هايل نصر
الحوار المتمدن-العدد: 2310 - 2008 / 6 / 12 - 10:45
المحور:
دراسات وابحاث قانونية
لا أمل لنا كشعوب وكإفراد بأي مستقبل في دول أنظمتها مستبدة, وقوانينها صورية وطوارئها مؤبدة ودساتيرها, إن وجدت, معلقة من حبل الوريد.
أنظمة لا تسعى لاستمداد شرعيتها من إرادة شعوبها, ولا تنوي فعل ذلك, ولا تأبه به, فهو آخر اهتماماتها, وإنما هدف سعيها الدائب هو فرض إرادتها على هذه الشعوب, بجبروت, وبكل وسائل القمع, بالاستعلاء واحتقار الآخر وإلغائه, والآخر هنا هو المواطن. وفي الوقت نفسه الرضوخ والخنوع للآخر, والأخر هنا هو الأجنبي, الحامي لها عند كل هزة, المنافق, وصاحب المصلحة الظاهر منها والمستتر, مصلحة تعلو على كل شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان المنادى بها بأسلوب المقاول والمستثمر وحسه, فالإنسان غير إنسانه. انه المواطن العربي ضحية المصالح المتقابلة.
أنظمة تستميت لتدعيم حكمها بكل الوسائل, إلا الشرعي منها, فتسمي انتصارا مدويا كل خروج لها من مأزق أوقعت نفسها به, أو أوقعتها به المتغيرات الدولية وتبدل المصالح. أما بناء الدولة العصرية دولة القانون والمؤسسات ــ التي لم يعرفها تاريخنا طيلة حقبه. عرف "حكاما/دولا", أو حكاما/ فوق دول, أو حكاما/ مراكز محيطها دول. وحديثا, والتحاقا بالحداثة, أقاموا امتدادات لهم سموها مؤسسات ــ وبناء الإنسان فهو لا يدخل في استراتجياتها ولا في تفكيرها.
لا يختلف نهج المعارضات, وتلك التي تصر على تسمية نفسها بهذا الاسم ــ مع أن اسم المعارضة فضفاض على جسمها يظهرها, في غالبيتها, هزيلة جدا بداخله ــ فهي ترى دورها, حين يكون لها بعض الدور, في مجرد كشف بعض ممارسات السلطة, وبعض الفساد في درجاته الدنيا, وبعض الرشاوى, دون امتداداتها. مغرقة في التفاصيل وحدها, تنقصها جرأة الإشارة للأسباب الحقيقية في كل ذلك. وبعد جهد كبير ونضال طويل تتوصل لكشف ما هو مكشوف ( كمن يفسر الماء بعد الجهد بالماء). معارضات بلا برامج بديلة ذات مصداقية, ولا رؤى حاضرة أو مستقبلية, لا تسعى للوصول إلى الإنسان في عمقه وعمق احتياجاته, المادي منها والمعنوي: العمل الشريف والكرامة الموفورة, الأمان في ظل القانون, والقانون وحده. ومع ذلك لا يدعو احد للسكوت على الواقع المرير وعدم النقد والكشف والفضح, وإنما الجميع يدعو لعدم التلاعب بالآم وآمال ـ أن بقي شيئا منها ـ المواطنين, عن طريق قول كل شيء إلا المفيد والصادق والجريء. فالإصلاح العميق لا يكون بغير التغيير الجذري, وإقامة الدولة على أسس الدولة القابلة للحياة الطبيعية في القرن 21.
الأمل, رغم ضعفه واهتزازه, يبدأ بالتفكير والعمل على إعادة بناء الإنسان المقهور (لا يُصفع الإنسان تعد إلا في منطقتنا, ولا يُشتم ويسمع بذيء الكلام من أصحاب الشأن, والمستظلين بظلهم, إلا فيها. ولا تُسلب حريته وحتى حياته لكلمة عابرة قالها أو نُسب إليه قولها إلا بها. ولا يجوع أحد في ارض خصبة, مع انتفاء كل أسباب الجوع, إلا في أرضها. وفيها تُهدر الكرامة ويُزرع الخوف في النفوس منذ الطفولة, ومنذ الطفولة يبدأ تطبيع الإنسان على الطاعة العمياء وعلى الخنوع بأنواعه. و فيها يصادق سلفا ودون نقاش على كل ما فعله ويفعله و سيفعله الحاكم, حتى ولو غير مصير الوطن. وفيها دون غيرها يُحتقر ويُداس القانون ولا يرثيه لا الظالم ولا المظلوم. ــ وهذا أيضا من قبلنا نحن ليس إلا كشف للمكشوف ـ) لتصبح إرادته وحدها مصدر الشرعية. وإرادته وحدها هي العليا.
ليس هذا تبشير بطريقة المواعظ, ولا تخيلات شاعرية, ولا مواويل جبلية, ولا أحلام يقظة, أو طفولة سياسية, فلنا في غالبية دول العالم, بما فيها الثالث منه, وفي سقوط الدكتاتوريات و إقامة أنظمة القانون والديمقراطية وحقوق الإنسان على أنقاضها, أمثلة واضحة. فلما لا نأمل أن نكون نحن أيضا أبناء عصرنا وقيمه؟.
قد لا يرى البعض لهذه المقدمة علاقة فيما سنعرضه في السطور القادمة في موضوع القضاء الدستوري. وقد يبدو في ذلك بعض الصحة إذا فصلنا بين الدستور والقانون والحقوق, بين القانون والإنسان, بين القضاء والإنسان, بين السياسة والإنسان. وبين الإنسان وعصره. وإذا تجاهلنا أن الإنسان وسعادته وكرامته هو هدف كل بناء سياسي وتنظيم قانوني. وان القانون هو الذي يعطي له حريته ويحميها فبدونه لا يستطيع الإنسان إثبات انتمائه كليا ونهائيا للجنس البشري المتحضر.
وكما بينا في مقالات سابقة, لا نريد الكتابة لا باللغة الأكاديمية ولا بأسلوبها, ولا بادعاء الموضعية والإغراق فيها إلى درجة عدم استطاعة قول الحقيقية, أو الهروب من قولها ــ كثيرا ما اتُخذت الموضعية كمهرب جبان, أو انتهازية ثقافية, أو حتى تبرير أفكار ظلامية. تكفي مواطنينا موضوعية المفكرين والعلماء و الدكاترة المطلين عليهم, بالمئات وبشتى الاختصاصات, من شاشات التليفزيونات ليخاطبوهم بدكترة خالصة وموضعية يطير بها مجرد نقد عابر ليحل محلها الصراخ والشتائم والبدائية ــ وإنما باللغة التي تيسر, قدر الإمكان, إيصال المعلومة للجميع, وهذا لا ندعيه وإنما نحاوله.
وبالعودة لموضوعنا ــ الذي نتوخى منه تقديم نماذج عن تجارب الآخرين ممن استطاعوا بناء دول, وعملوا وفكروا أكثر مما ادعوا وشتموا, وصراخا صرحوا و"انتفشوا" ــ فبعد عرض سريع قدمناه في المقال السابق متعلق بالقضاء الدستوري نسلط الضوء في السطور القادمة على مثال حسي يبين ما هو معمول به حاليا في هذا المجال في فرنسا , وذلك بالإشارة إلى المجلس الدستوري الفرنسي conseil constitutionnel .
يبدو وكانّ الفرنسيين اكتشفوا حديثا عام 1958 ـ ولا يعيب الشعوب الحية الاكتشاف ولو متأخرا ــ بان مقولة جان جاك روسو " القانون تعبير عن الإرادة العامة" لا تكتمل إلا إذا تم الاعتراف بان " القانون المصوت عليه لا يعبر عن الإرادة العامة إلا باحترامه للدستور".
وفي ذلك يعيدون تأخر ظهور مؤسسة للرقابة على دستورية القوانين عندهم لأكثر من قرن ونصف ــ خاصة وان فرنسا كانت من أوائل دول العالم التي عرفت دساتير مكتوبة ــ إلى أسباب تاريخية وسياسية ونفسية. وقد تساءل بهذا الصدد ديديه موس Didier Maus قائلا بان فرنسا الفخورة بإعلان حقوق الإنسان والمواطن لعام 1789, وبتطويرها للرقابة على مشروعية الإدارة ابتداء من عام 1872, وتدوينها للقوانين في مدونات كاملة. فرنسا هذه لماذا لم تكمل نظامها القانوني بحماية الحقوق والحريات بإنشاء مؤسسة رقابة على دستورية القوانين؟. مجيبا على ذلك بالقول أن هناك عوامل تاريخية ونفسية يدخل فيها الحذر من المؤسسات القضائية, والإرادات السياسية المتعاقبة لتحقيق تحول تشريعي عميق, والخوف من " حكومة القضاة".
في الحقبة الثورية كانت الأوساط السياسية و غالبية الرأي العام تبدي حذرا شديدا تجاه السلطة القضائية, لان برلمانات النظام القديم (كانت تسمى المحكمة برلمان) تعارض غالبا السلطة الملكية فعندما ترى في قرارات الملك بعض ما لا يرضيها تمتنع عن تسجيلها بحجة أنها مخالفة للقوانين الأساسية للمملكة أو إنها تضر بالنظام الاجتماعي, الذي يتمسك به القضاة خوفا من إلغاء امتيازاتهم. وكرد فعل على هيمنة هذه المحاكم أراد الثوار وضع حد لمعارضتها لإرادة المشرع فجاء قانون 16ـ24 لشهر أوت/اب 1790 لينص على أن المحاكم لا يمكنها, بشكل مباشر أو غير مباشر, اتخاذ أي جزء من المهمة التشريعية , ولا يمكنها إعاقة أو منع تنفيذ قرارات الجسم التشريعي المصدقة من قبل الملك تحت طائلة الإخلال بالوظيفة. وما زال هذا النص نافذا منذ أكثر من قرنين. (الوثائق الفرنسية. رقم 1.15 2006 ).
كان لأفكار جان جاك روسو أثرها في المفهوم القانوني لتلك الحقب فالقانون يترجم إرادة الأمة السيدة مجسدة بممثليها المنتخبين وغير القابلة للمساس بها. وكان مع ذلك يعترف للدستور بقيمة قانونية تسمو على القانون العادي. ويظهر هذا السمو بضرورة إتباع إجراءات خاصة وصلبة حين اللجوء لمراجعة نص من نصوصه. و مع ذلك لم تتخذ أية إجراءات لحماية الدستور فقد اكتفي واضعو دستور 1791 بالدعوة للوفاء له واحترامه.
قبل الجمهورية الخامسة, أي بين الثورة ونهاية الجمهورية الرابعة عرفت فرنسا 12 دستورا مختلفا, لم تكن فيها الرقابة على دستورية القوانين موجودة نهائيا. وان وجدت كانت رمزية صرفة ( الوثائق الفرنسية المرجع السابق).
في عهد القنصلية والإمبراطورية كان مجلس الشيوخ كهيئة رقابة يُبقي أو يُلغي الأعمال التي تحال إليه على أنها غير دستورية من قبل le Tribunat ( واحد من المجالس الثلاثة استحدث عام 1800, سلطاته اقل من سلطات مجلس الشيوخ والجسم التشريعي, أحالت الإمبراطورية صلاحياته إلى الهيئة التشريعية, ليتم إلغاءه عام 1807) والحكومة. ولكن مجلس الشيوخ كان لا يملك استقلالا تجاه الإمبراطور, كما أن التريبنيا والحكومة كانا تحت الهيمنة الكاملة للإمبراطور. وعليه فلم يكن لنظام الرقابة أن يعمل في مثل تلك الظروف.
ولم يتغير دور مجلس الشيوخ في ظل الإمبراطورية الثانية ولم يقم بأي دور فعال كسابقه. كما أن القوانين الدستورية لعام 1875 التي أسست الجمهورية الثالثة لم تنص على الرقابة الدستورية . إلى أن جاء دستور 1946 (الجمهورية الرابعة) فانشأ هيئة رقابة سميت اللجنة الدستورية . ولم تكن هذه اللجنة قضاء دستوريا حقيقيا وإنما مجرد هيئة توفيق بين الغرفتين (المجلس الوطني ومجلس الجمهورية) يرأسها رئيس الجمهورية وتضم رؤساء الغرفتين و 7 أعضاء منتخبين من قبل الجمعية الوطنية و 3 أعضاء منتخبين من قبل مجلس الجمهورية. لجنة سياسية بتركيبها لان جميع أعضائها معينون من قبل السلطات السياسة. ولم يكن في الدستور أي نص على الصفة القضائية لها. لم تتدخل اللجنة الدستورية المذكورة طيلة فترة الجمهورية الرابعة إلا مرة واحدة عام 1948 اثر نزاع ثانوي نشب بين الغرفتين.
نشأة المجلس الدستوري الفرنسي عام 1958:
المجلس الدستوري مؤسسة نشأت من قبل دستور 4 أكتوبر 1958 للجمهورية الخامسة ليسهر على نظامية الأسس الانتخابية والاستفتاءات . وينظر في دستورية القوانين. وبعض اللوائح قبل دخولها حيز التنفيذ ويتدخل كذلك في بعض الظروف في الحياة البرلمانية والعامة. وبهدف حماية الحقوق الأساسية للإفراد, يزاوج المجلس بين دولة القانون والديمقراطية. ويعتبر اليوم ابتكار أساسي من أهم ابتكارات الجمهورية الخامسة ( بيير افريل المجلس الدستوري).
لا يقع المجلس في قمة الهرم القضائي ولا الإداري, فهو ليس محكمة عليا ــ كان مؤسس الجمهورية الخامسة الجنرال ديغول يقول أن المحكمة العليا هو الشعب ــ ومع ذلك تفرض قراراته نفسها على السلطات العامة وكل السلطات الإدارية والقضائية. وله والحالة هذه سلطة كبرى على مجموع المؤسسات الفرنسية. واتخذ مقرا له في القصر الملكي قريبا من مجلس الدولة.
حول طبيعة المجلس الدستوري:
في بداية النشأة كان الجدل عنيفا حول طبيعة هذا المجلس, هل هي سياسية أم قضائية, وذلك حتى نهاية السبعينات.
أطروحة الطبيعة السياسية للمجلس:
يقدم أصحاب أطروحة الطبيعة السياسية للمجلس ـ جانب محدود من الفقه كان يؤازرهم أعضاء في المجلس الدستوري نفسه ـ حجتين أساسيتين لدعم أطروحتهم: الأولى تؤشر طريقة تعيين أعضاءه من السلطات السياسية العليا في الدولة. فكانوا يرون في هذا تسييس للمجلس. الثانية, وهي اقل خلافية, تحيل إلى أن فكرة الرقابة الدستورية على القوانين, العمل الأساسي للمجلس, هي عمل سياسي أكثر منه عملا قضائيا. فتدخله قبل إصدار القوانين لرقابة تسبق الإجراءات التشريعية يقود المجلس إلى أن يكون فاعلا في هذه الإجراءات أو " شريك مشرع" من بعض الوجوه. ( Michel Troper, Débat, 1987, n° 83, p. 51 ).والذي يمارسه هنا ليست رقابة قضائية وإنما " مؤسساتية"
وحسب بيير افريل يتدخل المجلس الدستوري عند ي رفع دعوى منظمة مؤسساتيا تحرك دعوى الرقابة والتي لا تشكل نزاعا, ولكن قراءة تكميلية للقانون في مجمله هادفة إلى تفحص ما إذا كان القانون مطابقا لتعليمات الدستور . ( P. Avril et J. Gicquel, op.cit. p. 139 ).
وقد تساءل دومينيك روسو كيف يمكن لقضاة غير منتخبين, معينون من قبل صاحب السلطة السياسية مواجهة السلطة التشريعية المجسدة للأمة السيدة ؟. مسالة مشروعية الرقابة على دستورية القوانين مسألة معقدة: فإما أن لا توجد رقابة على القوانين, فتعاني الديمقراطية من قرارات المشرع التي قد تعارض الحريات و تنتهك الدستور الذي اقره الشعب, وإما أن توجد رقابة على القوانين ويمكن عندها ان تتعرض إرادة ممثلي الشعب للخضوع لمؤسسة لا تتمتع بالشرعية الانتخابية. كما ان المجلس الدستوري ليس غرفة ثالثة يقوم إلى جانب غرفتي البرلمان.
من الواضح أن فعل الرقابة الدستورية على القوانين يتضمن بعدا سياسيا من الصعب فصله عن البعد القضائي البحت. ومع ذلك يعترف أصحاب أطروحة الطبيعة السياسية للمجلس بان البعد السياسي الذي يطبع تركيب وعمل المجلس لا يسمح مع ذلك باستبعاد الطبيعة القضائية للمجلس المذكور, إلا إذا تم تبني مفهوما ضيقا خاصا لطبيعة المفهوم القضائي, وكذلك عدم الاعتراف بحقيقة المجالس الدستورية الأوروبية.
أطروحة الطبيعة القضائية للمجلس:
وهي اليوم أطروحة الغالبية العظمى. يعود الفضل بتعميقها والإقناع بها إلى عضوين سابقين في المجلس الدستوري وهما مارسال والين وفرنسوا ليشار ساندتهم في ذلك, لاحقا, الأغلبية المطلقة للفقه ( Le Conseil constitutionnel est – il juridiction ?, revue du Droit public 1979 ).
وتقدم في ذلك عنصرين أساسيين:
عنصر مادي. وهو أن للمحكمة أهلية النطق بالقانون وتحكم بمقتضاه وليس بمقتضى الأنصاف أو الملائمة .. وان عمل المجلس الدستوري, ضمن اختصاصات أخرى, النطق بدستورية النصوص المحالة إليه للنظر فيها. وهذا ما يقوده إلى تفسير الدستور والقوانين للحكم بمطابقتها او مخالفتها له. وبطبيعة الحال لا تنظر قرارات المجلس في النزاعات بين الأطراف, ما عدا المواد الانتخابية.
وعنصر شكلي يميز المحكمة, وهو حجية الشيء المقضي به المرتبطة بقراراتها. وبهذا الصدد توضح المادة 62 من الدستور دون لبس أن " قرارات المجلس الدستوري غير قابلة لأي طعن. تفرض على السلطات العامة وكل الهيئات الإدارية والقضائية". ولها حجية الشيء المقضي به. عبارة حجية الشيء المقضي به غير منصوص عليها في الدستور ولكن فُسرت المادة 62 المذكورة على أنها تتضمن هذه الحجية ( دومينيك روسو المرجع المذكور).
وتبقى ضرورة أن الأشخاص المدعون للنطق بالقانون يجب أن يكونوا حقوقيين juristes وهذا ما لم يتم أخذه بعين الاعتبار في القانون الأساسي للمجلس الدستوري, الذي لا يضم فقط حقوقيين وإنما كذلك سياسيين. ويبرر البعض ذلك بالقول أن القانون الدستوري نفسه هو " قانون سياسي droit politique "
في حين يشترط, غالبا, في تكوين المجالس الدستورية الأوروبية أن يكون أعضاؤها حقوقيين, ايطاليا وألمانيا. ومع ذلك فان بين الأعضاء ال 63 الذين تشكلت منهم المجالس الدستورية الفرنسية منذ عام 1959 كانت نسبة من يحملون درجة دكتوراه في الحقوق 26%. ونسبة الأستاذة المبرزين في كليات الحقوق 26% , بينهم أسماء مشهورة في فقه القانون الفرنسي مثل: الرئيس فرنسوا ليشار F. Luchaie و العميد جورج فيدال G. Vedel و الرئيس جاك روبير J. Robert وغيرهم من المشاهير. ويقرر بعضهم أن ما هو مهم ليس أن يكون المجلس مكونا من اختصاصيين في شتى فروع القانون, وإنما في التوازن بين المتخصصين وبين الممارسين praticiens التقنيين, بين السياسيين والحقوقيين, لان المسائل المطلوب النظر فيها هي في غالبيتها سياسية ـ قانونية.
ولم يعد يجادل احد اليوم بكون المجلس الدستوري محكمة ذات خصوصية. كما أن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان وصفت المجلس الدستوري بأنه " قضاء دستوري".وقد تجاوز الزمن الجدل حول طبيعته. وحسب روسو ليست معرفة ماهية المجلس الدستوري هو المهم ولكن ما يفعله ( ص. 59). وقد ترسخ في النموذج الأوروبي للقضاء الدستوري, رغم عدم مطابقته معها واحتفاظه بخصوصياته. واحتلاله مرتبة أساسية في صرح المؤسسات بصفته "حكومة للدستور". (افريل المرجع السابق)
تنظيم المجلس الدستوري:
يضم المجلس فئتين من الأعضاء:
أعضاء معينون وعددهم تسعة, يعين رئيس الجمهورية ثلاثة منهم, وثلاثة يعينهم رئيس الجمعية الوطنية, وثلاثة يعينهم رئيس مجلس الشيوخ. يجدد ثلثهم كل ثلاث سنوات. ولا يوجد أي شرط يتعلق بالاختصاص العلمي للأعضاء. وهم ليسوا قضاة مهنيين. والى جانبهم أعضاء معينون مدى الحياة هم رؤساء الجمهورية السابقين.
يُعين رئيس المجلس من قبل رئيس الجمهورية. ولصوته صفة ترجيحية في حالة تعادل الأصوات. ويجتمع المجلس بدعوة من رئيسه بكامل أعضائه . أو على الأقل بحضور 7 منهم في المنازعات الانتخابية التشريعية. ينقسم المجلس في 3 أقسام, يساعد أعضاءه 10 مقررين مساعدين مختارين من بين مقدمي العرائض في مجلس الدولة ومستشارين في ديوان المحاسبة.
لا تتلاءم العضوية في المجلس مع العضوية في الحكومة أو المجلس الاقتصادي والاجتماعي, أو النيابة في المجالس الوطنية أو المحلية, أو منصب مسؤول في حزب سياسي. يضاف إلى ذلك, وبهدف التزام قواعد النزاهة, وجوب تجنب اتخاذ أي موقف سياسي أو تحزب في القضايا المعروضة على المجلس .
الأمين العام للمجلس:
يعين بمرسوم من قبل رئيس الجمهورية بناء على اقتراح رئيس المجلس الدستوري. ويعتبر الأمين العام شخصية هامة إلى حد ذهاب بعضهم بوصفه العضو العاشر في المجلس. ويضطلع بمهام تتعلق بالاتصالات والتعاون الدولي. وخاصة مع الدول الساعية حديثا لبناء الديمقراطية في أوروبا الشرقية وبعض دول العالم الثالث, والتي ترى في المجلس الدستوري الفرنسي مثلا يُحتذى. ويشرف على بنك معلومات من أحكام المحاكم الدستورية الأوربية.
بلغت ميزانية المجلس الدستوري, عام 2004, 5535000 يورو.
اختصاصاته المجلس الدستوري:
المجلس الدستوري حارس الدستور. وهو مدعو للنطق بالقانون بقرارات معللة ولها حجية الشيء المحكوم به " L’autorité de chose jugée " . كما انه حامي الحقوق الأساسية, في مواجهة المشرع. ( وليس مثلما هو الحال عليه في بعض المحاكم الدستورية الأوربية ضد الإدارة والمحاكم)
منحه دستور 1958 اختصاصا مزدوجا : قضائي , واستشاري.
وتستند اختصاصاته حصرا على الدستور وقوانينه التنظيمية . وقد أعلن المجلس نفسه بأنه لا يملك إلا اختصاص صلاحيات وان " الدستور قد حدد بدقة اختصاص المجلس الدستوري, وانه غير مدعو للنظر في قضية أو إبداء رأي إلا في الحالات والطرق المحددة له". ( 14 سبتمبر 1961 Rec. ص. 55).
المهمة الأساسية للمجلس هي تقدير مطابقة القوانين للدستور, ومن هذا الواقع فهو مدعو للتدخل في سير القرار العام, ولو حسب نماذج مختلفة.
لا تقتصر هذه الاختصاصات على رقابة دستورية القوانين. فهي متعددة ومتنوعة. منها السهر على نظامية عمليات الانتخابات البرلمانية والرئاسية , وعلى الاستفتاءات . ومدعو لإعطاء أراء لرئيس الجمهورية حول عمل المادة 16 من الدستور المتعلقة بسلطات الأزمات وحول الإجراءات المقررة بمقتضى هذه المادة. ومدعو كذلك لإعلان الفراغ في رئاسة الجمهورية حين حدوثه. ومع ذلك تبقى الرقابة الدستورية على القوانين مهمته الأساسية. وقد حدد الدستور الحالات التي يستطيع التدخل فيها وهي حالات تدخله فيها إلزامي وآخري يكون التدخل فيها اختياريا.
فبمقتضى المادة 61 فقرة 1 تخضع القوانين التنظيمية واللوائح الداخلية للمجالس قبل دخولها حيز النفاذ لرقابته مطابقتها لدستوريته.
اختصاصات قضائية:
اختصاصات في مواد الرقابة على دستورية القوانين. وتقع على القوانين العادية بمقتضى المادة 61 فقرة 3 (بشكل خاص القوانين المالية , والقوانين المتعلقة بإجازة التصديق على المعاهدات..). والالتزامات الدولية بمقتضى المادة 54 فقرة 3
رقابة على اللوائح التنظيمية ( بمقتضى المادة 61 فقرة 3.). لوائح الجمعيات البرلمانية: الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ, واجتماع المجلسين كما تقرره المادة 89 من اجل المراجعة الدستورية.
وتمارس الرقابة عن طريق الدعوى بعد التصويت على القانون من قبل البرلمان ولكن قبل إصداره كقانون. الرقابة على التصديق أو القبول بالتزام دولي. بمقتضى المادة 54 فقرة 3 من الدستور.
كما يناط به تعريف الطبيعة القانونية لبعض النصوص. ويرى فيه البعض قاضي توزيع الاختصاصات بين القانون واللوائح.
المنازعات الانتخابية والاستفتاء
المجلس الدستوري قاضي المنازعات الانتخابية البرلمانية ( المجلس الوطني ومجلس الشيوخ, المادة
59 ). والاستفتاءات الوطنية ( المادة 60). ورقابة ما لا يتلاءم مع العضوية في البرلمان, وعلى إمكانية سقوط هذه العضوية.
الاختصاص الاستشاري:
يصدر المجلس الدستوري أراء استشارية بمقتضى المادة 16 من الدستور. وعليه أن يصدر استشارة إجبارية معللة حول شروط تطبيق المادة 16. الاستشارة غير ملزمة لرئيس الجمهورية.
تستشير الحكومة المجلس حول النصوص المتعلقة بتنظيم الاقتراع لانتخاب رئيس الجمهورية. (المادة 58 ). وفي الاستفتاءات الوطنية (المادة 60).
ولا تسمح لنا مساحة هذين المقالين في القضاء الدستوري, في صحيفة الكترونية, التوسع في ذكر أكثر مما ذكرناه فيما يتعلق بهذا القضاء, والمثال المعروض, المجلس الدستوري الفرنسي, ولا التطرق لأمثلة أخرى. وعلى الراغب في التوسع وبشكل خاص فيما يتعلق بالمجلس الدستوري العودة لبعض المراجع في القانون الدستوري التي يصعب حصرها, والى بعض المؤلفات حول المجلس الدستوري الفرنسي مثل:
المجلس الدستوري, بيير افريل. المجلس الدستوري, دومينيك روسو. المجلس الدستوري, هنري روسيليون, المجلس الدستوري, ليشار فرنسوا. الرقابة على دستورية القوانين والإدارة العامة , بلشار فيليب...
وأخيرا نتطلع, نحن العرب, لليوم الذي يعاد فيه الاعتبار لدساتيرنا فتسمو على واضعيها وحراسها. ويقوم قضاء دستوري فعلي, ورقابة على دستورية القوانين. فشعوبنا عانت إلى حد الهلاك من غياب القانون. وفقدت الأمل, إلى درجة اليأس, في عودة الغائب المنتظر. د. هايل نصر.
#هايل_نصر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟