لأول وهلة ، يبدو القرار 137 الخائب والخاص بإلغاء قانون ون الأحوال المدنية الذي جاءت به ثورة الرابع عشر من تموز الجمهورية وتحويل مشمولاته إلى محاكم طائفية ومذهبية دينية لا علاقة لها بالدولة ، يبدو وكأنه يتعلق بانقلاب عسكري قامت به عصابة من المرتزقة و محترفي الإجرام ،بل هو أقرب إلى عملية سطو مسلح تواطأ على القيام بها مجموعة من المراهقين في غياب أولي أمرهم . فلم يجرؤ أحد على أن يعلن أمام العراقيات والعراقيين مَن هو الطرف الذي اقترح مسودة هذا القرار ، ومن هي الجهات في مجلس العار هذا ، التي أيدت هذه الردة الاجتماعية الخطيرة وصوتت لصالحه ، ولماذا اتخذ القرار بهذه السرية وظل طي الكتمان طوال الدورة الشهرية لرئاسة السيد عبد العزيز الحكيم الذي وقع القرار ، ثم لماذا أعلِنَ عنه فجأة وبسرعة في حين تظل قرارات خطيرة أخرى كقرار الانتخابات العامة أو صياغة الدستور أو إجراء إحصاء سكاني أو جدولة انسحاب القوات الغازية تطبخ على نار هادئة بل وهادئة جدا كما يطبخ الحصى والماء في قدر الأرملة الفقيرة .
لقد جاء الإعلان يوم أمس الخميس ( موقع إيلاف السعودي ) عن أن هذا القرار كان قد اتخذ في عهدة عبد العزيز الحكيم لرئاسة الدورة الشهرية السابقة وقد وقعه بصفته تلك بتاريخ 29/12/2003 غير أنهم لم يجرؤا على نشر وإعلان فحوى القرار آنذاك ، جاء هذا الإعلان ليؤكد الطابع اللصوصي للعقلية السائدة في مجلس الحكم إن سمح لنا الواقع بتسميتها "عقلية" . وعلى هذا ،وبسببه ، يحق لكل امرأة عراقية ولكل مواطن عراقي أن يتساءل عن السر و راء صمت رئيس المجلس الدوري الحالي اللبرالي المعروف عدنان الباججي و كتلته الديموقراطية التي أعلن عن تأسيسها قبل أيام وضمت مجموعة من الأحزاب المتعاونة مع الاحتلال فلماذا هذا الصمت ؟
أين صوت "شيوعي "حميد مجيد ولجنته المركزية المصفقة للمحتلين ؟
أين صوت الإسلاميين المتنوريين المزعومين من أصحاب الملايين ؟
أين صوت أبناء العشائر الذين صدعوا رؤوسنا بكلامهم عن الشهامة والأصالة ؟
أين السيدات حاملات الجنسية الأمريكية و المرشحات للوزارات والسفارات العراقية ؟
أين علي بن حسين وأحزابه المائة وثمانية عشر حزبا وعشيرة ودكانا للنصب والاحتيال ؟ وأين عزيز الياسري وتجمعه الوطني الديموقراطي الذي خرج قبل فترة بمظاهرة في بغداد المحتلة طالب فيها هو وتجمعه بوقف المقاومة التي يسميها إرهابا وطالب أيضا بالامتناع عن قتل " أخواننا " الأمريكيين !
الحقيقة هي أن الديموقراطيين الحقيقيين والشيوعيين الاستقلاليين والإسلاميين المتنوريين والقوميين وأبناء العشائر الوطنيين ، إن كل هؤلاء موجودون ولكن خارج مجلس الحكم الصنيع وسيقولون كلمتهم دفاعا عن أمهاتهم وزوجاتهم وأخواتهم وبناتهم وسيسقِطون هذا القرار الظلامي اللصوصي ومن كان وراءه .ولكن ما هي حقيقة هذا القرار وما الدوافع العميقة لاتخاذه ؟
الواقع هو أن هذا القرار هو خطوة حاسمة اتخذها "طالبان مجلس الحكم " من سلفيين وطائفيين نحو إقامة حكم ثيوقراطي سلفي وهي تأتي في سياق عملية تأسيس بنية تحتية طائفية مذهبية في ميدان القضاء والمشمولات المجتمعية . لقد قرروا تحويل الأحوال الشخصية المدنية إلى أحوال طائفية مذهبية لا علاقة للدولة العراقية بها، بل يقضي بها ويديرها ويشرف عليها رجال الدين والملالي والدراويش من جميع الطوائف .
والحقيقة فإن قانون الأحوال المدنية الذي حاول السلفيون اغتياله بقرارهم 137 لا يمكن وصفه بالكمال والتقدمية إلا في نطاق محدود جدا، فهو لا يرفض المحاكم الشرعية بل و يراعي في أمور عديدة الانتماءات المذهبية والطائفية .وحتى عقود الزواج العراقية تذكر مذهب الزوجين والمهر وما إلى ذلك من الاشتراطات الدينية ، فلماذا اتخذ هذا القرار إذن ؟ لأنه – بكل بساطة ومرارة - محاولة لإلغاء الدولة العراقية الواحدة و غير الطائفية دستوريا .بمعنى إن الحكيم ومجموعته أرادوا أن يعيدوا العراقيات والعراقيين إلى عهود الصراع الصفوي العثماني قبل سبعة قرون ليتحكم في أمورهم العائلية والإنسانية - كما قلنا - الملالي والروزخونات والدراويش ..
إذن ، الهدف هو تأسيس بنية تحتية طائفية قضائية لكي يسهُل فيما بعد على الأحزاب الطائفية تشكيل وإقامة دويلات الطوائف المذهبية . يحدث هذا في " العراق الأمريكي " ويعلن عنه و( يا للمصادفات الميتافيزيقية ! )في نفس اليوم الذي أعلن سيد هؤلاء الظلاميين أي بوش الصغير عن مشروعه لغزو المريخ وبناء قاعدة مسكونة بالبشر على سطح القمر !
فأي مجلس للحكم هذا ؟
إنه – كما يقول المثل العراقي السائر - مجلس حكم كل مَن يده له !
إنه مجلس يريد الطائفي الشيعي أن يفرض فيه وعبره برنامجه الطائفي وفكره السلفي المتخلف بقوة الدبابة الأمريكية على المجتمع أولا ، وأن يريح إيران من ملف مجاهدي خلق ويتنازل لها عن شط العرب والطائرات العراقية ثانيا ، ويعترف ثالثا بأحقيتها في انتزاع تعويضات حرب بمائة مليار دولار من لقمة عيش العراقيين الخارجين توا من جحيم النظام البعثي الصدامي الدموي كما صرح بذلك موقع القرار 137 عبد العزيز الحكيم ذاته .
أما الطائفي السني في هذا المجلس فهو يوسط حتى الماسونيين والشياطين الزرق والحمر لدي السلطان "بريمر" ويتوسل حتى بعودة الملكية لكي يحافظ على الاحتكار الطائفي السني لرئاسة الدولة العراقي كنوع من "الحق الإلهي" ولسان حاله يقول :
((ملك سني من الحجاز ولا رئيس شيعي من العراق !))
والقومي الكردي يريد أن يحرق العراق تحت راية " الفيدرالية " لفظا و"الكونفدرالية " فعلا من أجل أن يستقل في دويلة صغيرة في الشمال ليتقاتل هو وغرماؤه من الأحزاب الأخرى على عائدات نفط كركوك .
أما الأحزاب السرطانية التي جاءت مع الاحتلال كأسراب الجراد وبعد أن نهبت وسلبت واستولت على الشجر والحجر والسيارات الرئاسية والفيلات والقصور والأرصدة وشركات القطاع العام راحت اليوم تعرقل أية خطة لإجراء انتخابات عامة نزيهة تنبثق عنها هيئة دستورية وحكومة انتقالية . إن ممثلي أحزاب "بريمر" هؤلاء يقاتلون بالأظافر والأسنان هذه الأيام من أجل رفض الانتخابات والأخذ بطريقة التعيين والفرض والقسر لأنهم يعرفون جيدا رأي الشعب فيهم ، ويعرفون جيدا أن لا مكان لهم في أية هيئة منتخبة من قبل الشعب فالشعوب لا تنتخب من يتعاونون مع الغزاة والمحتلين .
والعراقيون يعرفون الوقائع وما ثمة داع للفلسفة و "طق الحنك " إذ لم يصدر قرار من مجلس الحكم في عهد عبد العزيز الحكيم ليخفف معاناة العراقيين من نقص الوقود أو توفير العمل والدواء والسكن . و لم يصدر قرار حتى بخصوص الكشف عن جثامين الكثيرين من شهداء العراق المغيبين والذين سفك دمهم نظام صدام التكريتي .و لم يصدر أي قرار مهم لصالح العراقيين بل صدر قرار يبطل العمل بقانون الأحوال الشخصية الذي يبقى على هناته الكثيرة أفضل ألف مرة من عبودية القوانين التي يسنها السلفيون الطائفيون من أعداء المرأة والحياة عموما .
إن القرار137 الذي وقعه عبد العزيز الحكيم بعد أن صوت عليه السلفيون من الطائفيين الشيعة والسنة معا ،إضافة كما يرجح البعض تصويت عناصر من حزب رامسفيلد في المجلس و هي التي لا علاقة لها بالدين والتدين بل لسبب سنأتي على ذكره بعد قليل ، إن هذا القرار لا يقل خطورة عن اتفاقية "بريمر رتشموند الطالباني" التي مهدت الطريق للانتداب الأمريكي طويل الأمد على العراق . وهو من حيث الجوهر يشطب على قانون الأحوال الشخصية المدني الذي جاءت به ثورة 14 تموز 1958 واستبدال المحاكم المدنية الرسمية بمحاكم طائفية شيعية وسنية ( شافعية وحنبلية وحنيفية ومالكية ) ومسيحية و...الخ والهدف من وراء ذلك كما قلنا قبل قليل هو إقامة البنية التحتية القضائية لدويلات الطوائف التي سيقيمها الأمريكان لتحل محل العراق الواحد الموحد . إنها – إذن - خطوة على طريق تفتيت العراق طائفيا وتحويل الطائفية إلى واقع سياسي وقضائي ونفسي قائم وسوف يسهل ذلك فيما بعد تنفيذ المخطط الصهيوني القديم الهادف إلى تحويل العراق إلى شبكة من الدويلات الطائفية والعنصرية المتذابحة على طريقة " أم الجمارك " .
ومن المرجح جدا أن يكون ممثلو حزب رامسفيلد في المجلس كالجلبي وعلاوي والطالباني قد صوتوا إلى جانب هذا القرار ولكن لأسباب أخرى وهي أنهم أرادوا تمرير القرار وهم يعرفون مسبقا أن سيدهم بريمر سيتدخل وينقضه باستعمال حق " الفيتو " المسلح بالدبابات وحينها سيسجل الاحتلال نقطة ثمينة ويظهر بريمر بمظهر المنقذ والمخلص والمحرر والمدافع عن المرأة العراقية بوجه السلفيين فيكسب الاحتلال عندها ود نصف المجتمع العراقي الذي تمثله النساء !
إنها خطة جهنمية انطلت على السلفيين الذين ستحتقرهم جماهير النساء ومن يساندها من رجال يعترفون بالكرامة الإنسانية للمرأة وحقها في المساواة ..أما الحالمين بأنهم سيدفعون بنساء العراق إلى خندق الدفاع عن المحتلين الهمج فسوف يصابون هم الآخرون بالخيبة ذلك أن المرأة العراقية التي تشاهد فظاظة وهمجية جنود الاحتلال وهم يعتدون على أختها العراقية في مناطق الشمال الغربي المقاوم ويفتشونها ويقتحمون بيتها ويروعون أطفالها لن تتعاطف مع الاحتلال ، ولن تنطلي عليها كلاوات الجلبي و سكرتيره الخاص ( انتفاض قنبر روبن ) وستواصل كفاحها حتى قبر القرار الظلامي ومعه الاحتلال الذي جاء به وبمجلسه .
قد خلف القرار 137 الظلامي ذهولا وصدمة في صفوف جماهير النساء وبادر الكثيرون من الكتاب والكاتبات إلى فضح القرار ومن وراءه ،وخرجت المظاهرات النسوية في بغداد وعدد من المدن العراقية ضده ، بل و لقد رأينا وقرأنا عددا من المقالات الرافضة للقرار التي كتبها عدد من الكتبة الذين اشتغلوا وما زال بعضهم يشتغل بالقطعة لدى سلطات الاحتلال .إن وهؤلاء الكتبة الكَذَبَة يحاولون كعادتهم اللعب على الحبلين وغسل أقلامهم الملوثة بعار الدفاع عن خيار الحرب والاحتلال في دماء النساء العراقيات وإلا أين كان هؤلاء "الصناديد " حين كانت قوات الاحتلال تهين وتفتش باستعمال الكلاب والعملاء المأجورين وتضطهد النساء العراقيات ؟ لماذا لم نسمع احتجاجا أو استنكارا منهم ؟ هل يريدون من العراقيين أن ينسوا ما كتبه هؤلاء وما قالوه عن الحرب النظيفة القصيرة والأشبه بالعملية الجراحية ؟ وعن الخير العميم والحضارة والتقدم التي سيأتينا بهما المحتلون الأمريكيون ؟ هل يريدوننا أن ننسى رسائلهم المفتوحة إلى جورج بوش ورامسفيلد وحملات جمع تواقيع التأييد والولاء لمن دمر العراق وأعلن صراحة أنه لن يسحب جيوشه من بلادنا بل سيبقيها لعشرة أعوام وربما أكثر ؟
كلا .. هذا لن يحدث .. ولن ننسى .. وكل شيء موثق ومسجل في الأرشيفات .
وأخيرا فإن على القوى الديموقراطية العراقية الحقيقية وبكافة تلاوينها الأدلوجية القومية واليسارية والإسلامية المستنيرة وممثلي الأقليات الإثنية ومنظمات المجتمع المدني أن تقف اليوم مع المرأة العراقية في محنتها وتدافع عنها ضد من يريدون إعادتها إلى زمن الجواري والمحظيات والإماء المستعبدات .
يجب على هذه القوى الديموقراطية التحضير للقيام بمظاهرات ضخمة قبل أن يفوت الأوان ويتحول حلم التحرر من الفاشية الصدامية والاحتلال الأمريكي البغيض إلى كابوس استعباد للجميع .
فليكن شعار جميع الديموقراطيين العراقيين :
القرار 137 عار ...!