|
الادب الفلسفي في المقابسات
عبد الرحمن كاظم زيارة
الحوار المتمدن-العدد: 2311 - 2008 / 6 / 13 - 11:16
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
المقدمة ـ التعريف بالمقابسات ـ فلسفة المقابسات ـ اسلوب المقابسات وعيوبه بالعيار الفلسفي ـ فضاء كل مقابسة ـ التعريف بالبحث واهدافه ـ 1ـ المقابسات كتاب أَلَفَهُ ابو حيان التوحيدي في القرن الرابع الهجري في بغداد. وهو من أخطر كتبه ، اذ حرر فيه رؤى ومعارف علماء عصره بسعة لم يدانيه فيها كِتابٌ آخر ، وشكلت مقابسات اولئك المناطِقة والفلاسفة سجلا حافلا لنصيب وافرمن ثقافة بغداد. وقد صاغ التوحيدي المقابسات باسلوب بلاغي وأدبي قرّب المسافة الفاصلة بين المشتغلين بالفلسفة من ناحية والادباء والمثقفين من ناحية أخرى . وقد لفتت السمة البلاغية والطابع الادبي للمقابسات ، انتباه المتخصصين بالفلسفة ، ومنهم ((مايرهوف)) الذي لم يجد للمقابسات قيمة كبرى (( فهي موضوعة في قالب ادبي ، والملح تسودها ، الى جانب التلاعب بالالفاظ )) (1). فيما ذكر (( دي بور )) ( وكانت جماعة السجستاني* تتلاعب بالالفاظ والمعاني ) (2). الا ان (( مرجليوث )) له رأي آخر فيقول عن كتاب المقابسات (( انه ثبت للمجادلات الفلسفية التي يقول ابو حيان انه استمعها بنفسه )) (3). والحق ان المقابسات لم تكن ابحاثا منظمة في قضايا الفلسفة ، فالارتجال كان من طبيعة ما يستمع اليه التوحيدي عندما يتقابس المتقابسون ، او ما يُملى عليه من واحدهما . اضف الى ان القضية الفلسفية الواحدة يأتي ذكرها في مقابستين او اكثر ، لان إثارتها كانت في اوقات متفرقة ومن علماء مختلفين. لذلك لاينبغي ان يؤخذ على المقابسات تناقض طروحاتها ، فهي في النهاية تمثل رؤى محتملة الاختلاف بين متقابسين مختلفين في الرؤى والمعتقدات وطبيعة مايحفل به كل واحد من هؤلاء من علم . وليس من العسير الوقوف على مباحث المقابسات على نحو منظم لو قُرأت قراءة متأنية وفاحصة وإرجاع ما قيل وحرره التوحيدي الى اصولها الفلسفية وهي في الغالب الفلسفة الافلاطونية الحديثة كما وُصِفت (4).اما ما يؤخذ عنها طابعها الادبي وتضمنيها الملح وتفخيم العبارة فهذا أمر مردود لسببين في الاقل : فليس من شروط التفلسف غموض العبارة ، بل بيانها ، وليس من شروطه العزوف عن البلاغة ، فالفلسفة في النهاية توضحها النصوص ولكل كاتب الحرية في استخدام ما يراه مناسبا في انشاءها . ان تقديم الفكرة مزينة بالفاظ مترادفة بمعنى تجاور المعنى او الدلالة ، من شأنها تحديد ادق للفكرة بحدودها التامة . 2ـ وفي نظرة عامة للمقابسات يمكن حصر وتصنيف محتوياتها الى : ـ اطروحات ومجادلات فلسفية هي في الغالب منظمة ومرتبة ، والتعليل والحجة فيها ظاهرة ، دون زيادة مدخولة عليه. وهذه قابلة للتصنيف من وجهة أخرى الى مقابسات ذات موضوع او قضية واحدة ، ومقابسات ذات اكثر من موضوع وقضية. ـ اطروحات ومجادلات فلسفية منظمة ومرتبة ، مع الاستعانة بالمثل والحكاية والشعر والمقالة ، قيدت لاغراض متكاثفة وعلى سبيل الايضاح وافهام مفهوم ما . ـ وحدها المقابسة 89 استقلت بطبيعة ميزتها عن سواها ، إذ اثبت ابو حيان التوحيدي فيها ( اشياء سمعها في مجالس الانس .. وان لم تكن من صدر الفلسفة ) كما قال في مقدمة المقابسة المذكورة . وقد استدعت اعتذاره بأن هذه التي كتبها ليس موضعها هذا الكتاب ، وعوضا عن ذلك رصّع المقابسة اياها بمسألة عن جد السؤال والمنع ، وهي من صدر الفلسفة . فالصورة العامة التي صورنا بها متن المقابسات تنطوي على سرد منتظم لقضايا فلسفية هي في الغالب مرتجلة او منقولة عن الترجمة ، او قضايا فلسفية عدة ضمتها المقابسة الواحدة ، مع ايراد ما حسبه ملائما من شعر ومقالة وحكاية وامثال ،واقوال تجري مجرى الحكم. 3ـ ولابد هنا من الاشارة الى ما تعنيه ارتجالية المقابسات ، فهي لاتنطوي على اي معنى غير ايجابي بل نرى فيه انعكاس للقدرة الحاضرة في التعبير عن الحقائق الفلسفية ، وتولى الاجابة عن المسائل وتعليل القضايا ، من قبل المتقابسين في التو ِ واللحظة . كما ان تنوع القضايا وتشابكها في المقابسة الواحدة وما قد تتضمنه من انتقالات من شأن الى آخر دون علة بين المنتقل منه والمنتقل اليه ، انما هو يفصح حقا عن الارتجال ، وهذه هي الاخرى لاتشكل مَثلَبة تُحسب على المقابسات ، بل هي لها ، وامر ينساق بتداعى الافكار والخواطر في اثناء ما يتنفس فيه الوقت عند التقابس . 4ـ على ان التقسيم الشامل للمقابسات بصفة عامة يسمح بالتقاط المشتركات السردية والنصية التي تقوم باجمعها عليها ،في الغالب . فنجد المقابسة تفتتح بكلمات تعريفية لموضوع المقابسة أو سؤال يثيره التوحيدي او سواه ، او بقوله (وامّلى عليّ ..)، او (هذه من ديوان الحفظ .. ) ثم موضوع المقابسة او موضوعاتها المختلفة ، ويتخلل ذلك ما نعده تعقيبات ليست من صلب الموضوع فمكانها الهوامش. واخيرا يختتم المقابسة بانواع شتى من القول ، هي ايضا ليست من صلب القضية المثارة في المقابسة . هذا لأن التوحيدي نفسه لم يعرف له تخصصا متفردا في الفلسفة او المنطق ، كما عُرف في غيرها ، إلاّ انه كان واعيا لهما ، لهذا كان تدخله فيما يقال ويطلع ، تدخلا فيه الاختيار والايضاح في قالب ادبي بليغ ، وما الزيادات على النص الفلسفي منه سوى استطرادات تنم عن شغف مزدوج عنده : بهذا الصنف من المعرفة وملكته البلاغية. 5ـ لهذا ليس من العسير التمييز بين النص الفلسفي والنص غير الفلسفي في المقابسات . فاذا نظرنا الى اجناس ما كتبه وحرره ابو حيان التوحيدي فنجد فيها كل العون في هذا التمييز البدئي ، فالشعر والحكاية والمقالة والمثل وغيرها مما يحسب على الاجناس الادبية ، هي مميزة عن الفلسفة قطعا . وتثير المقالة تداخلا تارة ، وتفردا تارة أخرى : فمنها ما كانت فلسفية ، بدلالة ما عليها من تنظيم للفكرة او القضية ، وتعليلات لمسائلها ، واحاطة لحواشيها. ومنها ما كانت أدبية محض ليست من سَرارة الفلسفة ، ومنها ما كانت بين هذا وذاك . 6ـ فبأي معنى يكون الادب ، في اجناسه المعروفة ، فلسفيا ؟ بكلمات أخرى هل يمكن للاشكال الادبية كالشعر والحكاية والرواية والمقالة أن تستوعب القضايا الفلسفية ؟ هذا التساؤل ينطوي على شرطين : احدهما فني يختص بالجنس الادبي ، والآخر موضوعي يتعلق بالمضمون وهو هنا القضية الفلسفية . ان ملحمة كلكامش وشعرالمتنبي والمعري وغوتة وإيليا ابو ماضي وجبران خليل جبران وسارتر وميخائيل نعيمة وبعض من اعمال الشاعر سامي مهدي وغيرهم ، تناولت قضايا فلسفية مشهود لها بخطرها ، ذلك ان ((الادب الفلسفي هو ذلك الادب المشبع بهموم الفلسفة وتساؤلاتها والذي يبقى مع ذلك ، او ربما لذلك ، ادبا جميلا مؤثرا ومتميزا . حين يحاول الادب ان يكون فلسفيا فهو يتمثل الفلسفة آفاقا ومناخا وشمولا وعمقا ، لاحلولا جاهزة أو مواقف ناجزة في هذه اللحظة ، هو يتحول الى فلسفة ، فيما لو استطاع ذلك ، ويبطل أدبا وفنا جميلا ، بينما هو يسعى في الواقع لا لتشكيل فلسفة او لصياغة نظرية ، بل لاعطاء ابداعه من خلال البعد الفلسفي خلفية اكثر عمقا واكثر خلودا )) (5 ). 7ـ على ان الادب الذي نتدبره في المقابسات ليس كله يندرج تحت الادب الفلسفي ، وليس كافيا القول بفلسفية النص الادبي لمجرد وقوعه في كتاب انعقدت فصوله في البحث الفلسفي كالمقابسات التي تصنف بوصفها مُؤلفاً فلسفياً . ففيها حكايات او ابيات شعر او قصائد او مقالات وظفت كأمثلة توضح وتبين علائق وقضايا هي في الجوهر فلسفية ، الا انها مع هذا الوصف لاتنحدر الى الادب التعليمي الا لماما . وبرغم ان المتقابسين يأخذون فيما ذهبوا اليه من تعليل او ايضاح او إقرار علم ، بالفلسفة الافلاطونية الحديثة ، تلك الفلسفة التي تضع الفن عموما وبخاصة الشعر ، في المرتبة الثالثة من الانشطة الانسانية من منطلق محاكاة المحاكاة(6) ، فأنهم لم يترددوا قط في الاتيان بما هو مناسب من الاجناس الادبية وبما يدعم ما ذهبوا اليه من القول. ان افلاطون نفسه اتى بمثل بات شائعا حول اختلاف وجهات النظر عندما افترض مجموعة من العميان وقد طلب منهم معرفة شئ جئ به اليهم وهم لايرونه رؤية العين ، وذلك الشئ كان فيلاً ، فكل منهم عرّفه بما وقعت يداه على الجزء منه ، الا ان تصنيف هذا المثل بوصفه جنسا ادبيا يتوقف على اسلوب من يكتبه ، ومع ذلك انما هو مثل افتراضي اراد به الاقتناع حول وجهة نظره ، وهي تعددية وجهات النظر بعدد الجهات التي ينظر بها الناس للشئ . 8ـ واذا كانت قضايا الفلسفة مازالت مثارا للاختلاف بين المشتغلين فيها . فان للمقابسات وجهة نظر تُحَدِد فيها الفلسفة على انها منهج دون الخوض بما يتناوله ذلك المنهج ، والسبب في اعتقادنا هو ان المتقابسين ما فتئوا يعتقدون ان الفلسفة علم العلوم ، من هذا المنطل ينبغي النظر الى المقابسات ، وهذا ايضا ما يبرر خوضها بشتى صنوف المعرفة على انها من شأن الفلسفة . اضافة الى اتخاذهم الفلسفة بوصفها موقفا منهجيا قاد الى المنافسة بين طريقتهم الفلسفية وطريقة المتكلمين التي يرفضونها .. فعندما تحدثوا عن الكلام تحدثوا عن طريقة المتكلمين فوصوفها بأنها (( طريقة مؤسسة على مكايلة اللفظ باللفظ ، وموازنة الشئ بالشئ ، اما بشهادة من العقل مدخولة ، واما بغير شهادة منه البتة . والاعتماد على الجدل ، وعلى ما يسبق الحس ، او يحكم به العيان ، او على ما يسنح به الخاطر المركب من الحس والوهم والتخيل ، مع الالَف والعادة والمنشا وسائر الاغراض . وكل ذلك يتعلق بالمغالطة ، والتدافع ، واسكات الخصم بما اتفق ، والايهام الذي لا محصول فيه ولا مرجوع له ، مع نوادر لاتليق بالعلم ، ومع قلة تأله ، وسوء ديانة ، وفساد دخلة ، ورفع الورع جملة )) (7) . اما وصفهم المنحاز الى الفلسفة فحَمَله قولُهم :((طريقة الفلاسفة بحث عن جميع ما في العالم مما هو ظاهر للعين ، وباطن في العقل ، ومركب بينهما ، ومائل الى احد طرفيها ، على ما هو عليه ، واستفادة اعتقاد. لحق من جملته وتفصيله ، ومسموعه ومرئيه ، وموجوده ومعدومه ، من غير هوى يمال به على العقل ، ولا الف تغتفر معه جناية التقليد ، مع احكام الفعل الاختياري ، وترتيب الفعل الطبيعي ، وتحصيل ما ندر وانقلب ، من غير ان تكون اوائل ذلك موجودة حسا وعيانا ، وان كانت محققة عقلا وبيانا ، ومع اخلاق الاهية ، واخبارات علوية ، وسياسات عقلية ))(8). فنلاحظ عبر المقارنة بين الطريقتين ان الوصفين يتناولان المنهج دون القضايا . ولم يمنع التوحيدي من تحرير طُرَف في مقابساته في الغالب بطلها استاذه ومعلمه ابو سليمان السجستاني احيانا وغيره احيانا اخرى، فلقد ضمت المقابسة التاسعة والثمانين لاشياء سمعها من ابي سليمان في مجالس الأنس يقول فيها ( ان لم تكن من صدر الفلسفة ، فإنها لا تخرج من جملتها ولها فائدتها التي يحتاج إليها ، ولا يستغنى في الأغلب عن الوقوف عليها ) الا انه يستشعر عدم تجانس المنقابسة المذكورة مع المقابسات الاخرى، فيقول عنها : ( كأنها ناكبة عن اخواتها المواضي ولكنها على حال قد أخذت بنصيبها من الحسن، ولعلها تفيد بعض الفائدة.) ثم يعطف في نهاية المقابسة لعرض مسألة (لماذا إذا جد السؤال جد المنع به ) ، ليعيد نصاب المقابسة الى اخواتها .. 9ـ وبعد ؛ هل ثمة جدوى ترتجى من عملنا هذا ؟ .. لقد وجدنا بعد انهينا دراستنا الموسعة حول مقابسات ابي حيان التوحيدي ( مقابسة المقابسات ) ، ان الدراسة المنجزة حددت هدفها في تنظيم فلسفة المقابسات ، بدأً بمعجمها الفلسفي ومرورا بمباحثها الفلسفية ، فمسائلها وغير ذلك مما ضمه الكتاب ، وجدنا ان ثمة كلام ورد في المقابسات لا موضع لها في الكتاب المذكور .. كما ان اهمالها يعد هدرا في معطى البحث العلمي ، لذلك ارتأينا ان نخصص هذه الدراسة ـ الادب الفلسفي في المقابسات ـ لتضم ما افلتته قبضة كتابنا المذكور .. وغاية جهدنا في الدراسة الحالية يرتكز على مبدأ للتصنيف قد مر ذكره في هذه المقدمة . ومع ذلك نقول الا يكفي ان نشير مجرد اشارة الى الحكايات والامثلة والمقالة والشعر والمقولة القصيرة ، على طريقة الفهارس ؟ خاصة وان ايراد هذه الاجناس بنصوصها ومتونها ، مع شئ من التحرير غير الضار بحقيقتها ولفظها ، لا يعد عملا ابداعيا ... كل هذه التساؤلات احطنا بها ونحن نهم بكتابة هذه الدراسة فوجدنا من المناسب والنافع ان نذكر تلك الاجناس الادبية المصنفة ، كما وردت في المقابسات لاسباب : اولها ان لهذا الخيار اهميته التوثيقية ، وثانيها لا يعيب الدراسة ان تكون مقتبسة طالما ان الجهد فيها ينصب على مبدأ للتصنيف وفيها شئ من التنظيم والتحرير ، وثالثها اظهار الوظائف المتعددة للمقابسات ، تبعا لاجناسها ، وطبائع مقابساتها؛ فلسفية محض كانت ،ام ادبية محض ،ام فلسفية بابعاد ادبية ، او ادبية بابعاد فلسفية ، وهذا الامر منوط بالمقارنة بين دراسات في فلسفة المقابسات، ودراسات في شؤون أخرى ، كهذه الدراسة مثلا . ورابعها ان هذه الدراسة تمهد لدراسات متخصصة في ادب المقابسات . وسنقتصر في هذه الدراسة على جنسين ادبين فقط هما الحكاية وبضمنها المثل ـ ومع تقاربهما نوردهما منفصلين ـ والشعر . على ان تختص الدراسات الاخرى بالاجناس الادبية الاخرى . اولا : الحكاية ترد الحكاية في المقابسات على سبيل التمثيل لتقريب مفهوم ما ، او كدليل يساق لعلة او لواقعة يراد الاشارة اليهما على الحقيقة او على المجاز ، او لاضاءة معنى او جواب او علة . وامتازت الحكاية هاهنا ببساطة حبكتها ، ونأيِّها عن استخدام الرمز والصور الفنية الا ما ندر . الا انها مُزّينة ببلاغة الوصف وترادف عباراتها بقصد تركيز انتباه المتلقي الى الهدف الدقيق ، والى قصد بعينه دون سواه، ومنعا للتأويل ، متوسلا الاحاطة الكلية بالحال المتكلم عنه . ويغلب صوت الراوي العليم على القسم الاكبر من حكايات المقابسات . فيما تستقطب الحكاية القضية المُمَثَلَة لها ، وهي على اية حال السبب الداعي للإتيان بها في المقابسة ، عِوضا عن الشرح الذي قد يستعصي على التعبير الدقيق عن قضية او عن جزئية فيها . ان مفهوم الحكاية يتداخل احيانا مع المثال ، لأن كلا منهما وضعا على سبيل التمثيل ،وان جنوحها الى التمثيل والتشبيه في اطار ما يمكن القياس عليه ازاء ما يقال من تصورات ، قد افقرها شكلها الفني ، سوى البيان و البلاغة على مستوى اللفظ لا الدلالة فهاتين ـ اعني البيان والبلاغة ـ بقيتا مهيمنتين في اكثر الحكايات . لذلك فان تقريض حكايات المقابسات ينبغي ان يأخذ باعتباره كل ذلك ، فهي لم تكتب لذاتها ، بل على سبيل التمثيل لا غير ، هذا في قسمها الاول اما في قسمها الثاني فأنها حكايات مروية وقد تم ذكرها للتدليل على صحة دعوى ما ، او أُخذت منطلقا لتعليل مجرياتها ، والقسمان المشار اليهما هاهنا يرِدان على سبيل التصنيف الذي رأيناه . وبعض الحكايات لايرقى الى الادب ، فهي شبيهة بمثل افلاطون عن (( العميان والفيل)) ، وبعضها الآخر يتأرجح بين الحكاية والمقالة برغم مابين الجنسين من بون شاسع في الاصل والتركيب . وجدير بالملاحظة ان ابا حيان التوحيدي لم يقف من بعض الحكايات موقف الفيلسوف المتأمل والمفكر في علل ما تعرض له من حوادث يرويها هو او تروى على مسامعه ، بل نجده احيانا ، يتخذ موقفا اخلاقيا غالبا ما يكون حادا ، وكأن الامر يمسه في شخصه . هذا في الحكايات التي يرى فيها انحطاط لمكانة الانسان الى ما هو ادنى منها كما في الحكايات التي تفصح عن غلبة الحس على العقل، او حكايات الانتحار .واذا كان هذا موقف ابي حيان من موضوع بعض الحكايات فان التعليل والتفسير والايضاح يتولاها غيره وهو في الغالب استاذه ابو سليمان . وفيما يأتي الحكايات حسب ترتيبها في المقابسات ، مع بيان المناسبة التي قيلت فيها وغرضها الفلسفي ... الحكاية (1) (سر الملك مصدرقوته) : جاءت هذه الحكاية مثلا حكاه احد المتقابسين ـ لم يذكره ابو حيان بالاسم ـ في المقابسة الثانية وقد هيمن عليها الكلام في علم التنجيم تمثيلا والتي قيل فيه ( ان الله تعالى زجر عن النظر فيه لئلا يكون هذا الإنسان عن ربه بحاثاً، متكبراً على عباده، ظاناً بأنه مأتي في شأنه، قائم بجده وقدرته، فإن هذا النمط يحجز الإنسان عن الخشوع لخالقه، والإذعان لربه، ويبعده عن التسليم لمدبره، ويحول بينه وبين طرح الكل بين يدي من هو أملك له، وأولى به. .. فطوى الله عن الخلق حقائقه ، ونشر لهم نبذاً منه، وشيئاً يسيراً يتعللون به ..ولولا هذه البقية التي فضحت الكاملين، وأعجزت القادرين، لكان تعجب الخلق من غرائب الأحاديث، وعجائب الضروب، وظرائف الأحوال، عبثاً وسفهاً، وتوكلهم على الله لهواً ولعباً..) وقيل : وليكن ذلك المثال ((ملكا في زمانك وبلادك ، واسع الملك ، عظيم الشأن ، بعيد الصيت ، شائع الهيبة ، معروفا بالحكمة ، مشهورا بالحزامة ، متصل اليقظة ، قد صح عنه انه يضع الخير في موضعه ، ويوقع الشر في موقعه ، عنده جزاء كل سيئة وثواب كل حسنة ، قد رتب لبريده اصلح الاولياء له ، وكذلك نصب لجباية امواله اقوم الناس به ، وكذلك عمارة الارض انهض الناس بها وانصحهم فيها ، وشرف آخر بكتابته بحضرته ، وآخر بخلافته ووزارته في حضره وسفره .اذا نظرت الى ملكه وجدته موزونا بسداد الرأي ومحمود التدبير ، واوليائه حواليه ، وحاشيته بين يديه ، وكل يخف الى ما هو منوط به ، ويستقصي طاقته فيه ويبذل وسعه دونه . والملك يأمر وينهى ، ويصدر ويورد، ويحل ويعقد ، وينظم ويبدد ، ويعد ويوعد ، ويبرق ويرعد ، ويعدم ويوجد ، ويخلع ويهب ، ويعاقب ويثيب ، ويفقر ويغني ، ويحسن ويسئ . فقد علم صغير اوليائه وكبيرهم ، ووضيع رعاياه وشريفهم ، ونبيه الناس وخاملهم ، ان الرأي الذي تعلق بامر كذا صدر من الملك الى كاتبه لانه من جنس الكتابة وعلائقها وما يدخل في شرائطها ووثائقها ، والرأي الآخر صدر الى صاحب بريده لانه من جنس احكام البريد وفنونه وما يجري في حلبته ، والامر الآخر القي الى صاحب المعونة لانه من جنس ما هو مرتب ومنصوب من اجله ، والحديث الآخر صدر الى القاضي لانه من باب الدين والحكم والفصل ، وكل هذا مسلم اليه ومعصوب به لايفتات عليه شئ ، ولايستبد بشئ دونه. فالاحوال على هذا كلها جارية على اذلالها وقواعدها في مجاريها لايزل منها شئ الى غير شكله ، ولايرتقي الى ما ليس من طبقته . وهكذا ما عدا جميع ما حددناه باسمه وحليّناه برسمه . فلو وقف رجل له من الحزم نصيب ، ومن اليقظة قسط ، على هذا الملك العظيم ، وعلى هذا الملك الجسيم ، وسدد فكره ، وحدد وهمه ، وصرف ذهنه ، وتصفح حالا حالا وحسب شيئا ، وقد مر امرا امرا ، وتأمل بابا بابا ، وتخلل بيتا بيتا ، ورفع سجفا سجفا ، ونقض وجها وجها ، لامكنه ان يعلم ، بما يثمر له هذا النظر ، ويثيره هذا القياس ، ويصيده هذا الحدس ، ويقع عليه هذا الامكان ، ما يستعمله هذا الملك غدا ، ويبتديه بعد غد ، وما يتقدم به الى شهر، وما يكاد منه الى سنة وسنين ، لانه يفلي الاحوال فليا ، ويجلوها جلوا ، فيقايس بينها قياسا ، ويلتقط من الناس لفظا لفظا ، ولحظا لحظا ، ويقول في بعضها رأيت الملك يقول كذا وكذا ، وهذا يدل بعد كذا وكذا . وانما جرَّأه هذه الجرأة على هذا الحكم والبت لانه قد ملك لحظ الملك ولفظه ، وحركته وسكونه ، وتعريضه وتصريحه ، وجده وهزله ، وشكله وسحنته ، وتجعده واسترساله ، ووجومه ونشاطه ، وانقباضه وانبساطه ، وغضبه ومرضاته ، ونادره ومعتاده ، وسفره وحضره ، ، وبشره وقطوبه . ثم يهجس في نفس هذا الملك يوما هاجس ، ويخطر بباله خاطر ، فيقول : اريد ان اعمل عملا ، وأوثر أثرا ، واحدث حالا ، لايقف عليها اوليائي ولا المطيفون بي ولا المختصون بقربي ولا المتعلقون بحبالي ولا احد من اعدائي والمتتبعين لامري والمحصين لانفاسي والمترقبين لعطاسي ، ولا ادري كيف افتتحه واقترحه ، لاني متى تقدمت في ذلك بشئ الى كل من يلوذ بي ويطيف بناحيتي ، كان الامر في ذلك نظير جميع اموري ، وهذا هو الفساد الذي يلزمني تجنبه ويجب عليّ التيقظ فيه . فيقدح له الفكر الثاقب ، والذكاء اللاهب ، انه ينبغي ان يتأهب للصيد ذات يوم . فيتقدم بذلك ويذيعه ويطالب به . فيأخذ اصحابه في اهبة ذلك واعداد الآلة . فاذا تكامل ذلك له اصحر للصيد ، وتشوف له ، وتقلب له في البيداء ، وصمم على بعض ما يلوح له ، وامعن وراءه وركض خلفه جواده ، وبدد في طلبه بدده ، ونهى من معه ان يتبعه . حتى اذا اوغل في تلك الفجاج الخاوية والمدارج المتباينة ، وتباعد عن متن الجادة وواضح المحجة ، صادف انسانا فوقف عليه وحاوره وفاوضه فوجده حصيفا محصلا يتقد فهما وينقد افهاما . فقال له أفيك خير ؟ فقال نعم ! وهل الخير إلا فيّ ، وعندي ، وإلا معي ؟ الق اليّ مابدا لك وخلني وذلك. فقال : ان الواقف عليك ، المكلم لك ، ملك هذا الاقليم ، فلا ترع واهدأ ولا تقلق . فيكفر(*) له عند سماع هذا ، ويقول : لسعادة قيضتني لك ، والجد اطلعك عليّ. فيقول الملك : اني اريد ان اصطنعك لأرب في نفسي ، وابلغ بك ان بلغت ذاك لي ، واريد منك ان تكون عينا على نفسك ذكية ، وصاحبا لي نصوحا ، فقم لي بذلك جهدك ووسعك ، واطو سري هذا عن سانح فؤادك فضلا عما سوى ذلك . فاذا بلغ منه غاية الوثيقة والتوكد القى اليه عجرته وبجرته (**)، وبعثه على السعي والنصح وتحري الرضى ، ووصاه بما احب واحكمه ، وازاح علته في جميع ما تعلق المراد به ولا يتم الا بحضوره . ثم ثنى عنان دابته الى وجه عسكره واوليائه ، ولحق بهم ، وتعلل بقية نهاره في قضاء وطره من صيده . ثم عاد الى سريره في داره ومقره في ملكه ، وليس عند احد من رهطه وبطانته وغاشيته وحاشيته وخاصته وعامته علم بما قد اسره الى ذلك الكهل الصحراوي وبما حادثه فيه . والناس على سكناتهم وغفلاتهم حتى اصبحوا ذات يوم عن حادث عظيم ، وامر جسيم ، وشأن هائل ، وعارض محير . فكل عند ذلك يقول : ما اعجب هذا ! من انتصب لهذا ؟ وكيف تم هذا ؟ هذا صاحب البريد وليس عنده منه اثر ، وهذا صاحب المعونة وهو عن الخبرة به بمعزل ، وهذا الوزير الاكبر وهو متحير ، وهذا القاضي وهو متفكر، وهذا حاجبه وهو ذاهل . وكل عن الامر الذي دهم مشدوه ، ومنه متعجب . وقد قضى الملك مأربته ، وادرك حاجته ، واصاب طلبته ، وبلغ غايته ، ونال اربه )).(المقابسة 2 )( انتهت الحكاية ) ففي هذه الحكاية مثل قد ضرب لخطورة الاسرار في تعظيم الربوبية ، وقد انطوت على تشبيهات مجازية تقرب صورة القدرة الالهية بمثل حسي .وهي الى جانب ذلك تبين رؤية الراوي للصفات المثالية لمن يملك امر الناس في السياسة والحكم والتدبير ، وصفاته التي ارادها الراوي شروطا لمن يتصدى لقيادة الناس بحدود مملكته او جمهوريته . وان من الشروط الاضافية اصطناع الهيبة المستجلبة لوضع فاصلة بين الملك وخاصته ، وبمثلها ولكن اوسع من الاولى بينه وبين عامة الناس ، فهذا مدعاة للاستحواذ على قلوب الناس عقولهم بالبراهين التي يقدمها الفعل المدهش من لدن الملك . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ *كفر لسيده : انحنى ووضع يده على صدره وطأطأ رأسه كالركوع تعظيما له . ( محمد حسين توفيق ـ المحقق ـ ) **وقولهم: أَفْضَيْتُ إِليك بِعُجَرِي وبُجَري أَي بعيوبي يعني أَمري كله. أوَخبرته بِعُجَرِي وبُجَرِي أَي أَظهرته من ثقتي به على مَعايبي.( لسان العرب لابن منظور) الحكاية (2)(الطبيعة والصناعة ) يروي هذه الحكاية ابو حيان التوحيدي في المقابسة التاسعة عشرة ، وكان ما فيها مثارا لمسألة تنبه اليها ابو سليمان السجستاني ومفادها: لم احتاجت الطبيعة الى الصناعة ؟ ولما اعتذر اصحابه عن الجواب تولى هو بنفسه جوابها . والحكاية تقول ، كما يرويها ابو حيان التوحيدي: (( خرج أبو سليمان يوماًً ببغداد إلى الصحراء، بعض أيام الربيع، قصداً للتفرج والمؤانسة، وصحبته. وكان معنا أيضاً صبي دون البلوغ جهم الوجه ، بغيض المحيا ، شتيم المنظر. ولكنه كان مع هذه العورة يترنم ترنماً يفرج عن جرم ٍ ترف، وصوت شج، ونغمة رخيمة، وإطراق حلو. وكان معنا جماعة من اطراف المحلة، وفتيان السكة ، ليس فيهم إلا من تأدب تأدبا يليق به ويغلب عليه . فلما تنفس الوقت أخذ الصبي في فنه، وبلغ أقصى ما عنده. فترنح أصحابنا وتهادوا ، وطربوا. فقلت لصاحب لي ذكي: أما ترى ما يعمل بنا شجا هذا الصوت، وندى هذا الحلق، وطيب هذا اللحن، ونفث هذا النغم ؟! فقال لي: لو كان لهذا من يخرجه ويعنى به، ويأخذه بالطرائق المؤلفة ، والألحان المختلفة، لكان يظهر أنه آية، ويصير فتنة، فإنه عجيب الطبع، بديع الفن، غالب الدنف والترف. فقال أبو سليمان، فلتة: حدثوني بما كنتم فيه عن الطبيعة، لم احتاجت إلى الصناعة؟)) ( المقابسة 19) ولما افضى ابو سليمان بالمسألة المذكورة طالبا من اصحاب الرحلة والتفرج الاجابة عليها يقول ابو حيان ( فقلنا له: ما ندري! وانها المسألة؟ فقال: فكروا؟ قعدنا له وقلنا: إنا قد ثلجنا، ولو مننت بالبيان ونشطت لنشر الفائدة كان ذلك محسوباً في بيض أياديك وغرر فضائلك؟) وقد اجاب بافاضة عنها وخلاصة جوابه ( .. ان الصناعة تحكي الطبيعة وتروم اللحاق بها لانحطاط رتبتها . وقد زعمت ان هذا الحدث ـ يعني الصبي ـ لم تكفه الطبيعة ، ولم تغنه ، وقد احتاجت الى الصناعة ، حتى يكون الكمال مستفادا بها ، ومأخوذا من جهتها ) وفي كامل حديثه اطناب وتعليل مضاعف ، لانذكره لكي عن لانخرج عن اهداف هذه الدراسة . ونكتفي بما ذكرناه . الحكاية (3)(ثمرة الفلسفة ) وهذه الحكاية لها اخوات في غرابتها .. فهي تمثل طريقة متفردة في التقابس من خلال الرؤيا في المنام وقد تكررت في اكثر من موضع في المقابسات وكأن الامر شرطا من شروط التفقه او التفلسف او تشبيها بقدرات كان يدعيها افلاطون من حكاية "اتحاده مع الاله" التي حصلت له اربعة مرات كما هو منقول عنه ... قال ابو حيان التوحيدي : ((سمعت أبا إسحق الصابي الكاتب يقول: رأيت ثابت بن قرة الحراني في المنام، قاعداً على سرير في وسط دحلتنا ، وحوله ناس كثير، كان كل واحد منهم من قطر، وهم على خلق مختلفة، وهو يعظهم ويبتسم في خلال وعظه وكلامه. وحصلت عنه نكتة شريفة ذهبت مني في اليقظة وساءني ذلك. هذا وكنت أسرح بفكري كثيراً في الظفر به والوقوع عليه، فلا يعود بطائل. فلما كان بعد دهر، وبعد اختلاف أحوال، ذكرت أنه قال لي : خذ يا إبراهيم ثمرة الفلسفة من هذه الكلمات الشافيات، التي هي خير لك من أهلك وولدك ومالك ورتبتك: اعلم أن اليقظة التي هي لنا بالحس هي النوم، والحلم الذي لنا بالفعل هو اليقظة، ولغلبة الحس علينا قد اتفقنا أن الأمر بخلاف هذا وإلا فغلّب العقل مكان الحس ينصدع لك الحق في هذا الحكم. فإذا وضح هذا فبالواجب ان ينبغي أن ينتقص من الحس، وان ظننا أن اليقظة من ناحيته، ويلتبس بالعقل وإن ظننا أن الحلم من ناحيته.))( المقابسة26) وحتى يقطع شك مستمعيه وما بدا غريبا من قضيتي اليقظة والنوم على ما ذهب فان الصابي اشار الى ان هذه النكتة ( كل من لطف وصل اليها ، فان النفس تزكو عند ذلك والصدر ينشرح ..) الى اخر كلامه الذي يخرج عن المحاججة المنطقية والرؤية الفلسفية الى تهويل الاسرار بالاحالات غير العقلية .. ويبقى سؤال : هل هذه الاطروحة ننسبها الى ثابت بن قرة ام الى ابي اسحاق الصابي ، ام الى كليهما .. ؟ ام الى قوى خفية ؟ ان تقرير نسبة الاطروحة يتوقف على رؤية الصابي للرؤيا في الاحلام اهي حقيقة ام اضغاث احلام . الحكاية (4 )( اهل الجنة اما يملّون .. اما يضجرون ؟) يقول ابو حيان التحيدي ((سمعت ابا اسحاق الصابي ، وكان من غلمان جعل ، يقول : ما اعجب اهل الجنة ! قيل : وكيف ؟ قال : لانهم يبقون هناك لاعمل لهم الا الاكل والشرب والنكاح . اما تضيق صدورهم ؟ اما يملّون ؟ اما يكلّون ؟ اما يربؤون بانفسهم عن هذه الحال الخسيسة ، التي هي مشاكلة لاحوال البهيمة ؟ اما يأنفون ؟ اما يضجرون ؟ واخذ في هذا وشبهه يبوج* متعجبا ، مستعظماً ..)) ويذكر ابو حيان ان ابا اسحاق هذا من (أصحاب الجدل وأهل البلاء، حل به هذا البلاء، وأحاط به هذا الشقاء.) فأعاد ابو حيان ما سمع على أبي سليمان قوله بنصه، وحكى له شمائله فيه، فقال في الجواب: إنما غلب عليه هذا التعجب من جهة الحس لا من جهة شيء آخر، وهكذا كل ما فرض بالحس أو لحظ بالحس، لأنه قد صح أن شأن الحس ان يورث الملال والكلال، ويحمل على الضجر والانقطاع، وعلى السآمة والارتداع. وهذا منه في ذوي الاحساس ظاهر معروف، وقائم موجود وليس كذلك الأمر في المعاد إذا فرض من جهة العقل، لان العقل، لا يعتريه الملل، ولا تصيبه الكلفة، ولا يمسه اللغوب، ولا يناله الصمت، ولا يتحيفه الضجر. وهكذا حكمه في الشاهد الحاضر، والعيان القاهر، لولا عقل النصيبي ونظرائه . (المقابسة 35) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يبوج : البوج : الصياح ( القاموس المحيط ) الحكاية ( 5) (( يتفلسف في اثناء نومه )) هذه الحكاية يرويها ابو حيان التوحيدي ،ولها نظائر واشباه ، وهي من الغرابة تمثل احد مصادر ابي حيان في المقابسات ، إذ تتم المناظرات والمباحث الفلسفية في الرؤيا اثناء النوم ! وهذه الحكاية هي الاغرب في حبكتها من اخواتها ، إذ يقول : ((ذاكرت طبيباً شاهدته بجنديسابور بشيء من العلم، فما أذكر تلك المذاكرة، وتلك المسئلة، وتلك الفائدة إلا سنح شخص ذلك الشخص وكان يكني أبا الطيب لعيني، وتمثل في وهمي وحتى كأني أراه قريباً معي، وحاضراً عندي! وطال عجبي من ذلك؟ فرأيت أبا سليمان في المنام فسألته عن الحالة التي قد شغلتني بالتعجب منها، والأمر الذي توالى علي من أجلها؟ فقال لي في الجواب قولا متقطعا ، التأم من جملته في اليقظة ما انا راسمه وحاكيه في هذا الموضع. قال: أما تعلم أن المبدأ الأول والأصل والعلة مفتقر اليه بالطبع والضرورة، ومعترف به بالوجوب الذي ليس فيه مرية ولا شبهة؟! قلت: بلى. قال: فالثاني مشعر أبداً بالأول، والأول مشعر بنفسه، والثاني مشعور به أيضاً، ولكن الأول، والأول مع هذا هو الثاني، والثاني هو الأول. ولكن اختلفت الرسوم ولم تختلف الحقائق. الى ههنا يخلص لي ما تبينته، وهو ظاهر كما به قال: لما كان من صدور المذاكرة من جهته وتمت بمطاولته، وحصلت الفائدة بوساطته، اشتاقت النفس وتلبست بصورته، وجداناً منها للمبدأ، ونزاعاً نحو الأول، واستشعاراً للسكون معه، لأنها تعشق بالذات أبداً الأول، ويعشق كل أول للشبه القائمة فيه والشبه الموجودة به من الأول بالاطلاق، فكل مريد من كل ضرب طبيعي وارادي وفكري وخلقي صناعي وآلهي يحييها ويؤنسها وينفي وحشتها ويعللها، ويستعمل بذلك فوقها، إلى الأول الحق الذي هو أول بالاطلاق، واستكمالها ذلك الشوق هو استدامتها لحالها. وثباتها في صورتها، وطربها على ما حصل لها.)) (المقابسة 45) فالحكاية غرائبية كما ترى ، اذ تتداعي الوقائع من الحقيقة الى الوهم فالرؤيا في المنام ، وعلى نحو متواز تتفتح الحقائق كلما ابتعد الراوي عن الواقع والحقيقة المعاشة .. هذا من حيث الشكل والبناء الدرامي للحكاية .. ناهيك عن ما فيها من اطروحة في احد القضايا الفلسفية والتي افصح عنها الحوار القصير والقول التالي له . يبدو لنا ، ان المتقابسين حريصون على نسبة التنبؤ والالهام الى قدراتهم الذاتية ، اقتداءا بافلاطون الذي قيل عنه انه اتحد مع ( الاله ) اربعة مرات ! هكذا قالوا .. الحكاية (6)( ليته كان بقرة.. ) يقول ابو حيان لسيتدل على صحة قول بعض "الالهيين " : ( الاحسان من الانسان زلة ، والجميل منه فلتة .. و نقص الانسان ..) : ((انا وجدنا في هذه الأيام من نظر الى واد اغن الكلأ ، قد استحلست الارض به خضرة وندى وحسنا، فجن حين جالت عينه في اطرافه وبلغ به العجب الى أن قال: ـ ليتني كنت بقرة فكنت اكل هذا كله اكلا ذريعا، وهكذا من اعلاه الى اسفله، ومن اسفله الى اعلاه. وكان يقول هذا وهو على شكل ظريف، لا سبيل للقلم الى تصويره والى ادائه على وجهه وحقيقته، واللسان ايضا لا يأتي على خواصه ومعانيه، وهو متحسر في قوله، على هيئة مجنون، لغلبة الارادة الطبيعية، وقوة الحركة الحيوانية، وموت العقل الإنساني، وبطلان الشرف الجوهري . فلما فشا عنه هذا الحديث، وكثر قال له بعض الفقهاء معنفا ولائما ومنبها له على خساسته: ـ يا هذا، هل رأيت قط من تمنى وهو انسان ان يكون بقرة بسبب مكان معشب ،وكلاء كثير؟ فقال له مجيباً، وهو وادع النفس رخّي البال، حاضر الفكر ، ساكن الطباع: ـ أيها الشيخ لو رأيت بعينك ما رأيته لتمنيت ان تكون كما تمنيت.))( المقابسة46) ويعقب ابو حيان بالقول : (وهذا يدل على ان الذي اثار شهوته في ذلك المكان لم يكن جوعاً قد توالى، ولا نهمة قد غلبت، بل كان نذالة النفس ولؤم الطباع، وسقوط الجوهر، وغَثَارة* الروح، وقلة العقل. بل قد سمعت بمن قال: الحمار خير من هذا بكثير، لأن الحمار لازم لحدّه ،غير منحرف إلى ما ليس هو في قوته، وهذا قد ابطل حده بارادته، وجمع النقص كله لنفسه بقبح شهوته وفساد امنيته. ) واقول : الذي تمنى ان يكون بقرة ، إذ جاءه هذا من دقة تقديره لمنفعة الكلآء الوفير ، فهو في تقديري لايتضمن أي انحطاط ، فهو قد ( تمنى.. )، بمعنى انه كان مدركا تماما بكونه انسانا ، ولو لا هذا الادراك لما تمنى ( لو رأيت بعينك ما رأيت لتمنيت ان تكون ما تمنيت ) ، فهذه الفطنة ، والاحساس المرهف بتقدير الاشياء التي ليس لها منزلة عند الانسان كمنزلتها عند الحيوان . ومع قد صح تفسير ابي سليمان ان هذا جاءه من جهة الحس ، قال هذا رأيه وهو متمسك بثوبه الانساني ما برحه كما برحه المتمني . اما احتجاج التوحيدي فكان من جهة المعيار الاخلاقي .. وهكذا هو ديدنه فيما يُروى ويحكى .. والكل ، اعني ما ذكرت من اراء بما في ذلك ما رأيت ، هو صائب .. فكل اتخذ جهة ورأى منها ما رأى كحكاية العميان والفيل . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * اصلها الغَيْثرة وهم سفلة الناس . ** السنخ :في لسان العرب ، سنخ: السِّنْخُ: الأَصل من كل شيء. والجمع أَسْناخ وسَنُوخ. وسِنْخُ كل شيء: أَصله . وقد وردت في المقابسات بضم الاول وليس الكسر. الحكاية ( 7) (.. ليته كان حمارا) ثم يسرد ابو حيان "الحكاية الثانية" ذات الصلة بموضوع الاولى .. الا انها لعلة اخرى .. فيقول : ((اني شاهدت قبل هذا إنساناً متناسكاً ،وكان له حظ من التجربة ،بالسن العالية ، والسفر البعيد، وكان متميزاً بمذاهب الصوفية، يقول يوماً، وقد ابصر حماراً يمشي: ــ ليتني كنت هذا الحمار! فعجبت منه فضل عجب، وانكشف لي انه انما يتمنى ذلك ليكون ناجياً من قلائده ومؤنه، وما هو بغرضه وصدده عاجلاً، وما هو مأخوذ به، ومخوف منه ومعد له آجلاً. فكان عذر هذا عندي اخرج من كل الجهل، وادخل في بعض الوهم. وانما هجس هذا في ضميره وجاش على لسانه وانتضح بذكره والتشدد فيه، لأنه كان جاهلاً بالجوهر الذي هو أشرف من الإنسان بحده الخالص من كل شوب، فنزل عن تلك الربوة العالية والذروة الشماء، اعني الجواهر العلوية الابدية، وتمنى ان يكون حيوانا هو اخس من الانسان عند كل انسان)) ( المقابسة46) الحكاية (8) ( انتحار شيخ ) روى ابو حيان هذه الراوية فيقول .. ((شاهدنا في هذه الأيام شيخاً من أهل العلم ساءت حاله، وضاق رزقه ، واشتد نفور الناس منه، ومقت معارفه له، فلما توالى هذا عليه دخل يوما منزله ومد حبلا الى سقف البيت واختنق به، ففاتت نفسه في ذلك. فلما عرفنا حاله جزعنا ، وتوجعنا وتناقلنا حديثه ، وتصرفنا . فقال بعض الحاضرين : ــ لله دره ! لقد عمل عمل الرجال، نعم ما اتاه واختاره، هذا يدل على مرارة النفس ، وكبر الهمة، لقد خلص نفسه من شقاء كان طال به، وحال كان ممقوتا فيه ، مهجورا من اجله، مع فاقة شديدة، واضاقة متصلة، ووجه كلما أمّه اعرض عنه، وباب كلما قصده اغلق دونه، وصديق إذا سأله اعتلّ عليه. فقيل لهذا العاذر: ــ إن كان قد تخلص من هذا الذي وصفت على انه لم يوقع نفسه في شقاء اخر، اعظم مما كان فيه واهول، وادوم وابقى، فلعمري نعم ما عمل، ولله ابوه ما احسن ما اهتدى له وقوي عليه، وينبغي لكل عاقل ، يدفع الى ما دفع اليه، ويقتدي به ويصير إلى رأيه واختياره. وان كان قد سمع بلسان الشريعة اي شريعة شئت، القديمة والحديثة - النهى عن هذا واشباهه، فقد اتى بما عجل الله به والعار، وآخر له عليه عذاب النار. سبحان الله، اما كان يسمع من كل ذي عقل، ولبيب، وعالم واديب ، ومن كل من رجع الى مسكه ويعرف بادنى فضيلة ، دع من يرجع الى قوله ، وينتهي إلى صواب امره ونهيه، وتتهادى فنون سيرته وحاله ، النهي عن مثله ، والزجر عن ركوب ما هو دونه بكثير. فكيف لم يتهم نفسه، ولم يتعقب رأيه، ولم يشاور نصيحاً له؟ اهذا بسبب حال لعلها كانت تنكشف عنه بما يتمنى ، وينتهي بعد انحسارها الى الكثير مما ينسى معه ما قاسى ، وقد علم ان ادنى ما في هذا الفعل المكروه بالعقل، والفاحش بالسماع، المقشعر منه بالطبع، ما يجب عليه من التوفي بسبب ما قد انتشر بالشرائع واجمع عليه الاول والاخر من كل جيل وطرف، في النهي عنه ،واستسقاط من اقدم عليه، لانه امر متى ركب بالظن والتوهم ، الذين لم يؤيدا ببصيرة من عقل ولا عرضا على عاقل، ثم استبان له في الثاني عوار ما آثره ،وخطأ ما عمل به، فاته التلافي ، ولم يمكنه الاستدراك والرجوع. فلو لم يكن في هذه إلا ما يوجب عليه التشكك والتثبت والاستبصار من اجل ما قاله العقلاء وورد به الانبياء بالعقل والوحي، لوجب الا يلقي بيده الى التهلكة، ولا يختار ما يهجنه عليه اهل الروية والبديهة ، واصحاب الديانة والمروءة، ولا ينقض العادة القائمة، ولا يخالف الآراء الحصيفة، ولا يستبد برأي الطبيعة. فكيف وقد قضى العقل قضاء جزما، واوجب النظر ايجابا حتما، انه لا يجب ان يفرق الانسان بين هذه الاجزاء الملتحمة والاعضاء الملتئمة، فليس هو رابطها ، ولا هو على الحقيقة مالكها، بل هو ساكن في هذا الهيكل لمن اسكنه ، وجعل عليه اجرة السكنى بعمارة المسكن، وتنقيته، واصلاحه ، وتصريفه فيما يعينه على السعادة في العاجل والآجل، ويكون سعيه مقصورا على التزود لى مبوأ صدق لا بد له من المصير اليه ، والمقام فيه، على امن شامل، وخير غامر، وراحة متصلة، وغبطة دائمة، وحبور مستصحب، حيث لا آفة ، ولا حاجة، ولا اذى ، ولا حسرة ، ولا اسف، ولا كمد، ولا فوت ، ولا تعذر. هذا مع السيرة المرضية وايثار الاخلاق السنية، ومع الاعتقاد للحق، وبث الصدق والاحسان في جميع الخلق. فاما اذا كانت الحال على خلاف هذا، فالشقاء الذي يتردد فيه ، وينعقد به، ويدفع اليه، يكون في وزن ذلك ومقابلته.)) (المقابسة 46) هذه الحكاية والتالية لها قضيتها الانتحار ، فلقد وقف ابو حيان التوحيدي منها منكرا ، شاجبا ، بدواعي دينية واخلاقية ، وَرَدّ على عاذر الشيخ الذي انهى حياة البؤس والفاقة وذل طلب الحاجة بما قرأت وسمعت عنه .. ومعروف ان الانتحار شكّل قضية تناولها الفلاسفة وخاصة المحدثين والمعاصرين منهم وانقسموا في القول فيها كانقسام الرأي بين العذر والشاجب في هذه الحكاية ، ولاتخرج الحجج والمبررات المؤيدة للانتحار او غير المؤيدة له عن مجمل الرأيين المتقابلين في هذه الحكاية ، وان الامر يجري في تجاذب الرأيين مجرى حوار الطرشان .. حتى في الفلسفة المعاصرة .. كثيرون يرون في الاقدام على الانتحار ضعفا ، وخيانة للامانة ، ونكوصا عن خوض تجربة الحياة ، في كل تحولاتها .اما الشهادة من اجل قضية سامية فهو أمر مختلف كما هو معروف ، فهي من فعل حب الحياة ، الحياة الكريمة بالذات وليس غيرها ، وإعادة صياغة للحياة ، بارجاعها الى اصلها الانساني التحرري . الا ان الفاقة وضنك العيش لاسباب ليست موضوعية ، لايصحان سببا لتمني الموت ناهيك عن الاقدام عليه باصطناعه. كما ان طلب الشهادة هوادعاء، وتبجح ، ونفاق . والصواب في كل هذا الاقدام على تحقيق الهدف السامي ، مهما كانت التضحية غالية . وبكلمات اخرى ، ان تمني الموت في سبيل قضية يفرغ القضية من محتواها الانساني التحرري ، وتمني الموت غير قبوله اذا كان محتما. فالشهيد هو من جاهد من اجل حريته ومن اجل قضية سامية، وهو في هذا لم يكن متمنيا الموت ، طلبا للموت. الحكاية (9)( المكاري) هذه الحكاية منسوبة الى ابي سليمان في اثناء مقابسة منعقدة عن التنجيم والكهانة والنبوة والتي قال فيها ( ان قوة النبوة قد يُحلّى بها شخص من غير ان يستفسر بها ، ويعرّض الى الخلق من اجلها ..) ، (وان هذه القوة تشيع على حدودها ومراتبها ، في اشخاص العلماء والبررة ..) ثم حكى في هذا االفصل : (( أن رجلا بزنكان كان يقال له خدا داد ، وكان مكارياً صاحب حمير ويخدمه عليها غلمان ، ويثق به في عمله تجار كبار. وانه في بعض طرقه واسفاره ، سيّب الحمير وطرح الاثقال .. وقال: ـ ليأخذ مَنْ شَاءَ ما شَاء! وعاد الى بيته على وَلَه شديد ، لا ينطق بحرف، ولا يتعلّق بأمر، ولا يستوضح من حاله شيء. فساء اهله ذلك ومعارفه ، واطالوا عليه. فلما كان في بعض الايام وقد احتوشوه * بكل قول، ورموه عن كل قوس، توجّه نحو الحائط وقال: ـ يا قوم مالكم ومالي معكم ؟ وما هذا التعجب والاكثار؟ اما رأيتم من كان قاعداً على مزبلة ، فنبعت من بين يديه عين صافية بماء كالزلال عذب ، فشرب منها وتبجح بها ، وعاشت روحه بمجاورتها ، وكانت سبب ريه الذي لا ظمأ بعده ،وطهره الذي لا دنس معه. )) هذا تمام الحكاية. (المقابسة 50) ولكن مالذي ران على فكر المكاري ، وسنح في تفكيره عندما وجد ما وجد من نبع لايتوقع انه يأتيه من مزبلة ، ويفسر ما صارت اليه حاله من وله . ومن ثم ، لا نجد في هذا صلة بالنبوة التي اجاز ابو سليمان سريان قوتها في غير الانبياء بمعنى غير معنى التكليف الالهي. والامر بالطبع ليس هكذا ، فلربما قصد المكاري بالنبع الهاما روحيا ، اوفكرة انبجست عنده ، جعلته يستخف ببهرج الحياة وزخرفها ، وانتبه الى حقيقة مآله الذي لا مفر منه ، وهو مآل كل انسان وهذا ما قصده بتعبيره : كانت سبب ريه الذي لاظمأ بعده ، و طهره الذي لا دنس معه .. فالحكاية قد وضح مضمونها مع هذا التقريض . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ *احتوشوه : احاطوه الحكاية (10)(المنية و الدنية) الحكاية وردت في المقابسة التاسعة والخمسين والتي قال فيها عيسى بن علي بن عيسى ( لما كان الحس يجيد بالنفس الغضبية ، حتى يُرى صاحبُه يَفدي محسوسَه بالحياة ، كرجل يتعرض بالسيف والحرب والمقام الصعب ، ليفشوْ ذكره ، ويطير صِيته ، ويعلو شأنه ..) ومن ثم يثبت ابو حيان هذه الحكاية للتدليل بها على القول السالف ، وقد نسبه الى بعض الحاضرين : ((زعم انه رأى رجلا ً قد ضربه السلطان بالسياط لجناية. وانه كان يطاف به وهو عريان على جمل بين الاشهاد،. فبلغ مكاناً وقف فيه الجمل لعارض، فدنا منه صبي وسارّه بشيء، فقام المضروب هذا على ظهر الجمل قائما وبسط كفّه على حائط كان الى جانبه ، ثم سمّرها بيده الأخرى بخنجره وبقي معلقا، وعبر الجمل. فعجب الناس من نفسه ومرارته ، ومن الامر الذي هجم به على ذلك ، وزيَّنه عنده)) الى هنا تنتهي الحكاية .. ويقول التوحيدي فافادناـ راوي الحكاية ـ بعقب هذا الحديث هذه الفائدة ومدارها ( ان صاحب العقل الذي قد لحظ به الرتبة الكبرى، واشرف به على الغاية القصوى، واستهان من اجله بالحياة الدنيا، اجدر ان يفرج من خلائقه ووثائقه التي قد ارتبطته واورطته، وانه املأ بذلك ، وهو به اليق ، وعليه اقدر ، وفيه اعذر، وان الصواب موكل به ، وناصر له، بقدر ما كان الخطأ موكلا بالاول وواضعا منه.) (المقابسة 59) برغم ان الحكاية لاتخبرنا بموت الرجل ، وهذا لاينفي احتمال موته ، فأننا نجد ان التوحيدي يتخذ موقفا مغايرا من قضية الانتحار او محاولة الانتحار في الاقل .. فهو هنا في هذه الحكاية يعد ما قام به الرجل امرا صائبا بقدر ما كان خاطئا في الاول ، ذلك الخطأ الذي كان وراء العقوبة التي انزلت به . لو حال الهرب او الافلات من اسره ووثاقه لوكان هذا التصرف اجدى بمن له عقل . الحكاية ( 10 ) ( مناظرة في المنام ) وها هنا نلتقي ثانية بمناظرات المنام والتفلسف فيها ، يقول ابو حيان .. ((سمعت أبا سليمان يقول: رأيت فيما يرى النائم كأني أناظر ابن العميد أبا الفضل في مسائل من السماع الطبيعي، وبقينا نقسم الموجودات فقلت: الموجود أيضاً ينقسم بنوع آخر أن يكون إما خفي الذات خفي الفعل، أو ظاهر الذات ظاهر الفعل، أو خفي الذات ظاهر الفعل، أو ظاهر الذات خفي الفعل. ثم قلت: الأول هو الباري جل وعز، والثاني الحرارة والبرودة وما أشبههما، والثالث الطبيعة، والرابع الكواكب. أعدنا هذه المقابسة على الشيخ المجتبى فقال: هذا والله لحكمة وفصل الخطاب، قسمة مستوفاة، وحقيقة ذات برهان، وكلمة ما عليها مزيد.)) ( المقابسة 87 ) فالرؤيا والحقيقة يستويان عند ابي سليمان : فالسماع في الرؤيا كالسماع الطبيعي ، مرتبا ومنظما في الفاظه وافكاره .. الحكاية (10)( حقوق الاخوان) يقول ابو حيان التوحيدي: ((وحدثنا ـ ابو سليمان ـ يوماً قال: اجتزت بالري متوجهاً الى بلدي سجستان سنة من السنين، وكان بها ابو جعفر الخازن فزرته قاضيا لحقه وسنه ، فلما انصرفت اتبعني برقعة يصحبها برّ . وفي الرقعة: بسم الله الرحمن الرحيم من استحقر في قضاء حقوق الاخوان ما يبلغه عاجل الاستطاعة، فقد عرضها للتقصير والاضاعة، لان الايام لا تكاد تسعف بكل المراد، ولا تزول عن عادتها في الفساد.))( المقابسة 89) والحكاية اياها على قصرها ، فانها غنية عن التعليق فيما رمت اليه . وجدير بالتذكير ان المقابسة التاسعة والثمانين تضمنت ذكر اشياء سمعها ابو حيان في مجاس الانس كما قال وهي ليست من صدر الفلسفة وان كانت تلامسها ملامسة. الحكاية (11) ( ابن نباتة ) ((وجرى يوما بحضرة ابي سليمان حديث احكام النجوم فقال : من طريف ما ظهر لنا منها انه ولد في جيرتي ابن نباتة فقيل لي: لو أخذت الطالع، فأخذته وعرضته على علي بن يحيى ، فنظر وعمل وقوم ، فقال لنا فيما قال: ـ هذا المولود يكون اكذب الناس، فعجبنا منه. فما طالت الايام حتى ترعرع ، وخرج شاعراً كما ترى، معدوداً في اهل عصره. ثم انشدنا له مستحسنا: وتأخـذ مــن جوانبنـا الـلـيالـي كمـا أخـذ المساءُ من الصـبـاح ِ امـا في اهـلهـا رجـل لـبـيـب يحــس فيشتكي الــمَ الـجــراح ِ؟ ارى التشمير فيها كالـتـَّوانـي وحـرمــانَ الـعـطيـةِ كالـنـجـاح ِ ومن لبس التراب كمـن عـلاه وقــد تخدعـك أنـفــاس الـريـاح ِ وكيف يَكِـد مهجـتـَه حـريص يرى الارزاق في ضرب القِـداح ِ ثم انشدتها ابن نباته فأقر لي بها.)) ( المقابسة 89) وترمي الحكاية الى صحة اخذ الطالع للمولود ، فهذا ما يعتقده ابو سليمان الذي يلقب بـ ( المنطقي ؟!) ، كما يعتقد بما يعتقده افلاطون بشأن المرتبة الدونية للشعر والشعراء في المدينة الفاضلة . ولكن الاهم من كل ذلك ان قصيدة بن نباتة ، فيها من الفلسفة تدور حول وحدة الاضداد وصيرورتها نحو التحايد من حيث الاثر النهائي لكل سعي ومنى . اضف الى ذلك ، ان ما يراه ارتقاء في الحياة هو ارتكاس عنها وحث صوب النهاية المحتومة ( ومن لبس التراب كمن علاه .. ) فأين الكذب هنا ، واين ما ذهب اليه ابو سليمان من هذه الحكمة .. وقد قيل في المقابسات ذاتها ( ان عدد ما يحيى فيه الانسان يساوي ما يموت به ) بمعنى ان اسباب الحياة بوزن اسباب الموت فانظر الى البيتين الثالث والرابع ... الحكاية (12)(دخانها وصلائها) ((وسمعت أبا سليمان يقول للجرجرائي الكاتب، وكان يحدث نفسه بالوزارة: ـ ايها الرجل، ان الدنيا نار ذات دخان، فلو سلوت عن صلائها لدخانها، لكان اجدى وأسلم. فقال: ـ افلا اصبر على دخانها، لا ستمتع بضيائها، وانتفع بصلائها؟ فقال: ـ ما احسن هذه المعارضة ، لو كنتَ من الاستمتاع بضيائها على ثقة ، ومن الانتفاع بصلائها على يقين، وكنت اذا ادركت ذلك دام عليك وصفا لك، فاما والعادة جارية بخلاف قولك وتمنيك واقتراحك وتوهمك، فلا. فقال الجرجرائي: الله الموفق وهو حسبي. فقال ابو سليمان: حِكَمُ الكُتّاب واصحاب الخطابة مخايل، تصدق قليلا ، وتكذب كثيرا، ليس لها رسوخ في القلب، ولا ثبات في العقد. فلما قتل الجرجرائي قال أبو سليمان: ـ مسكين ذلك الرجل، صبر على دخانها الى ان اختنق، وتعرضّ لصلائها حتى احترق. ثم قال: ـ اللهم لا تكلنا الا اليك، ولا ترغبنا الا فيما لديك، ولا تعرضنا الا لطلب ما عندك، انا لَعجَزةٌ عن قدرة نظنها بنا، وضَعفَة على قوة ندعيها فينا، ارنا الحق حقا ثم هيئنا لاتباعه، وارنا الباطل باطلا ثم وفقنا للاعراض عنه، يا من يملك العيان والخبر ويرينا بهما العجائب والعبر.))(المقابسة 89). ان الرأي الناشب حول هذه الحكاية يذهب الى انعدام الجدوى في التصدي للامارة والحكم والسلطة ، وهو رأي ابي سليمان كما ترى . والرأي الحصيف في شأن دنيوي في تقديرنا ينبغي ان يستند الى الحقيقة لا الى تجافيها ، والخلوص عن عرصتها والتهوين من شأنها . والموت لاينتصب دليلا على سوء التقدير، فلقد لحق الموت باشرف الناس وهم يسعون الى الحكم ، بدافع الواجب والضرورة الملجأة وليس لهدف دنيوي عارض .. فهل كان الموت بمنأى عمن كان لايصبر على دخانها، ولا يستمتع بضيائها، ولاينتفع بصلائها؟.. انما اذا كان الغرور والشره والعجب هي اوائل ممارسة الامارة والسلطة فذاك الى المعيار الاخلاقي تصنيفه وتعييره . الحكاية (13)(صديق الاسكندر) جاءت هذه الحكاية في المقابسة الاخيرة ، السادسة بعد المئة ، وقد رواها النوشجاني في اطار التدوال بشأن الصداقة والصديق . فقال :واني احدثكم عن الصداقة شيئا حسنا: ((قرأت في اخبار الملك الحكيم الاسكندر انه كتب الى معلمه أرسطو طاليس ،يصف له ما رأى في مسيره الى الهند من الامور العجيبة، والاحوال الهائلة. فكان فيما كتب له: ايها الحكيم اننا انتهينا إلى خليج من البحر ، من ورائه مدينة عظيمة من مدائن الهند، ورأينا في اللجة من ذلك الخيلج شيئا ناشزاً بارزاً كهيئة الجزيرة ، فمنعني منه صديقي فيلون وقال : اعبر انا اولا، فان كان هناك مكروه وقع فيَّ دونك، فانه ان هلك فيلون وجد الاسكندر منه خلفاً، وان فقد الاسكندر، لا فقد، لم يكن على وجه الارض خلف. فعبر فيلون وعدة من خلاني وخُلصاني، فاذا ذلك الذي رأينا في البحر دابة عظيمة من دوابه، فلما دنا اصحابي منها غاصت في البحر ، فاضطرب الماء ، وغشى الموج سفائن اصحابي فاغرقها.فلما شاهدت ذلك اشتد جزعي على صديقي فيلون ومن غرق معه من خلاني، وانصرفت عن ذلك بقلب مصدوع، وطرف مولع بالدموع.)) ( المقابسة 106 ) . ان اتيان هذه الحكاية كان عقب سؤال اثير في المقابسة السادسة بعد المئة حول معنى قول الحكيم ( افلاطن ) (ان الصديق انت ، إلا انه بالشخص غيرك ). وكان جواب النوشجاني ان في هذا القول تناقض في حد الصديق.فلا يصح من وجهة نظره .. والحكاية لاتلامس هذه القضية وحدها الذي هو الصديق ، انما هي امثولة لصدق الصديق واستعداده للتضحية من اجل صديقه حتى لو كلفه الامر حياته . ولكن هل للاسكندر اصدقاء كما الناس العاديين الذين ليس لهم سلطان .. ان فيلون رجل من رجال الاسكندر وهو احد قادته العسكريين ، وان العلاقة بينهما تتحكم بها هذه الصلة : الحاكم والمحكوم ، حتى وان تزينت بعلاقة صداقة ذات بعد شخصي ..
ثانيا: المَثَل يعتقد المتقابسون ان الحس رائد للعقل ، وان المحسوسات معابر للعقليات ، والامثلة حسية ، تضرب للفهم فاذا وصلت الى العقل تمت مفارقتها. الا ان الامثلة في المقابسات ليست من الكثرة بمكان تضرب كدليل لكل قول، فهي ضربت في مواضع كانت الحاجة اليها ملحة للايضاح او التعليل او الاحالة . ولاتخلو الامثلة من بعض شروط انبناء الحكاية ، فهي احيانا تزاحم الحكاية في سردها ، او تنزوي لتتقيد بحدها ، بوصفها امثال ، لاتخرج عنه . والقول التالي يبين على نحو مكثف وظيفة المثل في المقابسات ، حيث ان : ((الامثلة توضح ايضاحا يثق به الانسان مرة بعد مرة لكي لايرتج باب المعرفة ولايسد لها طريق)) ( المقابسة 35 ). وفيما يأتي الامثلة حسب ترتيبها في المقابسات .. المثل (1) (شرف ميت وشرف حي ) جاءت هذه الحكاية على لسان ابي سليمان لتعزيز تعليله في ان فضيحة حسيب لا ادب له ، اشنع وافظع من فضيحة اديب لا حسب له . ((قال سمعت بباب الطاق في هذه الايام، انسانا من انكاد السوق يقول لآخر من ضربائه : ـ شرفك ميت وشرفي حي، وشرفك اخرس وشرفي ناطق، وشرفك اعمى وشرفي بصير . قيل له: ماذا أراد بهذا؟ قال، أراد: اني بنفسي على هذه الفضائل الشريفة ، وانت بنفسك على اضدادها، لا تحيا ، ولا تنطق ، ولا تبصر، لم تنفعك ارومتك البيضاء، ولا تضرني جرثومتي السوداء، ومتى نابك امر فتحدثت بشرف غيرك، كنت بمنزلة الخصيّ المدل بِهَن ِ غيره، وهذا ما لا يجدي عليه عند البضاع.)) (المقابسة21) المثل (2) (الحس امرأة حسناء ، والعقل شيخ هِمٌّ ) وجرى حديث حول ضرورة الحس التي فيها ( جذب واجبار ) وضرورة العقل التي هي ( لطيفة جدا ، لان العقل يعظ ، ويلاطف ، وينصح ، ويخوف ) فادلى ابو حيان معقبا على قول ابي الخير بهذا المثل ، نقلا عن اصحاب له : ((وكان بعض اصحابنا في الوراقين ببغداد يضرب في هذا مثلا: زعم ان مثال الحس في هذا كامرأة حسناء متبرجة، ذات وقاحة وخلاعة، قد جلست الى شاب طرير* له شطر جمالها وعليه مسحة من حسنها، تخدعه بحديثها ، وتراوده عن نفسه لنفسها، وتبدي له محاسنها، وتطمعه في الاستمكان منها، وتستعجله في حاجتها، وتحثه على قضاء اللذة والوطر منها. فاما مثال العقل : فكأنه شيخ هِمٌّ قاعد على بعد، ليس به نهضة للزحوف اليه، والحيلولة بينه وبين ما قد نزل به من صاحبته الوقحة الفاضحة، الا انه مع ذلك يليح بثوب ، وينادي بصوت ، ويحرك رأسه ، ويبسط يده، ويعد ويلطف، ويعظ ويخوف، ويضمن ويرفق، ويشفق ويحنو، فاين تأثير هذا الشيخ الهِم المحطم من تأثير هذه الخالبة ، الغالبة ، المحتالة ؟ وهذا مع قلة اصغاء الشاب الى الشيخ وسيلانه مع هذه.)) هذا تمام المثل ويردف ابو حيان : (واراد بهذا المثل، الفرق بين العقل فيما يدعوك اليه لتسعد، والحس فيما يحملك عليه لتشقى، هذا في جميع ما تزاوله وتهم به ، وتتوجه نحوه ) (المقابسة 42). ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * شاب طرير : في لسان العرب لابن منظور (ورجلٌ طَرِيرٌ: ذو طُرّةٍ وهيئةٍ حسنَةٍ وجَمال. وقيل: هو المُستقبل الشباب؛ ابن شميل: رجل جَمَِيلٌ طَرِيرٌ. وماأَطَرَّه أَي ما أَجْمَلَه وما كان طَرِيراً ولقد طَرَّ ..)
المثل(3) (الفيل والعميان) ((سمعت ابا سليمان يقول: قال افلاطن: ان الحق لم يصبه الناس في كل وجوهه، ولا أخطأوه من كل وجوهه، بل أصاب منه كل انسان جهة. قال: ومثال ذلك ، عميان انطلقوا الى فيل واخذ كل واحد منهم جارحة منه، فجسها بيده ، ومثلّها في نفسه، ثم انكفؤا . فاخبر الذي مَسّ الرجِل : ان خلقة الفيل طويلة مدورة شبيهة باصل الشجرة وجذع النخلة. واخبر الذي مس الظهر : ان خلقته شبيهة بالهضبة والرابية المرتفعة. واخبر الذي مس اذنيه : انه منبسط ، رقيق ، يطويه وينشره. فكل واحد منهم قد ادى بعض ما ادرك، وكل يكذب صاحبه ،ويدعي عليه الخطأ والغلط والجحد فيما يصفه من خلق الفيل. فانظر الى الصدق كيف جمعهم، وانظر الى الخطأ كيف دخل عليهم حتى فرقهم)) ((وكان يقول، اعني أبا سليمان: هذا مثل يشتمل على نكت حسنة مفهومة ، لا خفاء بها عند من سمعها بتحصيل، وتدبرها ببيان. قال: ولهذا لا تجد عاقلاً في مذهب يقول شيئاً الا وهناك ما قد اقتضاه ذلك بحسب نظره ، والسابق الى قلبه، والملائم لطبعه، والموافق لهواه، ولكن البارع ،المتسع ، المحصل ، له المزية في السبق والفلج بالتبريز.)) (64المقابسة 64). المثل (4)( التكامل لا الكمال) قال أبو العباس البخاري لابي سليمان وقد جرى كلام في الحظوظ والارزاق: لعل الذي عنى لي في ان العلم والادب و الحكمة والتبيين والاستنباط هو الذي اليه هذا الامر دون غيره من الامور، فلما تولاني بما هو اليه ابلغ بي وبلّغني، فاما ماعدا هذا من الحظ والرزق والكفاية فلعله إلى غيره . فقال له ابو سليمان: ليس كذلك، بل المعنى بهما واحد، وإنما يختلف هذاالحكم ، ويشكل القضاء عليه في عالم الحس وعرصة الزخرف وأرجاء الماء والطين. ((والدليل على ذلك أن الحائك لا يزرع القطن، والخياط لا ينسج الثوب، والخباز لا يذبح الشاة، والعطار لا يدبغ الجلد، والزمار لا يضرب بالعود. ولو أمكن لفعل كل واحد جميع ذلك، فكان الإنسان يكمل بوفائه بكل شيء واتمامه بكل شيء.)) وبالواجب خالف حكم الحس حكم العقل في المعقول. كل مختلف متفقاً، وكل كثير واحداً، وكل بعيد قريباً؛ وكل متعذر سهلاً، وكل عصي سمحاً؛ وكل مظنون متيقناً. وذلك لأن الوحدة العقلية في الكثرة الحسية مدمجة ولو استوى الطرفان لسقط البحث وزال المراء، ولكان لا يشتاق الغريب إلى وطنه، ولا يحن إلى معدنه؟ ثم أنشد في هذا الموضع بيتاً ولم أدر من قائله وهو: حن الغريب إلى أوطانه طرباً إن الغريب إلى الأوطان حنان قال: فعلى هذا متوليك في العلم حتى منحك ما تراه هو متوليك في الرزق حتى زوي عنك ما تتمناه، لابائك قبول الكمال في الحاشيتين، لا لانقطاع الجود عنك في الوجهين. وهذا الإباء ليس لك فيه ذنب، وذلك الفيض ليس فيه عجز، ولكن هذا هو. وأنا استحسن بيتاً ، يأتي على أصل هذا الباب وفرعه ، لقائله ولله دره وهو: فإن تصبرا فالصبر خير مغبة وإن تجزعا فالأمر ما تريان ثم قال: على أنه وإن كان قد شرفك بما منحك من الحكمة، فقد نظر لك فيما قلل حظك منه، وكفاك مؤنة سياستة ومؤنة الأسف عليه اذا اضمحل، فصرت أربح الساعين وأغبط المجدودين بما تعلم به أنك مفضل فيه على كثير من بني جنسك ولداتك الناشئين معك، والضاربين بسهمك.فلا تكثر الأسى على شيء هو الظل الزائل، والحلم الباطل، وعليك في حياتك بما يكملك في الجملة، ويجملك من الأدب، ويفضلك من البيان ،وينبلك من الخلق، ودع ما سوى ذلك فإنه خلل(المقابسة 57). المثل ( 5 ) ( كثرة وجوه الالفاظ في الناموس الالهي ) يقول ابو حيان التوحيدي ، سمعت ابن مقداد يقول : ( ..لابد في وضع الناموس الالاهي الذي يتوخى به افاضة الخير ، وبث المصلحة .. من الاخبار التي تنقسم بين ما هو صدق محض وبين ما هو صدق ممزوج ، وتكون الالفاظ التي تدور بها ، واللغات التي ترجع اليها ، كثيرة الوجوه ، سمحة عند التأويل ...انما وجب ذلك لان الناس في اصل جبلتهم ، وبدء خلقهم ، واول سنخهم ، قد افترقوا مجتمعين ، واجتمعوا مفترقين ، واختلفوا مؤتلفين ، وائتلفوا مختلفين ، وأحساسهم متوقدة ، وظنونهم جوالة ، وعقولهم متفاوتة ، واذهانهم عاملة ، واراؤهم سانحة . وكل متفرد بمزاج وشكل ، وطباع وخلق ، ونظر وفكر ، واصل وعرق ، واختيار والف ، وعادة وضراوة ونفرة ، واستحسان واستقباح ، وتوق ووقفة ، واقدام وجسارة ، واعتراف وشهادة ، وبهت ومكابرة ، هذا سوى اغراض كثيرة مختلفة لا اسماء لها عندنا خالصة ، ولا بصفات متميزة . * المثال :: ((ومَثُل هذا مثل رجل اصلح طعاما كثيرا واسعا مختلفا من كل لون وجنس ومذاق ورائحة ووضع ونضد وحرارة وبرودة وحلاوة وحموضة ، ونصبه على مائدة واسعة عظيمة ، تجمع ذي عدد جم . فمتى لم تكن المائدة ذات الوان مختلفة واطعمة مركبة متباينة في القلة والكثرة والملوحة والحرافة والتقدمة ، لم يقبل كل انسان على ما يفتق به شهوته الخاصة له ، ولم تمتد يده اليه باللون الذي تدعو اليه العين ، لان للعين نوعا من الطلب ليس للفم ، وللنفس ايضا مثل ذلك ، اعني النفس المتغذية ، هذا غير ما هو مطلوب للنفس الناطقة من الترتيب والتكرمة والايناس والمحادثة . ثم قال : فلما كان الناموس الالاهي نصيحة عامة للكافة ، وجب ان يستعان عليها بكل ما يكون ردءا لها ، ورفدا معها ، وفارشا لما انطوى منها ، وموضحا لما خفي عنها ، وداعيا باللطف اليها ، وضامنا لحسن الجزاء عليها )) (المقابسة 4 ) ثالثا : الشعر جاء الشعر في المقابسات ، في الاغلب على سبيل الطُرف ، الا ان بعضا منه ذو غرض او مضمون فلسفي ، كما جاء في قصيدة ابن نباتة السالفة الذكر .. ولقلة الابيات الشعرية في المقابسات لم نجد بأسا في ايرادها باجمعها ، على ان نشير الى الشعر الفلسفي منه ... (1) لو كنت أقــدر أن أقــولا لشفيت من قلبـي غليــلاً لكــن لســـانـي صــارم ملئـت مضاربــه فلـولاً البيتان ذكرهما ابو حيان التوحيدي في المقابسة الثالثة والعشرين يصف حال ابي سليمان ( .. انه يطول سكوته . فاذا حرك ادنى تحريك انفتح وانفرج وترك التقية الموحشة ، والمداراة الثقيلة ..) حتى يصل الى قوله ( ... وكان ربما انشد بعد هذا الشوط الطويل .. قول الشاعر ) والبيتان ليسا من الادب الفلسفي بشئ ،ولم يذكر التوحيدي قائلهما. (2) أشكـو إلى الله جهـلاً قد منيت بـه بـل ليس جهـلاً ولكن علـم مفتـون ختم التوحيدي تعقيب له على قول للعامري في المقابسة الثالثة والاربعين ، حول التنجيم ، وذكره لمنازل الاشياء ،وكيف ما اسميناه بالاضداد تنقاد الى امثالها في حواءات مختلفة كما رأينا في دراسة سابقة تناولت تحليل ( مقالة المنزلة ) وهي موضوع المقابسة المذكورة. والعلم المفتون هو العلم المضل عن الحق . والبيت يلامس رؤيا فلسفية لمفهوم العلم . (3) فـان تصبرا فالصبر خيـر مغبـة وان تجزعـا فالأمـر ما تريـان قاله ابو سليمان ، في اثناء جوابه على قول ابو العباس البخاري بما يفيد الاستفسار وطلب العلة من ان الذي تولاه في العلم والادب والحكمة غير الذي يتولاه بالرزق. فكان جواب ابي سليمان ان متولي هذا هو متولي ذاك ، ناصحا اياه بعدم الجزع على الفقر فما وهبه الله تعالى من من علم وادب وحكمة ابقى من مال زائل وملك عارض . وقد جاء ذلك في المقابسة السادسة والخمسين . والبيت الشعري غني بدلالته الاخلاقية . (4) ما الفضـل فيمـا تـُرِيـكَ عيـنٌ بـل هو فيمـا تـرى القلـوبُ والبيت منسوب الى الشاعر البدوي ، وقد ذكره علي بن عيسى في المقابسة السادسة والستين، الذي قال فيها : (ليس يري مجد الحكمة إلا من كان بصر عينيه في قلبه لا بصر قلبه في عينيه، وما أحسن ما فتق لسان البدوي بهذا المعنى في نظمه السائر) فذكر البيت وغرضه الفلسفي واضح ، فهو ينحي المعرفة الحسية التي من شأنها الزيغ ليُحكّمَ فيها العقل / القلب ، وهذه احدى اطروحات الفلسفة الافلاطونية الحديثة. (5) وتأخـذ من جوانبنــا الـلـيالـي كما أخـذ المساءُ من الصـبـاح ِ امـا فـي اهـلـهـا رجــل لــبـيــب يحـس فيشتــكي الـمَ الـجـراح ِ؟ ارى التـشمير فيـها كالـتـّـَوانـــي وحــرمـانَ العطـيةِ كالـنـجــــاح ِ ومن لــبس التراب كمـن عـــلاه وقــد تخـدعـك أنـفـاس الـريـــاح ِ وكيـف يَكِــد مهجـتـَه حـــريــص يرى الارزاق في ضرب القِداح ِ وهذه الابيات لابن نباتة وقد تقدم ذكرها في فصل الحكاية .فلا حاجة لنا بتكرار ما قلناه بصددها. (6) أصـدُّ عن الدنيـا على حبي الدنيـا ولا بـد من دنيـا لمـن كـان في الدنيـا وأدفـعــها عني بـكـفـــي مـلالــة وأجذبــها جـذب المخــادع بالأخــرى والبيتان لابن محارب الفيلسوف ، وقد جاء ذكرها في المقابسة التاسعة والثمانين ، وهما من الادب الفلسفي ،وللشطر الثاني من البيت الاول ، على ما فيه من جمالية ، يمثل خلاصة البيتين .وقد وصفهما ابو سليمان بقوله : (هذا كلام رقيق الحاشية، حسن الطالع، مقبول الصورة، يدل على ذهن صاف، وقريحة شريفة، واختيار محمود، وذهن ناصع، ورأي بارع). وفي الاجمال ان البيتين يجسدان الصراع بين قوى النفس من جهة والعقل من جهة أخرى ، وكذلك بين الطبيعة التي تسوس الجسد ـ جسد الانسان ـ وبين العقل ، ففي الطبيعة خساسة الانسان وفي العقل جرمه العالي . (7) ونذكر هاهنا الابيات الشعرية كما وردت بقلم ابي حيان مع تعليقه عليها كما جاءت بنصها في المقابسة التاسعة والثمانيين : قال ابو سليمان : ثم انظر إلى قول شيخنا أبي زكريا يحيى بن عدي فإنه أنشد يوما لخالد الكاتب : لســت أدري أطــال ليـلــي أم لا كيـف يـدري بـذاك من يـتقـلى لــو تفـرغت لاسـتطالـت لـيـلـي ولـرعى الـنجوم كنـت مخلاً فقال له يحيى بعد أيام: قد عارضت خالد الكاتب في قوله! ثم أنشد: إن يكــن لا دريَّ إلا الـمـخــلى لســت ادرى إن لست ادرى أم لا أو تـكــن داريــــاً بـذاك فـهـلا كـنــت تــــدري أطــال ليـلــك أم لا؟ قال: وانفلت أصحابنا عنه بالضحك والتعجب. كيف يسلب الفاضل توفيقه في وقت مع البصيرة الثاقبة ، والعلم الواسع ولم ينشدنا أبو سليمان هذه ليحيى بن عدي حتى ألححنا عليه، وذاك انه قال: قد دلّ بشعره على ركاكته في هذا الفن، والتستر عليه أحسن. (8) وكان ابو سليمان يستحسن للبديهي قوله: لا تحســدن عــلى تظاهــر نـعـمة شــخصاً تبيت لـه المنون بـمرصـد أوليــس بــعــد بـلـوغــه آمـالــــه يـفضي الـى عــدم كــان لم يوجـــد لوكنت احسد ما يجاوز خاطـري حســد النجــوم على بقــاء ســرمــد وكان يقول: ما افلح البديهي قط الا في هذه الأبيات. وصدق . كان غسيل الشعر، سريع القول، قليل الحلاوة . (9)فأما أبو سليمان فإنه كان يقرض البيت والبيتين، وينشدنا ذلك سرا وينهى عن بثه عنه، ويقول: من انتحل لضعفه قوة غيره قحة وجسارة، فقد استجر إلى نفسه فضيحة وخسارة، فمن قوله: واني عزوف النفوس عمن يخونني واعطى قيادي للحبيب المؤالفِ اشتاطره روحـي ومالـي وأتـقّـــــي حـذاراً عليـه من رياح عواصفِ فان خـان عهدي لم اخنـــه ولم اكن علـى ما ارى من غـدره بمواقف واتـرك عُقبـــاه لعُقبـى فـعـالـــــــه ففــي عقـب الايــام كل التناصـفِ ومن قوله أيضاً: وأيام البطانة التصـابـي بكيت علـى مفارقــة الشبابِ وأيــام التجنــي والـعـتـــاب مضت فكأنها لمــا تـولـّــت سراب او سحاب في الحساب هي الدنيا فان ولت تولـــت معقبة .............* بالعقاب لتبــلي كــل ملبوس جديـــد وتمزج كــل معســول بصاب بــياض الشيب اعلام المنايا نشــرن نذيــره لـــك بالذهــاب هو الكـفـن الـذي يَبْلى ويُبْلي ويأتي بعــده كفـــــن التراب (... ) ساقطة عن نص المحقق محمد توفيق حسين وهي النسخة التي اعتمدناها في جميع دراساتنا حول المقابسات . (10): لما تجـاوز حـسـي وفات مسي ولمسـي ولــم أزل أتــقــــرى دليل أبنـاء جـنـسـي فلم يكـن ذاك يُجـْدي ولا يعـــــود بأُنـسـي رجعت نحوى لشـرط نفيت عنــــي حـسـي فلاح تحت ضلوعــي ما قُدَّ من قرن شمسي فقلت هذا طـــــريقي مــن غـير شك ولُبْس وغصت حتى تجلى واشـــرقت منه نفسي والقصيدة منسوبة الى " بعض الالهيين " على حد تعبير ابي حيان ، وقد انشدها لابي سليمان ابو حيان نفسه ، وأبو سليمانقال فيها : ما أحسن الأدب والحكمة إذا كان هذا من ثمرها؟. والقصيدة تذهب الى ان التواصل بين البشر لابد ان يكون عبر الحس ، وان فقد فالوحشة بانعدام الانس . وبدون الحس يذهب الانسان منزويا منطويا منقطع الصلة مع ابناء جنسه الا انه وحسب الشاعر هو الغوص داخل النفس الذي من شأنه ان يشرق النفس . هذا ما يقوله الشاعر .. ولكن اليست النفس معشوقة الحس وان اشراقها اجلاء للحواس ؟ فالانفس متغذية ونامية وغضبية ..و الى آخره . ان قيمة القصيدة ليست فنية بل بما تنطوي عليه من شرح لعلاقة الحس بالانسان وبعقله وباشياء اخر متلازمة . ومع ذلك فهي من الادب الفلسفي . رابعا : الخلاصة والاستنتاجات تتوافر المقابسات على اجناس ادبية عدة ، والقسم الاعظم منها كتب لاغراض فلسفية ، الا ان الناحية الفنية لهذه الاجناس قد تراجعت لصالح مضمونها الفلسفي. وليس صحيحا الاعتقاد ان هذا شأنا للادب الفلسفي ، فقصيدة الطلاسم لايليا ابو ماضي قد امتازت بالناحيتين : الفن الرفيع والمضمون الفلسفي ، وثمة امثلة كثيرة في الادب الفلسفي لها هذه المزية المزدوجة . الا اننا نرى ان الاجناس الادبية في المقابسات ، وعلى وجه الاجمال ، ذات صفة تمثيلية من جهة ، وذات صفة فلسفية من جهة ثانية ، وما تبقى فهو محض طـُرف تستجيب لقوة البلاغة التي يتمتع بها ابو حيان التوحيدي وتأنس نفسه بها . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1)التراث اليوناني في الحضارة الاسلامية : 89 ،في مقدمة المحقق (( محمد توفيق حسين )) ص 17 . * السجستاني هو ابو سليمان المعروف بالمنطقي وكان استاذا لابي حيان التوحيدي واغلب المقابسات هي املاءه على ابي حيان التوحيدي . (2) من مقدمة محمد حسين توفيق ـ المحقق . (3) دائرة المعارف الاسلامية ، في مقدمة المحقق ص 11 . (4) قمنا مؤخرا بانجاز هذا العمل وألفنا فيه كتابا بعنوان ( مقابسة المقابسات ـ التعريفات والمباحث والمسائل الفلسفية لمقابسات ابي حيان التوحيدي ) من المؤمل طباعته واصداره خلال هذا العام 2008 . (5) الدكتور محمد شفيق شيّا ( في الادب الفلسفي ) : 133 (6) انظر دراسة د.ناجي التكريتي ( فلسفة الجمال عند افلاطون ) مجلة الموقف الثقافي ـ بغداد ـ العدد 28 لسنة 2000 م ص 41 وما بعدها . (7) المقابسة 48 (8) المقابسة 48
#عبد_الرحمن_كاظم_زيارة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مبادئ في التحليل البنيوي
-
التوازن في مقالة المقابسات
-
مقدمة في علم البنى
-
البنية الزمرية
-
الاناسة اوعلم تالاجتماع
-
التباديل واحصاءات البنية
المزيد.....
-
الجمهوريون يحذرون.. جلسات استماع مات غيتز قد تكون أسوأ من -ج
...
-
روسيا تطلق أول صاروخ باليستي عابر للقارات على أوكرانيا منذ ب
...
-
للمرة السابعة في عام.. ثوران بركان في شبه جزيرة ريكيانيس بآي
...
-
ميقاتي: مصرّون رغم الظروف على إحياء ذكرى الاستقلال
-
الدفاع الروسية تعلن القضاء على 150 عسكريا أوكرانيا في كورسك
...
-
السيسي يوجه رسالة من مقر القيادة الاستراتجية للجيش
-
موسكو تعلن انتهاء موسم الملاحة النهرية لهذا العام
-
هنغاريا تنشر نظام دفاع جوي على الحدود مع أوكرانيا بعد قرار ب
...
-
سوريا .. علماء الآثار يكتشفون أقدم أبجدية في مقبرة قديمة (صو
...
-
إسرائيل.. إصدار لائحة اتهام ضد المتحدث باسم مكتب نتنياهو بتس
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|