خالد كاظم أبو دوح
أستاذ جامعي
(Khaled Kazem Aboudouh)
الحوار المتمدن-العدد: 2314 - 2008 / 6 / 16 - 10:52
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
لقد تم إحياء الحوارات والمناقشات العلمية حول مفهوم المجال العام Public Sphere منذ أن قام "هابرماس" Habermas بنشر كتابه التحول البنائى للمجال العام "Structural Transformation of the Public Sphere " وذلك عام 1989م، وكان قد سبق نشر هذا الكتاب باللغة الألمانية عام 1961م، ولكن ذيوع المفهوم وانتشاره ارتبط بالترجمة الإنجليزية التي صدرت عام 1989م(1).
ويحدد "هابرماس" مفهوم المجال من خلال مجموعة متنوعة من الطرق، حيث يشير إلي أن المجال العام يظهر إلي الوجود من خلال كل حوار يتجمع فيه الأفراد الخصوصيين لتشكيل هيئة عامة دون اعتبار للفروق الاجتماعية التي تكون بينهم(2). ويمكن من خلال قراءة رؤية هابرماس للمجال العام أن نستخلص عدداً من السمات التي حددها، وذلك على النحو التالي :
-المجال العام حيز من حياتنا الاجتماعية، يمكن من خلاله أن يتم تشكيل ما يقترب من الرأي العام.
-المجال العام ينشأ من ناس خصوصيين، يجتمعون معاً كجمهور ليتناولوا احتياجات المجتمع من الدولة.
-المجال العام هو مجموعة أشخاص يستفيدون من عقلانيتهم وتفكيرهم في مناقشة المسائل العامة.
ولقد كان هدف "هابرماس" من استخدام مفهوم المجال العام، الذي هو من اختراع الفيلسوف الألماني " كانط "، هو توصيف الواقع الذي شهدته بعض المجتمعات الأوربية، وهذا ما يؤكده "هابرماس" نفسه، حينما أشار إلي أن جذور المجال العام ترجع إلي العديد من المؤسسات الاجتماعية في المجتمع الأوربي خلال فترة القرن الثامن عشر، ففي إنجلترا ظهر في المجلات والصحف والمقاهي، وفي فرنسا ظهر في الصالونات الباريسية بعد منتصف القرن، وفي ألمانيا احتل شكلاً متواضعاً في نوادي القراءة، ولقد تطور هذا المجال العام بعد منتصف القرن الثامن عشر ليناقش الأمور والقضايا السياسية التي كانت في الماضي أمور خاصة بالدولة، وبإدخال القضايا السياسية في دائرة الحوار النقدي وقف المجال العام ضد الدولة وفي مواجهتها، ولكونه مجال المنطق والعقل – الحيز الوحيد للمناقشة والقرار الذي لا يفسده تفاوتات القوة الاجتماعية والسياسية – فإنه عكس سلطة كان على الدولة إدراكها. ولقد كانت النتيجة التاريخية للحوارات النقدية التي تضمنها المجال العام، الدخول إلي الديمقراطية النيابية ومع تحقق ذلك استطاع المواطنون أن يكونوا خارج الدولة كناقدين ومراقبين لها، وداخل الدولة في شكل النواب التشريعيين(3).
ولقد تعرضت رؤية هابرماس حول المجال العام إلي العديد من الانتقادات، فلقد انتقدها البعض، وأشار إلي أنها تنطبق على فترات بعينها في التاريخ الأوربي، تلك التي كانت قبل أواخر القرن الثامن عشر، وهذا بدوره جعل من تصور هابرماس للمجال العام يمتاز بأنه ضيق للغاية(4). ويدلل أصحاب هذه الرؤية على ما يذهبوا إليه من خلال تأكيدهم على أن تطور النظام الرأسمالي قد كشف عن العديد من المشكلات التي ترتبط برؤية هابرماس للمجال العام، فمن الملاحظ أن نمو الرأسمالية قد صاحبه العديد من المشكلات والتناقضات الاقتصادية، وهذه الأخيرة تمثل في حد ذاتها صعوبات أمام نموذج المجال العام، فالبورجوازية التي استخدمت المجال العام كوسيلة للتحرير والتغيير السياسي، تظهر الآن ميلاً إلي تكييف المجال العام مع الظروف المتغيرة من أجل إخفاء التناقضات القائمة بين مصالحها الخاصة ومصالح المجتمع العام، أضف لذلك أنه بمجرد ظهور التناقضات الاجتماعية داخل المجال العام، فإن الحوار يفقد سمة المناقشة العقلانية الخالية من السلطة والسيادة، وهنا تظهر عملية اختراق ما بين كل من الدولة والمجتمع وبشكل متزايد، وبالتالي فإن هذا الاختراق يدمر أساس المجال العام الليبرالي(5).
ولقد ذهب إيلى Eley إلي أن المجال العام كمفهوم يحتاج لأن يتم فهمه كوضع بنائي، يتضمن التنافس الثقافي والأيديولوجي، أو التفاوض الثقافي والأيديولوجي بين مجموعة متنوعة من الجماهير، وهذا يتطلب إعادة النظر في فكرة هابرماس عن المجال العام لكي تتضمن جماعات اجتماعية أكثر، وهذا التعديل سوف يسمح بالتأكيد على الصراع الاجتماعي الذي يكون موجود دائماً في المجال العام، أو المجالات المختلفة، ولذلك هناك من وصف المجال العام بأنه
" أرض الجدل والنزاع "، وأنه يتكون من المجالات العامة المتنافسة(6).
ومن خلال انتقادها لرؤية هابرماس حول المجال العام، قدمت "نانسى فريزر" Nancy Fraser نموذجها حول الجماهير المتعددة Multiple Public، والتي تذهب من خلاله إلي أن التفاوت الاجتماعي الموجود في النظم الرأسمالية لا يخلق أبداً مجال عام واحد، ولكن هناك قطاعات أو مجالات جماعية مختلفة ومتنافسة، هذه القطاعات أو المجالات الجماعية تتضمن جماهير مختلفة فيما بينها، نتيجة لميكانزمات التفاوت في السيادة، تلك الميكانزمات الموجودة بشكل عميق داخل المجتمعات الرأسمالية(7). ويقدم " فيلا " Villa في مقاله الذي يحمل عنوان " ما بعد الحداثة والمجال العام "، أهم أوجه النقد التي قدمتها أفكار ما بعد الحداثة للنموذج المعياري للمجال العام كمكان للحوار السياسي والمداولة الحرة، وأول هذه الأوجه ذلك الاعتماد الساذج على شروط التماثل واللاهيراركية Nonhierarchy، بمعنى تجاوز الفروق الاجتماعية القائمة بين الأفراد الذين يشتركون في الحوار والمداولة، وهذا من شأنه توفير فضاء اجتماعي خال من كل صور القسر والقهر(8).
وعلى الرغم من الجدل الذي أثارته رؤية هابرماس للمجال العام، والتي ظهرت في العديد من الأوساط العلمية المختلفة، إلا أنه بدراسته حول التحول البنائي في المجال العام، قدم مفهوماً جديداً داخل العلم الاجتماعي بتخصصاته المختلفة، وهذا ما دفع العديد من الباحثين في علم الاجتماع، والسياسة، والاقتصاد، وغير ذلك نحو الاشتغال بهذا المفهوم الجديد، فلقد عرف "كيمب" Kemp المجال العام بأنه " تلك الساحة من الحياة العامة، والتي يمكن فيها الوصول إلي موافقة عامة على قيم ومعايير تعمل كميكانزمات لحل المشكلات الاجتماعية والسياسية، وهذا ما يؤكده "كين" Keane أيضاً عندما يقرر بأن المجال العام يتضمن تلك الساحات التي فيها يقوم الأعضاء بتناول ما يفعلونه، ويصلون لقرار في كيف سوف يعيشون معاً ويعملون بشكل جماعي خلال المستقبل(9).
ولقد اكتسب مفهوم المجال العام، أهمية كبيرة عندما تم تطبيق الخطاب النظري له على الدين، وذلك بهدف إبعاد الدين عن الدولة، وعن الاقتصاد، وذلك نحو المجال الخاص، والذي يمثل عالم الفرد الخاص به(10). وهذا الذي يعبر عنه "لومان" بخصخصة الدين Privatization of Religion والتي يعتبرها جزء من الخصخصة العامة للحياة الفردية في المجتمعات الحديثة(11).
المراجع والهوامش.
1- Steven Micheal Schneider, Expanding The Public Sphere Through Computer – Mediated Communication, Doctor, Massachusetts Institute of Technology, Canada, 1997, P.17.
2- Jurgen habermas, Public Sphere : An Encyclopedia Article: Translated by Sara Lennox, New German Critique, No. 3, Autumn 1974, P. 49.
3- Harlod mah, Phantasies of the Public Sphere ; Rethinking the Habermas of Historians, the Journal of Modern History, Vol. 72, No. 1, Mar. 2000, P. 157.
ويمكن إيجاز أهم التحولات التي اعتبرها هابرماس مسئولة عن نشأة المجال العام بالصورة التي طرحها هو، على النحو التالي :
-التحول من الأنظمة السياسية والاقتصادية ذات الحكم الفردي المطلق إلي الدولة الرأسمالية.
-تطور الطباعة كأسلوب للاتصال داخل المجتمع.
-نشأة المؤسسات التي تسمح للأفراد في الأنظمة الرأسمالية الجديدة بأن يتقابلوا ويتفاعلوا مع بعضهم البعض.
لمزيد من التفاصيل انظر :
- John Parkins, Forest Management and Advisory Groups in Alberta : An Empirical Critique of on Emergent public Sphere, Canadian Journal of Sociology, Vol. 27, No. 2, Spring 2002, PP. 165-167.
4- Harold mah, Op.Cit., P. 185.
5- Peter Uwe Hohendahl, Marc Silberman, Critical Theory Public Sphere and Culture, Jurgen Habermas and his Critics, New German Critique, No. 16, Winter 1979, P. 93.
6- Harold Mah, Op.Cit., P. 159.
7- Eyal Rabinovitch, Gender and the Public Sphere : Alternative Forms of Integration in Nineteenth – Century America, Sociological Theory, Vol. 19, No. 3, Nov. 2001, P. 345.
8- James Johnson, Public Sphere, Postmodernism and Polemic, The American Political Science Review, Vol. 88, no. 2, Jun 1994, P. 428.
9- Steven Michael, Op. Cit., P. 15.
10- Kenneth L. Draper, Religion Worthy of A Free People, Doctor, McMaster University, Canada, 2000, P.23.
11- Thomas Luekmann, The New and The Old in Religion, in Social Theory For A changing Society Bourdieu and Colman (eds), West View Press, Oxford, 1991, P. 176.
#خالد_كاظم_أبو_دوح (هاشتاغ)
Khaled_Kazem_Aboudouh#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟