كاظم حبيب
(Kadhim Habib)
الحوار المتمدن-العدد: 716 - 2004 / 1 / 17 - 05:20
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
كان الأمل يحدو الشعب العراقي في أن يتخذ مجلس الحكم الانتقالي قرارات ديمقراطية واعية لطبيعة المرحلة التي يمر بها العالم والمنطقة, ويمارس دوراً أكثر فاعلية في تحرير المجتمع من عواقب الدكتاتورية وقراراتها المعادية للمجتمع, ومنها سياساته الفعلية وإجراءاته الاستبدادية ضد المرأة العراقية, ومنها قبوله بضرب المرأة أو السماح بأكثر من زوجة واحدة. ولكن هذا النظام الدموي لم يجرأ على اتخاذ قرار مجحف كهذا يلغي بموجبه قانون الأحوال الشخصية الذي صدر في فترة ثورة تموز 1958, وهو أحد منجزات حكومة عبد الكريم قاسم الكبيرة, كما فعل مجلس الحكم الانتقالي.
بدأ الشعب العراقي منذ فترة يواجه يومياً بعض الإجراءات والتصريحات والقرارات الجديدة التي لا تنسجم مع حاجات وضرورات التطور الديمقراطي في العراق ولا مع تعطش الشعب للحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقه وممارسة حقوق كاملة غير منقوصة, وبالتالي بدأ المجلس يخيب آمال الشعب ويضع نفسه بعيداً عن المواقع التي يفترض أن يقف فيها ويصر عليها. فلم تمض فترة طويلة حتى بدأ يتراجع عن الوعد الذي التزم به في لندن وصلاح الدين والناصرية حول الفيدرالية الكردستانية, ولولا وجود شعب كامل وقوى ديمقراطية تدافع عن هذا الحق المشروع للشعب الكردي لابتلعه المجلس أيضاَ. وهم يسعون الآن إلى تقييد هذا الحق, رغم معرفتهم الكاملة بما مارسه النظام الدموي من محاولات عنصرية شرسة لتغيير الواقع السكاني لعدد من المدن العراقية ومحاولات تعريبها و" تطهيرها" من الأكراد والتركمان, وخاصة مدينة كركوك. وها نحن نقف أمام قرار رجعي جديد. فما أن احتل ممثل المجلس الأعلى للثورة الإسلامية, السيد عبد العزيز الحكيم مكانه كرئيس دوري لمجلس الحكم الانتقالي لشهر كانون الأول/ ديسمبر 2003, حتى برز لنا "الوجه الثاني الكالح" لمجلس الحكم الانتقالي, إذ أصدر دون علم المجتمع ودون أخذ رأيه قراراً ظالماً وقاسياً ومرفوضاً يلغي بموجبه قانون الأحوال الشخصية ويفرض تطبيق الشريعة الإسلامية في العراق على المرأة العراقية. ويبدو ان السيد عبد العزيز الحكيم قد تمكر حتى لما نادى به السيد محمد باقر الحكيم قبل اغتياله الجبان من إقامة المجتمع المدني في العراق.
ومن المؤسف أن نسجل هنا حقيقة مرة هي أن بعض القوى الإسلامية السياسية في المجلس بدأت في فتل وإبراز عضلاتها إزاء الجنس المضطهد والمكبوت والمستضعف طوال ألاف السنين أصلاً من المجتمع الذكوري في بلادنا أولاً, لتنتقل تدريجاً إلى بقية القضايا الأساسية لحياة المجتمع بهدف تحويل العراق إلى صورة مأساوية بائسة لا تختلف كثيراً عما يواجهه الشعب الإيراني من قواه المحافظة المتشددة منذ أكثر من عقدين. ويبدو أن المجلس بمختلف قواه قرر الصمت المطبق على هذا القانون طوال شهر كامل ليفاجئ المجتمع في أثناء رئاسة الدكتور عدنان الباججي, باعتباره ليبرالياً وعلمانياً, ليمرروا القرار بسهولة ودون أدنى ضجة. كما أن سكوت كل أعضاء المجلس, ابتداءاً من الشيوعيين ومروراً باللبراليين والديمقراطيين المستقلين وكل العلمانيين, لا يعني سوى وجود مساومة غير معقولة وغير نظيفة ومرفوضة تمت بين كل القوى العاملة في المجلس بغض النظر عن موقفها في التصويت أو تغيّبها عن حضور الاجتماع الخاص بهذا القرار لرفع العتب عن هذا العضو أو ذاك عند محاسبة الشعب له على ارتكاب المجلس لمثل هذه الخطيئة البشعة بحق الشعب العراقي.
لا يمكن أن نقول بأن هذه الفترة القصيرة من العمل المشترك بين القوى الإسلامية التي نسميها معتدلة, (وإذا بها تماثل في تطرفها في الموقف من المجتمع ومصالحه الحيوية وحريته وكرامته, وخاصة من المرأة, القوى المتطرفة المعروفة لنا جميعاً) استطاعت إما أن تغسل دماغ أعضاء المجلس جميعاً أو أن تسكتهم بهذه الطريقة السيئة, إذ لم يعلن أو يسرب كافة الأعضاء دون استثناء أي خبر عن مثل هذا القرار, بل تركوا صمت القبور يهيمن على الأمر حتى ينشر بالطريقة التي تمت. إن قوى الإسلام السياسي التي تسمى معتدلة لا يبدو أنها معتدلة حقاً, إذ أنها لم تنتظر حتى احتمال وصولها إلى السلطة لاتخاذ مثل هذا القرار بل كانت وما تزال متعجلة من أمرها وتحاول ترويض الشعب منذ الآن على مثل هذه القرارات المجحفة بحق المرأة والمجتمع كله, وهو ما ينبغي رفضه ومقاومته.
وها هي تستعين بعالم دين محترم نأى بنفسه عن السياسة عقوداً طويلة من عمره لفرض رأيها على المجتمع ومجلس الحكم وسلطة الاحتلال من خلال فرض إجراء الانتخابات في وقت لا تتوفر فيه أدنى شروط وفرص إجراء انتخابات عادلة ونزيهة وسليمة. وبالتالي فهي تسعى إلى فرض مرجعية دينية على المجتمع العراقي الذي رفض باستمرار المرجعيات من هذا النوع. بالسيد آية الله العظمى السيستاني مرجعية دينية لأتباعه ومقلديه وليس للمجتمع العراقي, وليس لدينا كما في إيران مرشداً أعلى والحمد لله. إن محاولة فرض رأي شخص واحد, مهما كانت كلمته محترمة, على المجتمع وبالطريقة التي لجأت إليها بعض القوى الإسلامية السياسية في المجلس وخارج المجلس, لن يساعد على وحدة الكلمة وصفاء النية والعمل المشترك, بل سيثير من الصراعات ما لا يريده الشعب العراقي في الوقت الحاضر, في وقت تواجهه مهمات كثيرة أخرى. إن استخدام السيد السيستاني بهذه الطريقة يمكن أن تسيء إلى السيد المحترم نفسه عندما تتعارض كلمته ورأيه مع الواقع العراقي القائم أصلاً, فهل هم يسعون إلى ذلك أم يريدون تسليط استبداد جديد من نوع آخر على شعبنا على طريقة "ولاية الفقيه" أو المرشد الأعلى باعتباره صاحب الكلمة الأخيرة والمعصومة, وليس البرلمان ورئيس الحكومة ورئيس الجمهورية باعتبارهم منتحبين من المجتمع.
الكثير منا يتذكر, عبر قراءاته, الصراع الذي خاضه المثقفون والمتفتحون والعلمانيون العراقيون في العشرينات من القرن الماضي حول المرأة والحجاب والسفور, وكلنا يتذكر عبر قراءاته المواقف المتباينة في الساحة السياسية والاجتماعية العراقية, ولكن المرأة استطاعت رغم كل شيء أن تقطع شوطاً بعيداً على طريق التقدم والحرية حق التخلص من الحجاب الذي سعى المحافظون المتزمتون والرجعيون فرضه على جميع نساء العراق. ولكن ما حققته المرأة لم يستطع سوى النظام الدكتاتوري الدموي انتزاعه نسبياً من المرأة, فهل نقبل أن تقوم الجماعات الدينية المستبدة بطريقتها الخاصة بانتزاع ما عجز النظام الدموي عن انتزاعه وما تبقى للمرأة من حرية في المجتمع, فهل ستسكت المرأة عن هذا القرار الظالم الذي أصدره مجلس الحكم الانتقالي, الذي انتظرنا منه خيراً, وإذا به ينقلب على الجنس الأضعف والمأزوم والمكبوت في المجتمع, ضد الأم والأخت والبنت والزوجة, هل هذا هو ما كنا ننتظره من هذا المجلس الذي يأمل الإنسان أن يبقى موقراً وأن لا يفقد دوره ومكانته بهذه السرعة وبهذه الطريقة. ويفترض بهوؤلاء أن يتذكروا الإهزوجة التي رردها المتظاهرون في أنحاء العراق كله حين كلف السيد محمد الصدر بتشكيل الحكومة العراقية في كانون الثاني/ يناير عام 1948, وشكلها فعلاً ولكن لم يتغير الوضع كثيراً, "ردناك عون اطلعت فرعون ...", ألا تنطبق هذه الأهزوجة على مجلس الحكم في قراره هذا, وفي موقفه من خصخصة الاقتصاد العراقي أو سكوته عن قرار السيد بريمر بهذا الصدد. وعندما سؤل أحد أعضاء المجلس بشكل غير رسمي عن رأيه بتجميد القرار قال بأن هذا يعني إلغاء القرار. هذا القول غير دقيق, إذ فيه الكثير من احتمال التخدير للنساء والمجتمع, أدرك القائل به أم لم يدركه, إذ أن التجميد غير الإلغاء, إذ سرعان ما يمكن العودة إليه في كل لحظة وتفعيله, وعلى المجتمع أن يحسم أمره ويقرر النضال العنيد والدؤوب ضد القوى التي ما تزال بعيدة عن السلطة الفعلية ولكنها تريد منذ الآن ترويض المجتمع وفرض رغباتها وعقدها المجتمعية على المجتمع كله.
من حق القوى الإسلامية المحافظة أن تعبر عن رأيها بالطريقة التي تريدها وأن تعمل من أجل ذلك, ولكن عليها أن لا تمرر قراراتها بهذه الطريقة الفجة دون علم ومعرفة المجتمع ودون أن يكون في العراق وضعاً ديمقراطياً سليماً, بل سيادة حرية الفوضى, وهذا القرار يعبر حقاً عن سيادة حرية الفوضى في المجتمع والإدارة في آن واحد.
إن الاجتماعات والتجمعات التي نظمت حتى الآن في العراق ضد هذا القرار طيبة جداً وكانت متوقعة طبعاً, ولكنها ما تزال غير كافية ونحن في أول الطريق. ويفترض أن نعمل دون هوادة وبإصرار المناضل لا لتجميد هذا القرار, بل من أجل الوقوف بوجه أي قرار من هذا النوع مستقبلاً, يفترض أن نصعد نضالنا وأن نحث النساء والرجال على المشاركة في الاجتماعات والاحتجاجات والتظاهرات الشعبية واللجوء إلى الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان الدولية للتعبير بطريقة سلمية وديمقراطية صارمة عن الرفض القاطع للحد من حقوق المرأة الواردة في لائحة حقوق الإنسان الدولية وفي اللائحة الخاصة بحقوق المرأة.
إن على منظمات حقوق الإنسان العراقية والمنظمات والتجمعات النسائية والجمعيات العراقية الأخرى في الخارج أن ترفع من همتها ودورها في النضال لوقف هذه الردة الجديدة التي يراد فرضها على المرأة في العراق, وأن تستعين في ذلك بكل منظمات حقوق الإنسان والمنظمات الدولية في هذا النضال الذي يراد فرضه على المجتمع.
إن هذا الاختبار غير العقلاني الذي جربته القوى الرجعية في العراق والمناهضة لحقوق المرأة ينبغي له أن لا يمر بأي حال من الأحوال, وعلينا جميعاً, رجالاً ونساء تقع مسؤولية إفشال مثل هذه القرارات والاتجاهات الظلامية.
برلين في 16/1/2004
#كاظم_حبيب (هاشتاغ)
Kadhim_Habib#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟