أصدرت الإدارة المدنية لقوات الاحتلال قرارها بحل تشكيلات الجيش العراقي دون أن تستشير حلفائها من السياسيين والضباط العراقيين .وبالرغم من الاعتراضات التي قدمها الكثيرون حول خطأ حل الجيش فان الإدارة المدنية للاحتلال تغاضت عن تلك الاعتراضات بموجب أسباب وجيهة عديدة تتركز أهمها في الاعتقاد بأن ذلك الجيش قد بني كقوة قمعية وأن وجوده واستمراره يشكل عوائق حقيقية تجاه سيطرتها على إدارة العراق وإعادة بناءه، وأن انهياره يحتم أبعاده عن لعب أي دور في تقرير مصائر العراق لاحقا.مهدت الإدارة الأمريكية لتفتيت المؤسسة العسكرية العراقية بشكل منظم بدأً من حرب الخليج الأولى عبر اختراق جهاز إداراتها وتحديد مفاصله المؤثرة .وكانت عقود توريد العتاد والسلاح وتبادل المعلومات أثناء الحرب ضد إيران الباب الأول لكسب واستمالة الضباط وتشكيل حلقات تجسس اخترقت جميع صنوف ومفاصل الجيش العراقي.ولم تقتصر مهمة التهشيم تلك على كسب حلقات من الضباط العراقيين وإنما تعدتها الى خطط مدروسة عنيت بالجوانب المؤثرة التي يمكنها عبرها حلحلة معادل القوة ورصيد تلك المؤسسة في الشارع العراقي .وكان أحد مظاهر تلك التوجهات الترويج لضخامة عدد الجيش العراقي وأسلحته الفتاكة .روج لذلك الاعتقاد بشكل مدروس و تدريجي وفق أسس تهويلية بثتها المخابرات المركزية الأمريكية عبر مراحل تمتد الى ما قبل حرب الخليج الأولى.وقد روج ولازال لهذا الاعتقاد بالرغم من أن ذلك الجيش عانى من هزائم منكرة على مدى الأربعة عشر عاما الماضية جعلته يفقد الكثير من بريقه وقوته كرمز لسيادة العراق وعنفوانه. ومع مرور الوقت تم تجريده من الكثير من المعدات والتجهيزات الحديثة التي تجعله مؤهلا لخوض غمار معارك حديثة واختصرت أعداده بشكل واضح.وكانت المعركة الأخيرة لاحتلال العراق ، المعركة الحاسمة التي أنهت ذلك الجيش ووضعته في حجمه الحقيقي الذي بدا عليه. وكانت فعلا معركة الحواسم التي أطلق تسميتها الفاشي صدام، حيث حسمت بهزيمة منكرة للسلطة الفاشية وجيشها المنخور.
يشارك صناع الخبر والكثيرون من محبي التضخيم والتهويل، الإدارة الأمريكية وجهاز مخابراتها في تقديم صورة مهولة عن عديد وعتاد وقوة الجيش العراقي .ومن أجل حشد الحلفاء والمعدات العسكرية المناسبة لردع الجيش العراقي وطرده عن الكويت، ضخت الآلة الإعلامية للبنتاغون معلومات مضخمة وتهويلية عن قدرات الجيش العراقي وأطلقت حملة تضليل وأكاذيب إعلامية روجت لكذبة كبيرة عن أسلحة الدمار الشامل والصواريخ بعيدة المدى التي يمتلكها وأن عدد منتسبيه بلغ المليون .وبذات الاتجاه والغاية ونحو نفس الأهداف قدمت صورة بعبع الجيش العراقي المدجج بالسلاح الفتاك وأعداد الفدائيين والمجاهدين عندما توجهت جيوش التحالف للإطاحة بصدام في منتصف الشهر الثالث من العام الماضي .ولازال البعض يعتقد أن الجيش العراقي الذي حل كان عدده 450 ألف منتسب من (المتطوعين ) وأن قدراته كانت كافية لمقارعة آلة الاحتلال القادمة .الاعتقاد الخاطئ هذا غذته أيضا آلة الدعاية الصدامية كجزء من عملية تهويل القوة لتخويف العدو وإرهابه، ومحاولة لرفع معنويات منهارة كان يعيشها قادة الجيش وجنوده. استمرت وتستمر الكذبة بعد انهيار ذلك الجيش وهزيمة قادته وكبيرهم الفاشي صدام في 9 نيسان .الغرض من ترويج وتهويل العدد هو محاولة استدرار العطف على أعداد العاطلين وإحراج الجهات المسؤولة عن هذا الشأن، والتعتيم على ما حدث للجيش من هزيمة منكرة ومحاولة لتزين صورته المنهارة وضخ الحياة من جديد في تلك الجثة المتيبسة.
أن العدد المذكور يشمل الجنود والضباط المكلفين والاحتياط وأن بطالة أعداد المسرحين من الجيش تكذبه إحصائيات من يستلم منهم الرواتب الشهرية. وتشير جميع المعلومات الى أن أغلب موظفي الدولة ومن ضمنهم أغلب أفراد الجيش المنحل يستلمون رواتبهم دون عقبات تذكر .ولربما أن بعض الهاربين من المطلوبين للعدالة أو ممن كانوا في عداد الجيش الثاني المسمى الجيش الجمهوري والحرس الخاص هم من لا يستطيع استلام راتبه مثلما خصص له أثناء خدمته تحت إمرة الفاشي صدام ولا زال يتظاهر أعداد من هؤلاء طلبا للامتيازات التي فقدوها.
جاء قرار سلطات الاحتلال ممثلة بالحاكم المدني بول بريمر بحل الجيش العراقي مفاجأة للكثيرين ممن تستهويهم صور القوة والجبروت والسطوة والذين ظنوا وما زالوا يعتقدون أن الجيش العراقي كان يمثل المؤسسة الضامنة لبقاء الدولة العراقية بهيكلة سلطتها .وما برح هؤلاء يقفون عند نقطة البداية دون التفكير بجسامة وحقيقة ما حدث بالرغم من أن الجيش العراقي قد حل نفسه طوعا وعمليا وهرب أكثر قادته وجنوده من أرض المعركة .وتلك ظاهرة تستحق الدراسة والتدقيق وفق السياقات والأعراف العسكرية والأمنية ومصلحة الدولة العراقية العليا،بالرغم من الحجج القائلة، أن هروبهم كان على أسس عدم دفاعهم عن النظام، ويمكن لهذه الموضوعة تقديم مبررا معقولا لهم للخروج من تلك الورطة والهزيمة المدوية .ولكنها كتبرير لا تشفع لهم وفق السياقات المذكورة سابقا، ولربما كان النظر وفق هذا الأمر يتم لو أن هؤلاء القادة سبقوا المحتل الأمريكي وبادروا لإطاحة صدام إنقاذا لشرف العسكرية والوطنية العراقية ،أو أنهم شرعوا بالاستسلام وتسليم وحداتهم استنكارا لزجهم في معركة سياسية عسكرية لم يكونوا راغبين بخوضها .
من المستحيل إعادة أو إرجاع تشكيلات الجيش العراقي بذات النسق والسياقات السابقة ،وأن القيام بذلك يعني عودة جهاز سخر بالكامل لخدمة أهداف البعث الفاشي وعمل تحت إمرة الدكتاتور وتطوع لتلبية رغباته الوحشية الى أخر لحظة قبل سقوطه . وأن ذلك الجهاز أسس وفق الجهوية والقرابة والمنافع الشخصية وأغلب قادته وضباطه حصلوا على رتبهم وفق اعتبارات كانت خارج السياق والتدرج العسكري. وعودة تشكيلات الجيش السابقة يعني تصاعد الصراعات داخل تلك الوحدات على خلفية الهزيمة المنكرة التي وقعت بها تلك القطعات وقادتها الى التشتت والهروب، يضاف لذلك قدرة بعض قادته ممن يرتبطون أيدلوجيا ومؤسساتيا بجهاز حزب البعث على التمويه وابتلاع هزيمتهم وإعادة تحشدهم لتصعيد البلبلة وضخ حالة التشويش والتخبط التي تعم الساحة السياسية العراقية أملا في استعادة قدرتهم وسيطرتهم على المؤسسة العسكرية ومقاليد الأمور في الدولة العراقية.ربما أن هذه التداعيات ستكون نتاج منطقي لعودة ذلك الجيش بتشكيلاته السابقة ولكن المهم قبل هذا أدراك أن الهزيمة التي طالت الجيش العراقي لم تكن هزيمة عادية مست هيكلته وصنوفه من الممكن تجاوزها بإعادة وحداته للعمل ،وإنما الأمر تعدى ذلك الى شرخ كبير في الروح المعنوية لدى منتسبيه وفقدانه لهيبته إمام شعبه، ولا يمكن لملمة ذلك الانهيار تحت واجهات وصيغ بذاتها تكون تذكارا دائما بعمق الهزيمة والمهانة التي طالت شرف العسكرية العراقية منذ معركة طرده من الكويت ولحين تتويجه بالهزيمة الكاملة والبشعة في 9 نيسان 2003.أذن لا يمكن للشعب العراقي وفق سياق المنطق ومعطيات الواقع القبول بعودة ذلك الجيش المنهار بمثل ما كان عليه وما وصل اليه. وليس من مصلحة العراق كوطن وشعب أن تكون واحدة من مؤسسات سلطته الجديدة، مؤسسة منخورة الهيكل مهزومة المعنويات فاقدة لشرعية تمثيل الشعب وغير قادرة على حمايته وقبلها حماية شرفها المهني والقيمي.
السؤال الكبير الذي يواجهنا اليوم لمعرفة حقائق تلك المؤسسة التي لعبت الدور الأعظم في حياة العراقيين وشكلت الكثير من مصائرهم في مفاصل تاريخية مهمة من حياة الوطن العراقي. عبر هذا السؤال يمكن تحديد المآل الذي وصل اليه حال تلك المؤسسة والأسباب التي جعلتها تقع في ذلك المأزق المهلك الذي دفع بها الى الموت المحتم.
هل كانت المؤسسة العسكرية العراقية التي انهارت وهزمت في معركة أحتال العراق في 9 نيسان 2003 هي ذاتها المؤسسة العسكرية التي بنيت أثر تشكيل الدولة العراقية وكان فوج موسى الكاظم نواتها الأولى …؟؟؟
سؤال كبير وملتبس عند الكثير من العسكريين العراقيين من ذوي الرتب الكبيرة وبالذات المتقاعدين منهم ومن تركوا الخدمة في نهاية عام 1982 وهو العام الفاصل بين نموذجين لمؤسستين لا ترتبطان بغير مسميات التأريخ والإرث الشكلي لعراقيتهما. أما باقي التكوينات فتختلفان عن بعض من حيث الحيثيات والتوجهات التي يمكن تفصيلها للخروج من حالة التشابك والالتباس الذي يقع فيه المتتبع للأحداث والمراقب لتلك المؤسسة.
من المنطقي الأخذ بحقائق واقعية مستقلة لها ديناميتها الخاصة والتي يفترض أن تتوضح عبر أداء تلك المؤسسة وطبيعة القوى والمكونات التي تتحكم بفعلها .لذا من المفترض أن يجري البحث في الأسباب التي تتيح التفسير للوقائع التي حدثت وأدت الى مقتل تلك المؤسسة بتلك العجالة المشوشة.
أعتاد العراقي أن يمجد القوة والقسوة وفق فكر جمعي درج الشارع على تبادله وتغذيته ليواكب الطبيعة الفلاحية والبدوية للتركيبة السكانية الاجتماعية للعراق. ومثلت المؤسسة العسكرية العراقية منذ نشوئها واحدة من تلك الرموز التي تتماها بها قوة شكيمة الوطن العراقي وكبريائه. وكانت تلك المؤسسة تعني دائما للمواطن رمز للقوة والسيطرة والتفاخر ونموذج كافل وضامن لتشكيلة وسلطة الدولة العراقية، بوصفها تجسيدا شاملا لانعكاسات تتمخض عنها العلاقات الاجتماعية وواحدة من قواعد تنظيم لشروط الوجود الاجتماعي والسياسي في العراق .تلك كانت ولا زالت إحدى أهم الإشكاليات المعرفية التي يعاني منها الشارع العراقي وبالذات حول حدود الدور الذي تضطلع به المؤسسة العسكرية وأهميتها وموجبات تأثيرها في التركيبة السياسية والاجتماعية. وحين يتحدث المرء عن المؤسسة العسكرية العراقية يعني قطعا هيئاتها وإداراتها من ذوي الرتب العليا وأصحاب القرار وليس المراتب المغلوبين على أمرهم.
عانى المواطن العراقي الكثير من العسف والقسوة والبطش على يد تلك المؤسسة. وكان دورها الدائم في قمع الانتفاضات وكبح تطلعات الجماهير للحرية والأنعتاق والديمقراطية يأتي من خلال تنفيذها لسياسات الحاكم ورغباته والانصياع الكامل لسياساته التعسفية . وكان الأدهى في تلك المؤسسة ما يدور داخل قطعاتها وصنوفها ووحداتها من أنظمة وقواعد ترسخ القمع والاستلاب والسخرة وتهميش طال أفرادها من ذوي الرتب الدنيا. وأعطيت للرتب العليا هالة تقترب من الألوهية في بعض الأحيان.وتطورت في داخلها الفوارق بين الأفراد والجماعات ومورس داخلها أبشع أنواع الاضطهاد والفصل الطائفي والقومي .وكانت دائما تفرخ نماذج من قادة يعتقدون أنهم يمتلكون قدرة أكبر من البشر العاديين. وقد ظهرت عبر تأريخ تلك المؤسسة سيرورات ولادات تطورت لكتل ومشيخات قادت الكثير من المؤامرات والانقلابات على خلفية المصالح الفئوية والشخصية والعشائرية والطائفية دون مراعاة للمصلحة الوطنية بحدودها الدنيا.وقد نمت تلك المؤسسة وتوسعت وتضخمت حسب الحاجة لها كجهاز قمعي في مواجهة المتغيرات التي طرأت على المجتمع العراقي . وأقتصر دورها أيضا كآلة للتغيير في شكل السلطة ولحمايتها. ومع توسعها وتضخم مهماتها وأعدادها أنتشر الفساد وبدأت تنخر جسدها نماذج من السرقات والتبذير في برامج لم تجلب أي تحسينات تذكر لصالح إصلاحها وتقدمها وعصرنتها.وغذت تلك المساوئ المفاهيم القاصرة لقادة تلك المؤسسة وطبيعة مهماتهم التي اختزلت في كيفية الاستفادة القصوى منها كمؤسسة للحماية الشخصية والابتزاز والحصول على المراكز السلطوية والاجتماعية والمنافع المادية .أستمر هذا الحال في جميع العهود التي واكبتها تلك المؤسسة وشاركت بشكل حاسم في صناعة تأريخيتها وأنجبت شخصيات قدمت الكثير من الإساءات للدولة والشعب العراقي .واستمرت تلك المؤسسة تعيد إنتاج بنيتها الداخلية على ذات المستويات وبذات الأدوات دون أن تحاول فتح أفق جديدة لعلاقتها وفعالياتها الداخلية والخارجية كمؤسسة وطنية من واجبها أن تصون وتحافظ على القانون والدستور الحامي والكافل لحقوق المواطن أولا وأخيرا. وقد تم إهمال وتغييب دراسة وكشف هذا الجانب وأشكاله المشوهة والقبيحة لصالح الرضا عن تلك المؤسسة (الضامنة لزهو القوة والجبروت وكبرياء الشعب العراقي !!). وكانت هناك أسباب اجتماعية أكثر عمقا نشأت تحديدا عبر تحبيذ الذات المستلبة الخائفة تسليم قيادة شؤونها وأدارتها لمعادل القوة والقسوة . ووفق هذا المنظور عدت المؤسسة العسكرية سلطة لا يمكن المساس بهيبتها وقدراتها وهي فخر العراق وحامي أسوار الوطن .واعتبرت دائما محاولات كشف عيوبها والبحث في سيرتها وأدارتها خيانة وطعن للوطن والمواطنة وتجسس لصالح أعداءه.
طرحت مفاهيم جديدة عن العسكرية ومؤسساتها في العراق بعد مجيء حزب البعث الفاشي وحلفائه في 14 رمضان عام 1963 ولم يسمح الوقت القصير الذي سيطر فيه حزب البعث على السلطة لتنفيذ برنامجه الكامل في أجراء التغييرات الجذرية التي ارتأت قيادته أحداثها في هيكلة المؤسسة العسكرية العراقية .ولكن مع هذا فأن البعثيين استطاعوا أن يخرقوا أسس الترقيات التي كان يخضع لشروطها جميع مراتب وضباط الجيش العراقي، وبناء على ذلك فقد منحوا بعض صغار الضباط من أعوانهم قدما عسكريا حصلوا وفقه على رتب ومناصب متقدمة في الجيش العراقي. وتقاسم عبد السلام عارف معهم المهمة ومنح نفسه رتبة (مشير) وهي أعلى رتبة في التصنيف العسكري العربي للرتب وأغدق على مشايعيه بالترقيات.ولذا فقد تغاضى عما قام به حلفائه ووجد أن ذلك يوائمه في كسب ولاء من يضفي عليهم قدما عسكريا أعلى من مراكزهم.
في قدومهم الثاني عام 1968 بعد انقلاب 17 تموز شرع البعثيون في تنفيذ خططهم لبناء مؤسستهم العسكرية الخاصة والقضاء على تلك المؤسسة السابقة التي تضم الكثير من المنافسين والمناهضين لفكرهم ومشاريعهم .فبالإضافة الى عمليات التصفية الجسدية للخصوم داخل تلك المؤسسة فقد اختار البعثيون طريق إحالة كبار الضباط على التقاعد أو إجبارهم للانخراط في صفوف حزب البعث ووضع المراقبين عليهم لضبط تحركاتهم .ولم يكتفي البعثيون بذلك وإنما شرعوا بأعداد دورات لأعضائهم للتطوع في السلك العسكري كجزء من عملية السيطرة الكاملة على القطعات العسكرية وضمان ولائها المطلق. وكانت أولى تلك الدورات لنواب ضباط بتسمية ورتبة جديدة لم تكن موجودة سابقا في ملاك الجيش العراقي وصنوفه، يمنح المتخرج منها رتبة نائب ضابط (موس أو تخته) وهي تسمية أطلقها الشارع على تلك الرتبة واستمر اعتمادها للتفريق بين النائب ضابط العادي وخريج تلك الدورة. الرتبة تلك كانت أعلى من رتبة نائب ضابط وأقل رتبة من الملازم الثاني، واعتبرت هذه الرتبة جزأ جديد من الملاك العسكري. زج في تلك الدورات الكثير من أعضاء ومؤيدي حزب البعث من الفاشلين دراسيا و الشقاوات وذوي الأخلاق السيئة ومن ثم رحلوا الى الوحدات العسكرية في نهاية الدورة كمشرفين حزبيين وضباط توجيه سياسي وأيضا لنيل الخبرة العملية .وبسبب الإشكاليات التي أحدثتها تلك الرتبة في هيكلة الجيش العراقي والإساءات الكثيرة التي أقترفها أصحابها وسلوكهم المشين والمستهجن فقد سرح الكثير منهم ومنح آخرين رتب أعلى .وقد استمرت سياسة حزب البعث في منح الترقيات لمؤيديه وعناصره في المؤسسة العسكرية على حساب السياقات الدارجة. يضاف لذلك خلق تشكيلات وصنوف عسكرية جديدة من الحرس الجمهوري والحرس الخاص واللتان أصبحتا مؤسستين مغلقتين بالكامل للأعضاء والموالين لحزب البعث والعشائر المرتبطة بوشائج القربى مع الدكتاتور وأعضاء سلطته.
كانت الحرب العراقية ضد الجارة إيران الفرصة الذهبية لتصفية قادة المؤسسة العسكرية القديمة وتقليص وتهميش وحداتها التي كان بعض قادتها يقفون بالضد من طموح البعثين الساعين لتبعيث المجتمع ومختلف مؤسساته وضمان ولاء العسكريين المطلق لأهداف الحزب ومشاريعه وطموحاته.
في أوج وزخم المعارك التي تقدم فيها الجيش العراقي داخل الأراضي الإيرانية كان هناك على رأس الصنوف والوحدات الكثير من الرتب العسكرية المتقدمة، والتي صنفت منذ مجيء البعث الى السلطة على أنها غير مضمونة الولاء بالرغم مما قدمته من إخلاص للحرفية للعسكرية جعلها تضع كامل جهدها لإحراز التفوق على الجيش الإيراني في جبهات القتال .حدث الكثير من الخلاف بين القادة العسكريون البعثيون والقادة من العسكرين الآخرين على خلفية إدارة المعارك وبناء الخطط وأيضا أهداف الحرب بشكل عام، وقد أحتدم الخلاف وظهر بشكله الجلي أثر الخسائر الكبيرة التي تعرض لها الجيش العراقي في معارك ديزفول وعبادان والمحمرة ،مما أضطر الدكتاتور صدام للقبول بفكرة الانسحاب والرجوع الى الحدود والتخلي عن مشروع ضم الجنوب الإيراني (عربستان ) أو إطاحة سلطة الخميني .فتم سحب القطعات العسكرية عام 1982 الى داخل الحدود العراقية.
في بداية الحرب ضد الجارة إيران أعيد خريجي الدورات العسكرية من الحزبيين حاملي رتبة (الموس) الى الجيش ومنحوا رتبة (نقيب) وعينوا في جميع الوحدات العسكرية بدرجة مساعد أمر وضباط للتوجيه السياسي وهو الصنف الذي يخضع له جميع منتسبي الوحدة سياسيا وإداريا ويقوم بدوره بتزكيتهم ويرفع عنهم التقارير اليومية .لم يقتصر القدم والترفيع على هؤلاء وإنما تم منح الكثير من الجنود والمراتب قدما ليصبحوا في عداد الضباط على خلفية استبسالهم في المعارك. وكانت العملية هذه تخضع للانتقاء والتدقيق وتشمل الشخصيات المعروفة بشجاعتها وتهورها وسذاجتها حيث يتم احتوائها وتطويعها فكريا من خلال توفير الأجواء والظروف الملائمة بما يناسب أوضاعها الاجتماعية والنفسية.وفتحت أيضا دورات عسكرية سريعة للحزبيين والمؤيدين اختزلت بها سنوات الكلية العسكرية الى شهور معدودة يحصل بعدها الخريج على رتبة ملازم ثاني .
في عام 1982 وبعد انسحاب القطعات العسكرية العراقية الى داخل حدود العراق تصاعدت وتيرة هجمات الجانب الإيراني واندفعت بعض قطعاته داخل أجزاء صغيرة من أراضي العراق.وكانت معارك الجنوب في شرق البصرة والعمارة على أشدها حين أصدر صدام حسين قراره بما سماه (المعايشة ). والمعايشة فكرة عملية لإشراك الجميع في المعارك وبالذات ممن لم يذهب الى جبهات القتال .شمل هذا الآمر أمراء الصنوف والوحدات الخلفية من ذوي الرتب المتقدمة.لم يكن أمر المعايشة غير بداية لتصفية جميع قادة المؤسسة العسكرية القديمة .فقد وجهت الأوامر لإشراكهم مباشرة في الوحدات المقاتلة الأمامية أي مع صنف المشاة وفي مواقع احتدام المعارك .وكان الغرض من ذلك محاولة للتخلص منهم في تلك المعارك أو أدانتهم بالتقاعس والتخاذل أن اشتكوا أو تذمروا. وقد قتلت منهم أعداد كثيرة وأعدم أخريين وعاد الباقون بعد أن انتهاء (المعايشة) ليحالوا على التقاعد برتب أدنى ووفق أوامر صادرة عن قيادة الجيش تشير الى تهاونهم أو تخاذلهم وتقاعسهم أو قصور في لياقتهم وقدراتهم البدنية ومعلوماتهم العسكرية.اعتبرت نهاية فترة المعايشة التي كان أمدها 45 يوما خاتمة لحياة الكثير من الورثة الحقيقيين للمؤسسة العسكرية التي أسست في 6 كانون الثاني 1921 وأحتفل بذكرى تأسيسها رسميا لأول مرة كعيد لتأسيس الجيش عام 1943 .
عدت سنة 1982 العام الفاصل بين مؤسستين عسكريتين لا تربطهما أية رابطة سوى كونهما يمثلان ما يسمى بالجيش العراقي واحتفاظ المؤسسة الجديدة بذات الخصال والمميزات للمؤسسة القديمة من استنزاف لموارد وخيرات العراق وتقديم النموذج الأسوأ لمصدر القسوة والقوة، مع بقاء ذات الانطباع المضلل لدى المجتمع العراقي عن طبيعة وواجبات وقدرات تلك المؤسسة التي ابتلعت السلطة ومن ثم سحقت الدولة العراقية وكبحت كافة قوى المجتمع المدني الساعية لبناء وطن الأمن والسلام والديمقراطية.
شجعت مسألة التغييرات الكبيرة التي أجراها صدام على هيكلة الجيش وقادته دون أن يواجه عواقب أو اعتراضات تذكر، على التمادي في منح الرتب وإعطاء الحوافز والأوسمة .فبعد أن أصبح (المقدم ) عدنان خير الله طلفاح برتبة فريق أول ركن وعين وزيرا للدفاع مع بداية تشكيل وزارة صدام الأولى فقد منح (رئيس العرفاء) علي حسن المجيد رتبة فريق ركن وذات الرتبة لأبن أخيه (نائب عريف الشرطة) حسين كامل وأستقدم عضو المخابرات (المقدم) القنصل العسكري في سفارة العراق في الهند نزار الخزرجي ليصبح لواء في قيادة الجيش .كذلك منح قدم لأغراض الترفيع في الرتبة والراتب للكثير من ضباط الجيش ليكونوا قواد للفيالق والفرق والوحدات وليتضخم عدد من منحوا أعلى الرتب العسكرية مع تقادم سنوات الحرب ضد إيران بما يوازي أعداد ضباط أضخم جيوش العالم وأكثرها عددا .وازدادت الأعداد على ذات المنوال بعد حرب الخليج الثانية وطرد الجيش العراقي من الكويت، وأعتبر منح القدم والأوسمة والامتيازات جزأ من عملية كسب الولاء وضمان السيطرة على المؤسسة العسكرية.
الاستعراضات الإعلامية التي قدمها التلفزيون العراقي قبل بدأ الحرب الأخيرة التي أطيحت بصدام وزمرته والتي كان يقدم خلالها وبشكل يومي لقاء بين صدام وضباط الوحدات من جميع الصنوف حيث يتم استعراض الاستعدادات والتهيئة للقدرات لمواجهة الغزو الأمريكي القادم. كانت تلك اللقاءات تعبيرا حيا عن طبيعة وتركيبة تلك المؤسسة المتورمة التي أصبحت مجرد إطار حامي لعرش الطاغية .في تلك اللقاءات تبادل القادة وأمراء وضباط الوحدات النفاق والرياء مع قائدهم ورمز شموخهم وعزهم، وأظهروا كامل وضاعتهم وخوفهم وتذللهم أمام سيد وقائد وباني تلك المؤسسة المنخورة والبائسة بامتياز .وكانت تلك الاستعراضات الجوفاء الغبية هي الصورة الواقعية لتلك المؤسسة المخترقة والحاوية على المئات من الضباط والقادة المرتشين والمرتبطين بأجهزة مخابرات من مختلف أقطار العالم والإقليم .
أذن هل تستحق تلك المؤسسة كل ذلك الضجيج اليومي حول ضرورة عودتها للخدمة.وهل تستحق أن تكون واحدة من مؤسسات الدولة العراقية الجديدة وهي بتلك الحالة التي أسست عليه وظهرت به .سؤال أجدر بالعراقيين وبالذات نخبهم المثقفة وعسكرييهم الوطنيين تدقيقه ومعاينته بشيء من الحرص والرصانة ومن أجل عراق جديد بعيد عن الاستلاب والقهر والتعدي على حقوق البشر.