|
الإنتاج الصغير ورأس مال المساهمة: بالاشارة لوضع السودان
محمود محمد ياسين
(Mahmoud Yassin)
الحوار المتمدن-العدد: 2311 - 2008 / 6 / 13 - 11:14
المحور:
الادارة و الاقتصاد
جاء مؤخراً فى الأخبار الإقتصادية العالمية أن دولة قطر تسعى سعياً حثيثاً لتحويل الشركات الصغيرة لديها الى شكل من أشكال الشركات الاخرى سواء كانت شركات قابضة او شركات مساهمة وذلك بتشجيع إندماج تلك الوحدات الصغيرة مع بعضها البعض . وتقوم الفلسفة القطرية فى هذا التوجه الى أن الشركات الوطنية المساهمة الكبرى هى القادرة على منافسة الشركات الاجنبية ، والاكثر ملاءمة لدفع التنمية الاقتصادية الشاملة وذلك لسهولة تطبيق قواعد الحوكمة (Governance ) عليها . وقد تنجح دولة قطر الصغيرة جدا جداً فى هذا الخصوص لوفرة رؤوس الاموال وللفائدة التى يمكن أن تجنيها إستراتيجية الدولة العظمى ، التى تتمتع بعلاقة متميزة مع قطر ، من هذا الأمر. على أى حال ، قصدنا إيراد هذا الخبر كمدخل لما نرمى اليه من عرض الافكار التي يسوقها هذا المقال على أساس أن ما تدعو له قطر مبادرة سبقت بها رصفائها من الدول النامية وإن توجهها صحيح إذا ما نظرنا إليه من منطلق إقتصادى عادى . الدرس الأمبريقى (Empirical ) الذى يعلمنا له تاريخ العالم الاقتصادى هو ان التنمية الاقتصادية الشاملة ، فى أى مكان ، لم تتحقق الإ باللجوء الى الانتاج الكبير . فنظام الانتاج الرأسمالى كما تمثله دول الغرب ، يتميز بجعل العمل ولأول مرة إجتماعياً . ففى هذا النظام نزعت رؤوس الاموال للتمركز الذى صاحبه التخصص فى العمل ؛ وأدت هذه العملية إلى إندماج الوحدات الإنتاجية الصغيرة فى شكل مجمعات صناعية ضخمة مختلفة الأهداف . وبعكس النظام الحرفى السابق للرأسمالية حيث كان الحرفى منعزلاً ويقوم بكل العمليات لإنتاج سلعة معينة ، نجد أن الصناعات الرأسمالية يتخصص كل منها فى جانب واحد من النشاط الإنتاجى ولا غنى عن إرتباطها العضوى فيى بينها لإكمال أى عملية إنتاجية . وتاريخ الرأسمالية كظاهرة إقتصادية – إجتماعية ، بجانب نقل غالبية الناس عن النشاط الزراعى وتحويلهم لمجال الإنتاج الصناعى ، هو تاريخ إفناء الإنتاج الحرفى وتحويل صغار المنتجين لعمال أجراء . وحتي الانتاج الصغير الموجود حالياً في الدول الصناعية ما هو الا كالزوارق الصغيرة التابعة للبوارج الكبيرة، بمعني انه شكل من الهندسة المالية والادارية تقوم بها شركات عملاقة لتحقيق الكفاءة في عملياتها؛ فمثلاً سلسلة مطاعم (الماكدونالدز) في العالم التي يمثلكها ملاك صغار يقف ورائها تنظيم عملاق يمنحها الترخيص (Franchise )، والتقنية ، وفنيات صناعة الطعام ...الخ مقابل رسوم معينة (Royalties). وفى المقابل إعتمدت دول المعسكر الإشتراكى السابق فى نهضتها الاقتصادية المشهودة ليس على الإنتاج الصغير ، بل على التصنيع الثقيل وتحويل الزراعة الى وحدات كبيرة مثل مزارع الإتحاد السوفيتي السابق الجماعية وكميونات الصين الهائلة . فى السودان تمثل الصناعات الصغيرة والحرفية اكثر من 90% من المجموع الكلى لوحدات القطاع الصناعى . وأميز مايميز هذه الوحدات هو قصر عمرها ، فحتى تلك الوحدات التى يقف خلفها إلتزام شديد وعاطفة قوية من جانب أصحابها (كالأعمال العائلية) لا تلبث أن تضعف وتتلاشى كلياً بعد جيل او جيلين. من وجهة نظر إقتصادية صرفة تعزى معوقات نمو الصناعات الصغيرة والحرفية فى السودان لعدة عوامل فهناك معوقات إدارية وتنظيمية تجعل تدفق القروض الإئتمانية التى تحتاجها الصناعات الصغيرة لإغتناء السلع الرأسمالية (الإنتاجية) ولتمويل رأس المال العامل الضرورى للتشغيل مسألة شبه مستحيلة من وجهة نظر المؤسسات التمويلية واهم هذه المعوقات تتمثل فى :ـ 1. عدم تبنى الصناعات الصغيرة والحرفية لأنظمة محاسبية ونظم لحفظ المعلومات عن إنتاجها وإستهلاكها من المواد الخام ما يجعل مهمة الإضطلاع بدراسات الجدوى فى هذا المجال غير ميسَرة ، مما يجعل التعرف على نقاط الضعف والقوة لتلك الوحدات أمراً صعباً ، وبالتالى يفشل الممولون فى التأكد من صلاحية هذه الوحدات لمساعدتها على إقتناء السلع الرأسمالية لتحديث وتوسيع عملياتها . وكذلك يعزى لغياب تلك البيانات صعوبة معرفة إحتياجات تلك الصناعات لرأس المال العامل بصورة دقيقة . 2. عدم توفر الضمانات التى تطلبها البنوك كالرهن العقارى ، فمعظم أصحاب الصناعات الصغيرة والحرفية لا يمكلون العقار القابل للرهن ويمارسون أعمالهم فى محلات على أساس الإيجار . 3. إختلاف طبيعة الظروف المحيطة بالأعمال الصغيرة والاختلاف بين بعضها البعض ، والاختلاف بين الحرفة الواحدة . وهذا يجعل إستنباط مؤشرات معيارية يمكن تعميمها على عدة أنشطة حرفية عند دراستها بغرض تمويلها ، موضوعاً شاقاً ومكلف ويتسم بالبطء ، لانه فى هذه الحالة لا مفر من دراسة كل حالة على حدة . كل المعوقات الإدارية والتنظيمية – الطابع السابقة وضعت الصناعات الصغيرة والحرفية ، الخاصة بالنجارة والخراطة والحدادة ودباغة الجلود وصناعة الاحذية والملابس الشعبية والاغذية ، وضعتها خارج دائرة إختصاص المؤسسات التمويلية لعدم توفر شروط التمويل عليها . يعتقد البعض أن البرامج التدريبية التى تضعها بعض الجهات المهتمة بقطاع الإنتاج الصغير ، لمساعدة الصناعات الصغيرة والحرفية من شأنها أن تحل بصورة كاملة معضلة عقباتها الادارية والتنظيمية . ولكن هيهات لهذه البرامج ان تغطى العدد الهائل من وحدات هذا القطاع المبعثرة على إمتداد الساحة السودانية . وفى أحسن الأحوال قد تثمر هذه البرامج فى تحويل وحدات صغيرة العدد تتمثل فيها الضوابط الإدارية والمالية والتنظيمية فى شكل النموذج الحسن . ولكن إذ أمعنا النظر ودققنا فى وضع قطاع الإنتاج الصغير والحرفى ، سنجد أن العامل الرئيسى لكل مشاكله ، الذى يقعد به عن عن التطور والعقبة الكؤود التى تسد أمامه نوافذ التوسع ، هو ضعف قاعدة رأس مال المساهمة (Equity Capital ) لديه . فالعامل الحاسم المؤدى لعدم صلاحية الوحدات الصناعية الصغيرة والحرفية للتمويل المصرفى هو فقدان هذه الوحدات لرأس المال الذى يمكن أن تساهم به فى أى عملية تمويلية لإغتناء السلع الإنتاجية (الآلآت والمعدات) . فكما ذكرنا سابقاً فإن معظم هذه الوحدات تفتقد لإمتلاك الأصول التى تتيح لها مقابلة مساهمتها فى العمليات التمويلية بالمستوى التى تتطلبه البنوك . للإلتفاف حول هذه المشكلة تفتقت قرائح المنظمات التمويلية العالمية مثل مؤسسة التمويل الدولية (IFC) ان الحل يكمن فى إنشاء صناديق (رأسمالية) فى الدول الفقيرة تتبناها (مع مروجيها) المصارف الوطنية والمؤسسات المالية الاخرى (عالمية ومحلية) يكون هدفها تمويل الصناعات الصغيرة ، ليس عن طريق القروض ، بل بالمساهمة فى رؤوس أموال تلك الوحدات . وتبع هذا البرنامج مؤسسات التمويل الاقليمية كبنك التنمية الافريقي وبنك التنمية الآسيوى واطلق على هذه الصناديق أسم (Venture Capital Funds) أى "صنادي رأس المال المٌخاطر" وأٌستمدت هذه الفكرة من تجربة ظهور رأس المال المخاطر او المقامر الذى بدأ في الدول الصناعية الغربية فى مستهل الستينات من القرن الماضى مترافقاً مع الثورة التكنولوجية فى مجال الكمبيوتر والالكترونيات وتكنلوجيا المعلومات. فقد هدف هذا النوع من التمويل (المقامر) للمساهمة فى شركات صغيرة تعمل فى المجالات السابق ذكرها وتحويلها من أفكار لشركات كبرى (مايكروسوفت مثالاً ). والمسألة الأساسية بالنسبة للبنوك وللمؤسسات المالية المنشئة لهذه الصناديق هى إستراتيجية الخروج (Exit strategy ) من هذه الوحدات فى الوقت المناسب أما عن طريق البيع المباشر لمستثمرين آخرين او عن طريق الإدراج على البورصات كسياسة خروج من الاستثمارات عن طريق بيع الاسهم . فغاية المصارف المشتركة فى هذه الصناديق هى تحرير رؤوس أموالها وتحقيق السيولة التى تحتاجها فى عملياتها البنكية المختلفة إتساقاً مع طبيعة عملها. ولكن فى الدول الفقيرة وخاصة الأفريقية ، ومنها السودان، أين هى تلك اسواق المال الأولية والثانوية الفاعلة والمتطورة التي تٌمكن المصارف من توريق او تسنيد (Securitization) رؤوس أموالها فى الوحدات الإنتاجية الصغيرة ؟ وفى حالة إتجاه المصارف لبيع مساهماتها فى الوحدات الصناعية الصغيرة بصورة مباشرة لمستثمرين راغبين فى الشراء ، يٌطرح السؤال : أين تلك القاعدة الواسعة لرؤوس الاموال فى الدول الفقيرة التى تسارع بشراء المساهمات البنكية فى المشاريع موضوع حديثنا ؟ بل اين هو راس المال المستعد لاستبدال تدفقات نقدية حالية بتدفقات نقدية مستقبلية تحفها كثير من المخاطر ؟ لهذه الأسباب مازال آثر "صناديق المخاطرة" الهادفة لتمويل الصناعات الصغيرة ضعيفاً فى الدول النامية التى تمت تجربتها فيها . يبدو انه ليس من سبيل لتطوير قطاع الصناعات الصغيرة والحرفية غير تكتل أصحابها فى تعاونيات صناعية كبيرة نسبياً وهذا على أساس التخصص الانتاجى . فهذه التعاونيات الصناعية يكون لها المقدرة كمجموعة على توفير الأصول التى تمكنها من التأهيل للتمويل المصرفى ، وعلى تجاوز الوسطاء الموردين للماكينات والمعدات والمواد الخام التى تحتاجها وذلك لان الشكل التكتلي يضع التعاونيات فى وضع يسمح لها بحيازة رخص الاستيراد والتصدير وبالتالى الحصول على إحتياجاتها بشكل مباشر . ولكن اذا تجاوزنا للحظة الاعتبارات الاقتصادية العادية التى تشير الى جدوى نشاء مجمعات صناعية تعاونية كبيرة فالاعتبارات السياسية تواجهنا بالاشكال الخالد وهو مدى إمكانية إزدهار التصنيع الوطنى (الحرفى او غيره) فى ظل كبح تطور القوى المنتجة الذى تمارسه ضد بلادنا الهمينة والتدخل الخارجى. ونقول للقارئ أن الدول الصناعية الكبرى بحكم النظم الإقتصادية والإجتماعية السائدة فيها الآن لن تسمح تحت شعار العولمة (وبالمناسبة العولمة ليست بالشئ الجدديد ، وهذا موضوع آخر) ، لن تسمح هذه الدول بإنتقال التقانة وأساليب الإنتاج التكنلوجية التى يحتاجها الانتاج الكبير ، بأى حال من الاحوال ، للدول الفقيرة . فما يسمى بالعولمة يشمل بشكل اساسي توسيع نطاق حركة تنقل رؤوس الاموال والسلع التى بدأت منذ نهاية القرن التاسع عشر وليس اكثر من ذلك . كخاتمة لهذا المقال ، نقول ان حصر نشاط صغار الصناع والحرفيين فى حدود العمل النقابى ، رغماً عن كل ما يعنيه فيما يتعلق بتحسين اوضاعهم الاقتصادية ، غير كاف لإحداث التطور الشامل لقطاع الانتاج الوطنى الصغير . فإن إنشاء مجمعات تعاونية لصغار المنتجين تمارس عملاً تجارياً وصناعياً صرفاً هى مسألة تقع خارج نطاق العمل النقابى . وقوة الدفع في إتجاه إنشاء المجمعات التعاونية الصناعية تنبع من مكانة صغار المنتجين في الاقتصاد . فالنتذكر أن صغار الصناع والحرفيين من نجارون وخراطون وحدادون وصانعوا الاحذية والاثاثات والاوانى المنزلية والاطعمة والمشروبات والعاملون فى مجال صيانة وتصنيع بعض اسبيرات الماكينات والمركبات والحاصدات الزراعية ، فالتذكر ان توقف هؤلاء عن العمل فقط لعدة ايام ، يصيب الاقتصاد الوطنى بالشلل شبه الكامل لانهم يصنعون ويجهزون حوالى اكثر من ثلثى إحتياجات السكان الإستهلاكية والمنتجة .
#محمود_محمد_ياسين (هاشتاغ)
Mahmoud_Yassin#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نظرية تطوير القوى المنتجة واسترداد الرأسمالية فى الصين
-
الطريقة المادية وعلا قات الارض فى السودان:تعليق على كتاب -أص
...
-
حول ملكية 2% من البشر لثروات العالم
-
القيمة وسقوط الاتحاد السوڤيتى
-
فى الذكرى الستين لتأسيسه: الحزب الشيوعى السودانى والعمل النظ
...
المزيد.....
-
مصر.. الكشف عن خطط لمشروع ضخم لإنتاج الطاقة الهجينة
-
مصر.. الدولار يقترب من مستوى تاريخي و-النقد الدولي- يكشف أسب
...
-
روسيا والجزائر تتصدران قائمة مورّدي الغاز إلى الاتحاد الأورو
...
-
تركيا تخطط لبناء مصنع ضخم في مصر
-
زيادة جديدة.. سعر الذهب منتصف تعاملات اليوم الخميس
-
-الدوما- يقر ميزانية روسيا للعام 2025 .. تعرف على حجمها وتوج
...
-
إسرائيل تعلن عن زيادة غير مسبوقة في تصدير الغاز إلى مصر
-
عقارات بعشرات ملايين الدولارات يمتلكها نيمار لاعب الهلال الس
...
-
الذهب يواصل الصعود على وقع الحرب الروسية الأوكرانية.. والدول
...
-
نيويورك تايمز: ثمة شخص واحد يحتاجه ترامب في إدارته
المزيد.....
-
الاقتصاد المصري في نصف قرن.. منذ ثورة يوليو حتى نهاية الألفي
...
/ مجدى عبد الهادى
-
الاقتصاد الإفريقي في سياق التنافس الدولي.. الواقع والآفاق
/ مجدى عبد الهادى
-
الإشكالات التكوينية في برامج صندوق النقد المصرية.. قراءة اقت
...
/ مجدى عبد الهادى
-
ثمن الاستبداد.. في الاقتصاد السياسي لانهيار الجنيه المصري
/ مجدى عبد الهادى
-
تنمية الوعى الاقتصادى لطلاب مدارس التعليم الثانوى الفنى بمصر
...
/ محمد امين حسن عثمان
-
إشكالات الضريبة العقارية في مصر.. بين حاجات التمويل والتنمية
...
/ مجدى عبد الهادى
-
التنمية العربية الممنوعة_علي القادري، ترجمة مجدي عبد الهادي
/ مجدى عبد الهادى
-
نظرية القيمة في عصر الرأسمالية الاحتكارية_سمير أمين، ترجمة م
...
/ مجدى عبد الهادى
-
دور ادارة الموارد البشرية في تعزيز اسس المواطنة التنظيمية في
...
/ سمية سعيد صديق جبارة
-
الطبقات الهيكلية للتضخم في اقتصاد ريعي تابع.. إيران أنموذجًا
/ مجدى عبد الهادى
المزيد.....
|