه الحكمة، مقالا مطولاً عما تركه حزب البعث من آثار مدمرة على الشعب العراقي ومن ردة حضارية وتخلف وإحياء الطائفية والقبلية...الخ، من منظور علم الاجتماع، وهو تأكيد لِما نشرته قبل عامين في سلسلة مقالات تحت عنوان (الخراب البشري في العراق). ولكن المؤسف وأقولها بألم، أن باحثنا هذا هو نفسه لم يسلم من هذا الخراب، إذ ألقى تبعية هذا الخراب على من سعوا لإنقاذ الشعب العراقي من الفاشية البعثية، والذي باعتراف الكثيرين من المثقفين العراقيين والأجانب، أنه لولا أمريكا لبقي النظام البعثي جاثماً على صدور العراقيين إلى مستقبل غير منظور. ورغم كل ذلك لم يتورع الكاتب في وصف تحرير العراق بـ "الاحتلال الأمريكي الغاشم" وإلقاء اللوم عليه في هذه الردة الحضارية. هذا الكلام مناف للحقيقة ولا يليق بمثقف حريص على مصلحة شعبه. يقول برتولد بريخت: "من لا يعرف الحقيقة فهو جاهل .. أما الذي يعرفها ويكذّبها فهو مجرم".
من الذي ينتهك السيادة الوطنية العراقية؟ منذ سقوط النظام البعثي الفاشي عام 2003، ساهمت بعض دول الجوار، وبالأخص إيران وسوريا والمملكة العربية السعودية، على إفشال العملية السياسية في العراق وذلك لإبقاء العراق ضعيفاً وتحت رحمة تلك الدول. وساهم حكام هذه الدول باستمرار في إرسال الإرهابيين، ودعم ما يسمى بالمقاومة الوطنية ضد الاحتلال، وبمختلف الأشكال رغم ادعائهم أنهم حريصون على مساعدة العراق في تحقيق أمنه واستقراره. فإيران من أكثر دول الجوار تدخلاً بالشأن العراقي وانتهاكاً للسيادة العراقية، ودورها بات مكشوفاً في دعم المليشيات الطائفية، الشيعية منها مثل جيش المهدي الإرهابي، والسنية الوهابية من أتباع القاعدة.
وقد لاحظنا التدخل الإيراني الفظ بكل صراحة ووقاحة وصلافة إثناء اللقاء الذي تم بين رئيس الوزراء العراقي السيد نوري المالكي مع المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية السيد علي خامنئي، عندما قال الأخير وعلى شكل أوامر من (ولّي الفقيه)، أن "على العراقيين عدم توقيع أي اتفاقية مع أمريكا، وأن جميع مشاكل العراق ناتجة عن الوجود الأمريكي فيه." أليس هذا تدخلاً فظاً في الشأن العراقي، وانتهاكاً لسيادته الوطنية؟ لقد تعامل خامنئي مع العراق وكأنه تابع لحكم ولاية الفقيه.
ولكن لحسن حظ العراق أن رئيس وزرائهم وقف موقفاً صلباً إزاء من يريد أن يفرض إرادته الغاشمة على العراقيين، إذ كما نقل لنا السيد صالح القلاب في مقال له في صحيفة (الشرق الأوسط، يوم 12/6/2008): "حسب المعلومات، وهي معلومات مؤكدة، فإن المالكي لم يكن سهلاً ولا متساهلاً مع المسؤولين الإيرانيين الذين التقاهم وعلى رأسهم السيد خامنئي نفسه الذي اعتاد ان تُطَأْطأ له الرؤوس فهو، وفقاً لهذه المعلومات، قال إنه لا يقبل ان يزايد أحدٌ على وطنية العراقيين ولا على تمسكهم بحسن الجوار مع الدول المجاورة لبلادهم، كما أنهم لا يمكن ان يسمحوا بأن يتحول العراق الى مصدر للأذى لهؤلاء الجوار ولا إلى مُنطلق عمليات عسكرية ضدهم."
بينما نجد الأمريكان وعلى النقيض من الموقف الإيراني، يؤكدون باستمرار، أنهم حريصون كل الحرص على السيادة الوطنية العراقية. وفي هذا الخصوص وكما جاء في صحيفة واشنطون بوست، نقلاً عن الأسّوشيتد بريس، تصريحات كررها السفير ديفيد ساترفيلد، وهو كبير منسقي سياسة العراق في وزارة الخارجية الأمريكية، في مؤتمر صحفي عقده في بغداد قبل أيام، قوله: "أن هدف الولايات المتحدة الأمريكية هو دعم استقلال العراق، ونريد أن نرى السيادة العراقية أن تقوى أكثر ولا تضعف" (AP. June 11, 2008) .
الصدر مخلب القط الإيراني في العراق دليل آخر على الدور الإيراني في زعزعة الأمن في العراق وانتهاكه لسيادته الوطنية هو النشاطات التخريبية لجيش المهدي الذي يقوده مقتدى الصدر، والمختبئ في مدينة (قم) الإيرانية الآن. فالمعروف عن جيش المهدي أنه المخلب الإيراني في العراق مثل حزب الله في لبنان. فبعد أن توالت على جيش المهدي الضربات في عملية (صولة الفرسان) فر قائده مقتدى إلى أسياده في إيران بحجة الدراسة. ومن هناك طلب من مليشياته وقف نشاطاتهم، "حقناً للدماء" كما ادعى. ولكن ما أن طرحت قضية الاتفاقية الأمنية، وأعلنت إيران رفضها العنيف لها، أمر السيد مقتدى أتباعه بالخروج في مظاهرات بعد صلاة كل جمعة احتجاجاً على الاتفاقية. وبعد زيارة المالكي إلى إيران، وعدم إذعانه إلى "أوامر الولي الفقيه" أصدر مقتدى أمراً آخر "بتشكيل مجموعة مسلحة لمحاربة الأمريكيين". "وجاء في بيان وجهه الصدر الى جيش المهدي المجمدة نشاطاته حاليا، إن هذا التشكيل الجديد سيقود حصريا المعركة مع القوات الامريكية." وأضاف: "سنستمر في مقاومة المحتل حتى تحرير العراق او استشهادنا." وأن "التشكيل الجديد سيكون محترفا والوحيد الذي يحق له حمل السلاح ضد المحتل." لا شك أن هذا القرار هو إيراني مائة بالمائة، والغرض منه خلق المزيد من المشاكل في العراق وإبراز دور النظام الإيراني في التخريب.
ونستنتج من كل ما تقدم، أن لا خوف من أمريكا على استقلال العراق وسيادته الوطنية، بل مصدر الخوف على هذه السيادة هو من أولئك الذين يساهمون في تدمير العراق ويذرفون دموع التماسيح على سيادته الوطنية، وبالأخص إيران.
الوقوع في نفس المطب قال البعض من المعترضين على الإتفاقية، وحتى بعض الأصدقاء الذين يشاركونني الرأي في ضرورتها، أني وقعت في نفس المطب الذي وقع فيه المعارضون، وذلك لأني أيدت الاتفاقية دون الإطلاع على بنودها. وجوابي على هؤلاء الأخوة، وكما شاركني الرأي الأستاذ عبدالمجيد دزئي، في رده على أحد المعقبين في ذيل المقال في آفاق، موضحاً أن الكاتب لم يقف مع اتفاقية لم يقرأ بنودها.. إذ يعرف القاصي والداني بان دول الجوار دون استثناء لا تريد للعراق أن يكون فيه أمن و استقرار، لأنها تعتقد بأن أمن العراق واستقراره يهدد مصالحها القومية والقبلية...الخ."
إضافة إلى ما تفضل به الأستاذ دزه ئي، أود أن أقول أني أيدت الاتفاقية حتى قبل قراءتها بناءً على ما أعرفه من تاريخ أمريكا في عقدها اتفاقيات مماثلة مع اليابان وألمانيا وكوريا الجنوبية وغيرها، حيث لم تفرض أمريكا معاهداتها على تلك الدول بما يسئ إلى استقلالها وسيادتها. وفي جميع الأحوال، كانت الدول تلك هي المستفيدة أكثر.
كما واعترضَ بعض الكتاب على تشبيه العراق بألمانيا واليابان، وادعوا أن الأخيرتين كانتا صناعيتين ومتقدمتين حضارياً، بينما العراق بلد متخلف وشعبه يعاني من تركة ثقيلة في التخلف والردة الحضارية، بحيث ما كان مفيداً لألمانيا واليابان لم يعد كذلك للعراق.
في الحقيقة إن الخصوصية العراقية هذه (التخلف والتمزق وتكالب الأعداء) تجعل الاتفاقية أشد ضرورة وأكثر نفعاً للعراق. لأن في هذه الحالة، العراق ضعيف عسكرياً، ومحاط بالأعداء، وشعبه يعاني من التمزق والإرهاب، وقد بدأ في بناء دولته الحديثة من المربع الأول. لذلك فهو أكثر حاجة إلى دعم دولة ضامنة، متقدمة وقوية وغنية مثل الدولة العظمى أمريكا، لمساعدته في بناء دولته الحديثة وحمايته من الأعداء.
فكما قال الصديق (آ.م) في رسالة شخصية بعثها لي، أن معظم المطالبين برحيل القوات الدولية من العراق ومعارضي الاتفاقية هدفهم واحد وهو ما أن ترحل هذه القوات حتى ويستعيدوا تجمعاتهم المسلحة ويعودوا إلى عادتهم القديمة في الانقلابات العسكرية ضد الحكومة المنتخبة وإجهاض الديمقراطية. فبهذه الوسائل التآمرية الانقلابية أحكم البعثيون قبضتهم على رقاب الشعب العراقي منذ انقلابهم الأسود في شباط 1963 إلى 2003.
على أية حال، ومهما كانت الاتفاقية في مراحلها الأولية من المفاوضات، أعتقد أن في نهاية المطاف، لا بد وأن تتغلب العقلانية وتتوصل الأطراف المفاوضة إلى صيغة تخدم مصالح الجميع. فكما بينت مراراً وتكراراً، أن العراق مازال يمر في مرحلة بناء الدول الديمقراطية الحديثة، ويمتلك المصادر البشرية والثروات الطبيعية، لكنه مازال في مراحل التكوين، إذ لم ينته بعد من بناء مؤسساته الأمنية وقواته المسلحة، وهو محاط بالأعداء الذين يتربصون به الشر. لذلك أعتقد أن العراق لا يستغني عن هذه الاتفاقية وهو يمر في هذه المرحلة الصعبة من تاريخه.
منافع الاتفاقية للعراق سيجني العراق من الاتفاقية الفوائد التالية: 1- الحصول على المساعدات الأمريكية في بناء مؤسسات الدولة على أسس حضارية حديثة، وبالأخص قواته المسلحة وتدريبها بالأساليب العسكرية الحديثة، وتربيتها وفق قيم حضارية تحترم فيها الحكم الديمقراطي والدولة المدنية والالتزام بالانضباط العسكري، وتخليصه من هيمنة العسكر وعادة الانقلابات العسكرية وعدم الاستقرار. 2- مساعدة العراق على إعفائه من ديونه التي تبلغ عشرات المليارات الدولارات التي ورثها من العهد البعثي الساقط. كما ويمكن مساعدة العراق على إسقاط التعويضات البالغة مئات المليارات، 3- إنهاء العقوبات الدولية بموجب البند السابع من قرارات الأمم المتحدة، التي جرها النظام السابق على الشعب العراقي، 4- هناك تكالب مسعور على العراق من بعض دول الجوار، ويمكن أن يقع عليه العدوان الخارجي في أي وقت، لذا من الضروري أن يرتبط العراق باتفاقية استراتيجية أمنية مع أمريكا. 5- الاتفاقية تشمل مجالات واسعة وعديدة، مثل المجال الاقتصادي والثقافي والتعليم الجامعي. فالتعليم في العراق هبط في عهد حكم البعث إلى مستويات كارثية، بحيث صار مستوى التعليم الجامعي دون مستوى التعليم الثانوي في الدول الغربية. وكبداية، تم فتح جامعة أمريكية في السليمانية، يكون التعليم فيها على غرار التعليم في أمريكا. وإذا ما استقر الوضع في العراق، فهناك احتمال فتح جامعات أمريكية أخرى في المحافظات العراقية الأخرى.
لاشك أن هناك فوائد كثيرة أخرى يجنيها العراق من هذه الاتفاقية ودون المساس بسيادته الوطنية، لذلك فمن مصلحة الشعب العراقي عدم ضياع الفرصة كما أضاعوا فرصاً مماثلة في النصف الأول من القرن العشرين، عندما فهموا الوطنية أنها تعني العداء للغرب وبالأخص لبريطانيا، واليوم لأمريكا. لقد دفع الشعب العراقي ثمناً باهظاً لهذه الذهنية المدمرة. فالعراق بحاجة إلى الأمن والاستقرار والإعمار، ولا يمكنه تحقيق ذلك لوحده بدون دعم الدولة العظمى.
#عبدالخالق_حسين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الاتفاقية العراقية-الأمريكية، ضرر أم ضرورة؟
-
حكومة المالكي و -ربَّ ضارة نافعة- !!
-
على هامش مؤتمر العهد الدولي الثاني
-
هل كان نوري السعيد خائناً ؟
-
حزب الله على خُطىَ حماس في الإثم والعدوان
-
دور الانفجار السكاني في حروب الإبادة (2-2)
-
دور الانفجار السكاني في حروب الإبادة (1-2)
-
هل حقاً فشل المالكي في حربه على المليشيات؟
-
صعود وسقوط جيش المهدي
-
التيار الصدري يعيد لعبة عمرو بن العاص برفع المصاحف
-
عملية -صولة الفرسان- اختبار للمالكي والجيش العراقي
-
في الذكرى الخامسة للحرب على الفاشية في العراق
-
مقتل المطران رحو شهادة أخرى على خسة -المقاومة- ومؤيديها
-
الدفاع عن وفاء سلطان هو دفاع عن حرية التعبير
-
من المسؤول عن التوغل التركي في العراق؟
-
العراق والانتخابات الأمريكية.. حوار مع الدكتور كاظم حبيب
-
حتى الزهور محاربة في السعودية
-
لو نجح أوباما؟
-
دور قانون رقم 80 في اغتيال ثورة 14 تموز العراقية
-
من هم المجانين في تفجيرات الأسواق الشعبية؟
المزيد.....
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|