كان كما الحلم المزعج بالنسبة للبعض الذي كان منحازا للنظام المقبور، أو يتقاضى منه، فيسرف بعدائه للشعب العراقي، وخصوصا تلك الفضائيات المأجورة كالعربية والجزيرة، حين استفاقوا يوم الجمعة الماضي على مظاهرات البصرة التي مزقت سماء الصمت، حيث فاق عدد المتظاهرين فيها على مائة ألف إنسان، منظمة تنظيما رائعا وفيها من المشاركة ما يمثل كل أطياف الشعب العراقي، حيث كانت كاستجابة للمرجعية الدينية في النجف، ساروا في المظاهرة ومازالوا يطلقون هتاف السلام والحياد ويدعون لانتخابات شرعية، لتضع العصى الغليظة في عجلة مشروع نقل السلطة للعراقيين وتقلب كل موازين وحسابات الإدارة الأمريكية في واشنطن، فحمل بريمر أوراقه مغادرا بغداد إلى هناك، بعد أن تلقى أبلغ رسالة له منذ أن تسلم الإدارة في بغداد ولحد الآن.
كان البعض يعتقد، خاطئا إن الشيعة خاملون ولا موقف لهم، وقد سألني البعض، ممن غررت بهم الفضائيات المغرضة كالجزيرة والعربية، لم لا يتخذ الشيعة لهم موقفا واضحا من الاحتلال؟ بعد أم وصفهم بالخنوع متحاشيا وصفهم بالعمالة كما يفعل غيره، ربما كان ذلك تحاشيا للتصادم معي بشكل مباشر، كونه يعرف من أكون، وقتها لم يتلقى مني سوى جوابا واحدا وبسيطا، أن كيف يقاتل الإنسان ضد مصلحته، والأمر برمته يسير لصالحهم. نفس الشخص، ومن خلال دهشته وحالة الذهول التي هو بها، يسألني عما حصل، وما الذي تغير ليخرج كل هذا العدد في مظاهرة واحدة عالية التنظيم؟ وفي مدينة واحدة فقط، ليست العاصمة أو النجف حيث مقر المرجعية الدينية؟
حاولت الفضائيات المأجورة أن تكتم الخبر بما أوتيت من قوة ووسائل لإخفاء الحقائق وتزيفها، ولكنها لم تستطع، ولكن تعاملت مع الأمر ببرود، في حين كانت هذه الفضائيات تتحمس لمظاهرة من بضعة أطفال مدفوعين لأغراض دنيئة، وتعيد المشهد على أبصارنا ومسامعنا ألف مرة في اليوم الواحد وبحماس بالغ، تشعر وكأن العراق قد قلبت أركانه الأربعة.
لم نكن وحدنا من رصد التحركات العربية التي سبقت وضع آلية نقل السلطة للعراقيين وما كانت تحمل حقائبهم الدبلوماسية من مشاريع كارثية ذات بعد طائفي، وذلك بعد أن تباكى قتلة الشعب العراقي من فلول البعث ومجرمي النظام المقبور، بحجة إن السنة العراقيين مغيبون عن السلطة ويطالبون بدور أوسع من حجمهم كونهم قد حكموا الشعب العراقي على مدى أربعمائة عام متواصلة، على حد تعبير مساعد وزير الخارجية الأمريكي، أرميتاج، والذي كان قد استعار هذا التعبير من الرئيس المصري، عراب الطائفية العربية. لم نكن وحدنا من رصد هذه التحركات المشبوهة، بل المكشوفة جدا، لا بل الأكثر وضوحا من الشمس في سماء الخليج، فإن هذا المشروع المريض كان يروج له في العلن وتبناه كل أحبة الولايات المتحدة في المنطقة من دول الجوار والأبعد من الجوار، وما أعلنه أرميتاج في مصر، من أنه متفهما لموقف الدول العربية، وإنه سيعرض هذا المطلب على إدارته حالما يصل إلى واشنطن.
بالرغم من أن الإدارة الأمريكية تعمل جاهدة على إنجاح مشروعها ببناء نظام ديمقراطي في العراق، إلا إنها مهتمة أيضا بإرضاء الأصدقاء على حساب الشيعة، طبعا، حيث إنهم مسالمون ولم يتحركوا لحد الآن ويبدوا أنهم خاملون، وينسون، بل يتناسون، من أن الشيعة قد ملئت بهم الأرض مقابر جماعية، وما كان هذا إلا رد فعل لما فعله الشيعة حين انتفضوا بوجه الحاكم الظالم مرات ومرات. وربما كانت الإدارة الأمريكية تتصور إن الشعب العراقي مغفلا وسيقبل بما سيقدم له بعد أن لاقى ما لاقى من الذل والهوان على مدى أربعمائة عام من التهميش والتعسف والقتل والمقابر الجماعية والمجازر التي كانت تحرق الأخضر واليابس، ولكن المظاهرات قد أوصلت الرسالة البليغة لكل من كان يعتقد، أو يحاول أن يخدع نفسه من هؤلاء ما هم إلا رعاع سيقبلون بأي شيء ومهما كان شكله، فإنه سيكون أكثر مما كانوا يتصورون أن يحصلوا عليه.
ربما لا يروق هذا التحرك للولايات المتحدة، خصوصا وإن الذي يقوده آية الله السيستاني، رجل الدين الشيعي الذي ربما سيكون سببا بأن يمهد الطريق لحكم رجال الدين في العراق وإقامة حكومة على غرار إيران، حكومة الفقيه الوالي والتي ترفضها الإدارة الأمريكية وتتوجس خيفة من أن يكون هناك مثالا آخر لإيران في المنطقة.
ربما لنا في انتفاضة ال 91 ، أو يسمى بالانتفاضة الشعبانية دروسا لن ينساها الشعب العراقي أبدا، ففي اليوم الأول للانتفاضة التي كانت تخلو تماما من العنصر الديني، أو أي عنصر سياسي آخر، كانت السي أن أن تروج لها وتدعوا الشعب بالانضمام لهذه الانتفاضة المباركة وكانت تتابع مجرياتها دقيقة بدقيقة، ولكن بعد ثلاثة أيام، وفجأة، وبدون سابق إنذار، انقطعت السي أن أن من نقل التطورات على الساحة العراقية، وذلك بعد أن تأكد لها إن العناصر الإيرانية، أو ذات الولاء الإيراني، قد اتخذت لها مواقع في قيادات المجالس الشعبية في المدن التي عمتها الانتفاضة وهي مدن أربعة عشر محافظة وثلثي بغداد العاصمة، وقد حسم الأمر لها، وسقط النظام موضوعيا، وتهيأ أقطاب النظام للهروب وعلى رأسهم صدام ذات نفسه، وذلك بعد أن هرب أموالا لا تعد ولا تحصى والذهب على متن ثلاثة طائرات جمبو ومعها ابنه قصي الذي عينه سفيرا في كوبا.
وهكذا بدأ التعتيم الإعلامي على مجريات الأمور في العراق بشكل كامل، حيث تم لهم، وبسرعة إعادة لم شمل عناصر الحرس الجمهوري، بعد أن كان قد تشتت، وجمع الكثير من أسلحته، ويقول شهود عيان، إن أول الطائرات التي دكت متاريس الخط الأول لتحصينات المنتفضين، كانت طائرات الأباتشي، وذلك قبل أن تعطي أمريكا الحق لصدام باستخدام طائراته السمتية لضرب تحصينات الانتفاضة، واستمرت السمتيات بالعمل وقتل العراقيين حتى سقوط النظام مرة أخرى على أيدي الأمريكان قبل عدة أشهر.
من خلال ما تقدم يمكننا أن نقرأ الدرس الأول، والذي أعتبره الأخير أيضا، هو إن الأمريكان ما كانوا سيعملوا على إجهاض الانتفاضة لو لم يتدخل العنصر الإيراني فيها والذي يسعى لإقامة الدولة الإسلامية على أساس من مبدأ ولاية الفقيه، هذا الدرس كاف جدا، لكي يجعلنا نتخوف نحن أيضا من إن الأهداف للمرجعية في النجف من إقامة انتخابات مبكرة في العراق، هو أسلوب لمصادرة السلطة من الشعب، وذلك من خلال انتخاب رجال الدين فقط، ليتولوا أمور البلد.
ففي ضل الفراغ السياسي الذي تركه الدكتاتور، بعد أن صفى كل الأحزاب العراقية ، وخصوصا العلمانية منها، فلم يترك سوى شيء واحدا عصيا على التصفية وهو الدين، فالمرجعية الدينية، الآن هي المرجعية الوحيدة في الشارع العراقي القادرة على تحريك الشارع، وبالمقابل يجدها الشارع هي المرجع الأوحد الذي لا منازع له على الإطلاق، فالمخاوف الأمريكية من أن تكون تجربة ال 91 ستعود شاخصة من جديد، مشروعة، وهذه الخشية لها مبرراتها الموضوعية، خصوصا بعد عودة رهط من رجال الدين، من المنظرين الكبار لمبدأ ولاية الفقيه، ذلك الرهط من الرجال الذي بقي قابعا في إيران طيلة خمسة وعشرين عاما ينتظر الفرصة المناسبة للانقضاض على السلطة وتحويلها إلى دولة ولاية الفقيه، فليس الأمريكان وحدهم من يتخوف من هذا المسعى، فكل العلمانيين من العراقيين الشيعة، وكذا باقي أطياف الشعب العراقي من أكراد وتركمان وسنة عرب ومسيحيين، كلهم يشاركون الأمريكان هذا التخوف.
إن استغلال الفرصة من قبل رجال الدين لتلك الأسباب الموضوعية التي ذكرناها آنفا، أمر غير مشروع ولا يعكس حقيقة الولاء في الشارع العراقي كنتيجة لهذا الظرف الطارئ المتمثل بالفراغ السياسي المطلق إلا من الدين، واستغلال الدين لتمرير مثل هذه المشاريع الكارثية، هو أمر غير منصف ولا يراعي قواعد الديمقراطية، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى، فإنه سيكون مدعاة لعودة أحداث ال 91 المؤلمة ولكن بسيناريو آخر، أكثر بشاعة، وبالطبع سيكون ذلك على حساب الشيعة مرة أخرى.
فإذا كانت النوايا من وراء المظاهرات الأخيرة هو هذه المخاوف، فعلى رجال الدين أن لا يأخذهم الغرور أكثر من الازم ويغرقوا العراق، كما أسلفنا، في بحار من الدم، وإذا كان القصد من وراء تلك التحركات عدم تهميش الشيعة، وكما عرضنا لها قبل قليل، فالشفافية والصراحة ستمنح المرجعية الشيعية احتراما أعظم ومصداقية أكبر ويخرجها عن دائرة الشكوك والتكهنات التي من ورائها غايات غير مشروعة، فمجرد الصراحة تكفي، لأن الحل سيكون سهلا للغاية، ولكن لو جرى الأمر من دون أن تعلن النوايا الحقيقية، فإن المسألة ستعني بالتأكيد، ومن دون أدنى شك، إن الهدف من وراء القصد هو ولاية الفقيه.
نلاحظ مما تقدم إن الصراحة الشيعية بحقيقة النوايا سيكون من ناحية تأكيدا على رغبتهم بالديمقراطية ألحق، ومن ناحية ثانية، إن مجرد سكوت التيار الذي يقوده آيه الله السيستاني يعني تأكيدا لمخاوف الأطراف الأخرى، وسوف لن يكون له أي نصيب من النجاح، لأن الجميع سيتضامن ضد هذا المشروع، وسينتج عن ذلك بحارا من الدماء، ومن ثم القضاء على آخر فرصة للشيعة، ليس في العراق وحسب، وإنما في كل العالم، وسيبقون مهمشين، ومضطهدين أينما كانوا وعلى مدى القرن الحالي بكامله، حتى لو توفرت فرصة أخرى لإعادة الاعتبار لهم من جديد على يدي بوش، الحفيد العاشر لجورج دبليو بوش.
الانتخابات فعلا هي التي تمنح الشرعية، حتى وإن طعن المتضرر بمدى صحتها وشفافيتها، ولا أحد يستطيع من العراقيين أن يلغيها، ولكن، لو كانت تتعارض والمشروع الأمريكي في العراق، بإقامة نظام ديمقراطي في العراق وليس جمهورية إسلامية على غرار إيران، فإن ذلك سيكون سببا كافيا لإلغائها، وسوف لن يكلف إلغائها الأمريكان شيء على الإطلاق، ولكن المتضرر الوحيد سيكون الشعب، إذ إن فلول النظام جاهزون لأية مساومة لاستعادة السلطة، وعلى استعداد لتقديم أي شيء يطلبه الأمريكان مقابل أن يعيدوهم من جديد لحكم العراق، وسيصطف معهم كل العرب السنة والعلمانيين الشيعة والأكراد والتركمان وكل دول الجوار القريب منها والبعيد. لأن ذلك يعني الكثير بالنسبة لهم، فإذا كان هناك تهميش يشكو منه السنة العرب، فإن دولة ولاية الفقيه سوف لن تعطيهم قيراطا واحدا من السلطة، وإذا كان الأكراد يعتقدون أن لهم حقا بكركوك، فسوف لن يستطيعوا أن يقولوا إن هناك مكانا على الأرض يدعى كردستان، أما التركمان، فستكون العودة للوطن الأم أجدى لهم وأشرف، المسيحيون سيكون لهم شأن آخر، فعليهم الدخول بدين الإسلام، أو أن يجدوا لهم بلدانا أخرى يجب أن تكون بعيدة عن العراق جدا، اما العلمانيون الشيعة والسنة على حد سواء، عليهم أن يجدوا لهم مهجرا أبديا لهم ولذريتهم.
بلا شك سيصطف الجميع مع الأمريكان وستبدأ الرحى تأكل الأبرياء من أبناء العراق، التي يبدوا إنها لم ترتوي لحد الآن من الدماء على ضوء ما يرى منظري ولاية الفقيه الذين عادوا من إيران قبل شهرين وعلى رأسهم المدرسي.
الأحلام المريضة قد تكون السبب بإذلال الشعب، وعلى من يريد للعراق أن يغرق بالدم من جديد أن يستمر بلعبته القاتلة هذه وسيهرب المدرسي ورهط العلماء المنظرين لولاية الفقيه إلى إيران ومن سيموت هو كل الشيعة في العراق.
ببساطة لم تعبر أمريكا كل هذه المحيطات والقارات لكي تقيم ولاية الفقيه في العراق، وهي من يمسك بكل خيوط اللعبة، سواء خيوط الدبلوماسية أو مفاتيح القوة العسكرية.
كفى استهانة بدماء أبناء العراق لخدمة السيد الذي يقبع في إيران، لقد سئمنا ونريد أن نعيش بسلام.
كل قطرة دم جديدة ستراق على أرض العراق سيحمل ذنبها عند الله الشيخ السيستاني قبل غيره، فهو ليس غظ غرير لكي يخدعه رهط من المرضى العائدين من إيران ويحملون تحت عمائمهم مشاريع الدم والذل.