|
غياب حقوق الإنسان مبرراً للنكسة ؟
هيثم مناع
الحوار المتمدن-العدد: 2308 - 2008 / 6 / 10 - 11:10
المحور:
حقوق الانسان
كنا في اليوم الأول لامتحان الشهادة الإعدادية عندما دخل المراقب العام وطلب منا الخروج من القاعة لأن "الكيان الصهيوني يشن عدوانا على الدول العربية التي باشرت بالرد عليه، فيمكن أن تذهبوا إلى بيوتكم أو أي ملجأ قريب". وقعت هذه الجملة وقع الصاعقة على مراهقين، طموحاتهم وأحلامهم ورؤيتهم للعالم أكبر من أجسادهم. باشرني التلميذ المحاذي بالسؤال: ماذا نفعل. قلت له نعود جريا ونختبئ عند مرور الطائرات. ضحك وردّ: بعدها القصة في أولها، فورا طائرات؟ بعد عشر دقائق كان هدير الميراج يحلق فوق مدينة درعا الجنوبية المتاخمة للجولان. سمعنا قصفا وعرفنا بأنه أصاب الرادار القريب في قرية مجاورة. لم نزحف بل ركضنا بكل سذاجة وبساطة نحو المجهول. لم نكن قد تحضّرنا لهذه اللحظة إلا في الخطابات والتعبئة الكلامية. لذا بحثنا بأنفسنا بعد أيام عما يمكن فعله، واستفدنا مما تعلمنا في فرقة الكشافة لبناء الخيام ومساعدة النازحين. لم يستمر وهم الانتصار سوى أيام خمسة. وصول النازحين والجنود المنسحبين طوعيا جعلنا نفهم بأن الخطاب القومي كان مجرد ظاهرة صوتية. يومها كتبت أول مقالة لي لمجلة "الأسبوع العربي" بعنوان: "إلى العرب".. كانت صيحة رفض وغضب. بصدق وأمانة، لم تكن كلمة حريات أو ديمقراطية أو حقوق إنسان حتى عام 1970 موجودة، لا في قاموس جيلنا ولا في من قرأنا له، من صادق جلال العظم إلى سيد قطب. في كل الأحاديث عن النقد والنقد الذاتي، بقيت أفكار مثل الكفاح المسلح، المقاومة، بناء حزب ثوري، أو العودة إلى الإسلام، العناوين الأولى في تشكل وعي جيلنا السياسي. لذا ذهب عدد كبير منا لدورات العمل الفدائي، مع نقاشات سياسية تبحث عن النفس بين الماركسية والإسلامية. الماركسية في قراءة عربية تتبنى المقاومة، والإسلام في مقاربة أخلاقية وقتالية. وفي واقع الأمر، لم نبدأ مناقشة مسألة الحرية إلا عندما عدنا من دورة العمل الفدائي لنخضع لاستجواب أجهزة الأمن. كذلك عندما تظاهرنا فاعتقل عددا منا قبل بلوغه سن التصويت. هذه اللمحة الموجزة لتبيان موضوع أساسي، وهو أن مناقشة النكسة ووعيها عند الشبيبة والمثقفين لم يكن ممحورا حول غياب الحريات، بقدر ما كان في انقطاع الثقة بالأنموذج والخطاب السائدين. وكما أن النكبة مهدت الطريق لضرب الليبرالية الكولونيالية في عدة بلدان عربية عبر انقلابات عسكرة الحياة السياسية، لم تسمح النكسة بطرح الأسئلة الجوهرية في المعنى العميق للدولة القوية وأسس التوازن الاستراتيجي وتأثير غياب المواطن والمواطنة والدولة التعاقدية المدنية على الصراع العربي الإسرائيلي في حروبه الباردة والساخنة. لعل من المفيد للتاريخ، أن يسجل المرء أن أول من حاول تناول الموضوع من هذه الزاوية، كان الشاعر المصري جورج حنين. لقد كتب دراستين بالفرنسية في 1968: "الحرية كمشروع وحنين" و"الديمقراطية"، تعرفت عليهما بعد عشر سنوات. مهما كان المشروع السياسي للأشخاص والجماعات، لا يمكن أن يتجاهل أن حرب 1967 هي حرب الأيام الستة، في حين أن المعارك التي رسمت تاريخ أوربة المعاصرة قلما وقعت رحاها بأقل من سنة. وأن هذه الحرب لم يجر تحضير أحد لها. لأن السلطة السياسية صادرت الفضاءات المجتمعية والثقافية. صار من الصعب على ضابط، يعتقد بأن الجيش هو الذي يحارب وينتصر، أن يفسح المجال للمقاومة الشعبية الوطنية أو لحملة القلم إعطاء الرأي في حملة السيف. لهذا يمكن القول أن المقاومة المسلحة شكّلت أيضا الرد على احتكار السلطة المهزومة للعنف. في 1967، كان كل سكان المناطق المحاذية للدولة العبرية يعيشون مع مخيمات صغيرة وكبيرة للاجئين الفلسطينيين، ويسمعون شهاداتهم ومأساة تأجيل حقهم في العودة. كيف والحال هذه تخرج جموع بعشرات الآلاف من مدنها وقراها لتنزح إلى المناطق المجاورة؟ هل كان بإمكان الجيش الإسرائيلي هدم القرى السورية والقنيطرة لو بقي أهلها فيها وقاوموا سلميا؟ هل كان بإمكان إسرائيل مباشرة بناء مستوطنات في الجولان المأهولة بوجود أكثر من مئة ألف سوري يومئذ، أو السيطرة عليها وفيها قرابة نصف مليون تعداد النازحين اليوم؟ كانت فكرة الشخص المخلّص، الحزب المخلص، تتقوى في الرؤوس. عبارة مظفر النواب "الحزب أمك الحزب أباك"، كانت سائدة في أوساط اليسار وموجودة في المشروع الإسلامي. لم يكن الشعب أو المواطن، المبادرات التحتية، الجمعيات الأهلية المستقلة، موضوع احترام في البرنامج السياسي للسلطة، ولحد كبير في عدة مشاريع بديلة. في سنوات الانتقال والاهتزاز الثقافي بين حربي 1967 و1973، صادرت السلطات هوامش واسعة مما تبقى من متنفسات مدنية مستقلة، لتظهر فيما بعد للسطح أهميتها الوجودية عبر افتقاد الناس لها. إن أفكار النهضة الأولى، مثل انتخاب الناس من يمثلهم، وضرورة وجود عهد وعقد بين المجتمع والدولة وأخيرا، وهنا مربض الفرس: تنامي فكرة الحقوق الفردية، لم تكن رد الفعل الأول على الهزيمة. كنا بحاجة إلى الفشل المعمم، التنموي والتحرري والديمقراطي للدولة التسلطية الحديثة، لكي نتجرأ على اعتبار القطيعة مع أنموذجها شرطا للتغيير والتحرير. خاصة وأن خسارتها للمعركة الوطنية تلازمت مع تحطيم الحقوق الأساسية للناس. مع ضرب الحقوق الفردية الأساسية التي تضمن صيرورة المواطنة، عادت العلاقات العضوية العصبوية بشكل باثولوجي. كونها تنمو هذه المرة في ظل أجهزة أمنية حديثة تزر وازرة فيها وزر أخرى. إن غياب الأمن الفردي الإنساني (أي عدم وجود نواة صلبة غير قابلة للمس أو التفاوض لحقوق وحريات الأفراد)، أعطى الانتماءات التاريخية: من جغرافية وطائفية وعشائرية وقبلية، قوة حضور. وذلك عبر صيرورتها الملجأ الاضطراري في دور هو بالأساس من المهمات المركزية للدولة الحديثة. حل التفتت محل الفكر الوحدوي، والعصبة محل الألفة المدنية، والرعية مكان المواطنة، والتمويل مكان التطوع، وتوظيف القيم بدل ممارستها. فلا بأس أن تتكرر على أسماعنا الجملة المأثورة: وهل يوجد حقوق إنسان؟ تحتاج المقاومة الوطنية والمدنية اليوم إلى إعادة النظر في المفاهيم الأساسية لحقبة كاملة. ولعل التأكيد على العدالة يشكل الجسر الأكثر ضمانة. ليس فقط لاسترجاع الثقة بالألفة والاجتماع البشري، وإنما بناء القاعدة الأخلاقية والحقوقية. الأسس القادرة على الجمع بين الأصالة والحداثة، بين الدولة المدنية الجامعة وإمامة العقل والعدل، بين كرامة الإنسان كمفهوم إسلامي وحقوقه الأساسية كمفهوم عالمي. أي العدالة بالمعنى الواسع للكلمة، كمؤصل لاحتقار الفساد والاستبداد والاستعباد. كقاعدة سليمة للحكم الصالح المؤسس على المواطنة، وأساس لاستعادة الحقوق الوطنية. ----------------- مفكر عربي مدافع عن حقوق الإنسان www.haythammanna.net
#هيثم_مناع (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
وقفة عند حقوق الإنسان في العالم العربي 2008
-
هل آن أوان الحوار النقدي؟....هل آن أوان الحوار النقدي؟
-
استفتاءان في دمقراطية واحدة
-
أما آن الأوان للمثقفين والحقوقيين والديمقراطيين العرب لأن يخ
...
-
حقوق الإنسان في العراق : آفاق العمل غير الحكومي
-
استقلال السلطة القضائية في سورية
-
حقوق الإنسان في العالم العربي في ظل 11 أيلول: الواقع .. الصع
...
-
الإدارة الأمريكية وحقوق الإنسان
المزيد.....
-
كاميرا العالم ترصد خلوّ مخازن وكالة الأونروا من الإمدادات!
-
اعتقال عضو مشتبه به في حزب الله في ألمانيا
-
السودان.. قوات الدعم السريع تقصف مخيما يأوي نازحين وتتفشى في
...
-
ألمانيا: اعتقال لبناني للاشتباه في انتمائه إلى حزب الله
-
السوداني لأردوغان: العراق لن يقف متفرجا على التداعيات الخطير
...
-
غوتيريش: سوء التغذية تفشى والمجاعة وشيكة وفي الاثناء إنهار ا
...
-
شبكة حقوقية: 196 حالة احتجاز تعسفي بسوريا في شهر
-
هيئة الأسرى: أوضاع مزرية للأسرى الفلسطينيين في معتقل ريمون و
...
-
ممثل حقوق الإنسان الأممي يتهرب من التعليق على الطبيعة الإرها
...
-
العراق.. ناشطون من الناصرية بين الترغيب بالمكاسب والترهيب با
...
المزيد.....
-
مبدأ حق تقرير المصير والقانون الدولي
/ عبد الحسين شعبان
-
حضور الإعلان العالمي لحقوق الانسان في الدساتير.. انحياز للقي
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
فلسفة حقوق الانسان بين الأصول التاريخية والأهمية المعاصرة
/ زهير الخويلدي
-
المراة في الدساتير .. ثقافات مختلفة وضعيات متنوعة لحالة انسا
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نجل الراحل يسار يروي قصة والده الدكتور محمد سلمان حسن في صرا
...
/ يسار محمد سلمان حسن
-
الإستعراض الدوري الشامل بين مطرقة السياسة وسندان الحقوق .. ع
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نطاق الشامل لحقوق الانسان
/ أشرف المجدول
-
تضمين مفاهيم حقوق الإنسان في المناهج الدراسية
/ نزيهة التركى
-
الكمائن الرمادية
/ مركز اريج لحقوق الانسان
-
على هامش الدورة 38 الاعتيادية لمجلس حقوق الانسان .. قراءة في
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
المزيد.....
|