حين وقع نجيب محفوظ في الثلاثية على شخصيته الشهيرة ((أحمد عبد الجواد))، لم يكن يرسم انسانا مضطربا يجمع بين العبادة والرذيلة والعطف الاستبداد، بل كان يبحث عن معنى ((المتعدد)) في الشخصية الانسانية. وبسبب جمالية المتعدد، الذي يعيش الحياة في وجوهها كلها. جاءت الشخصية الشهيرة حلما وإنسانا فاتنا لا يوجد الا في الاحلام. وما كان هدف طه حسين في ((مستقبل الثقافة في مصر)) مختلفا، وهو يهجس ب((مدرسة فاضلة))، تعلم طبقات المجتمع المختلفة ألوانا متعددة من المعرفة. فالمدرسة للجميع لا من حق فئة واحدة، وعلوم المدرسة متعددة، لا تُختزل الى معرفة أساس، او الى علم شريف يمسح ما تبقى. والمتعدد قائم في منظور قسطنطين زريق الى ((القومية))، الذي يحتضن الديموقراطية والعلمانية والمجتمع المدني والارتقاء في المعرفة وتعددية الاحزاب والانفتاح على الثقافات الكونية.
لم يكن مهدي عامل، الذي جاء في حقبة ثقافية سياسية لاحقة، مشغولا بالاسماء المغيرة السابقة ولا بأفكارها ((البرجوازية))، وان كان مشغولا، وفي مسار مسكون بالمفارقة، بالمتعدد وبتجسيده وبالاحتفاء به احتفاء كاملا، كان في سياق هذا الانسان الحقيقي ما يمنعه عن معنى المتعدد، وكان في روحه المشتعلة ما يجعله يفتش عن معنى المتعدد ويعيشه في آن. ففي زمن مليء بالاوهام والاحلام معا، كان على ((الايديولوجيات الكبرى)) ان تقطع مع كل ما سبقها، وأن تنصب ذاتها حقيقة وحيدة، تؤمن بالواحد وتحتفل بالأحادية وتمجد الواحدية، وترى في المتعدد، وما يشير إليه، موروثا ((برجوازيا)) مضللا. وفي هذا السياق جاء مهدي عامل بأفكاره وذهب الى العمل السياسي، وظل متمسكا بنار داخلية مقدسة، تضعه مع الآخرين، وتضع بينه وبين الآخرين مسافة شاسعة، تساوي تلك القائمة بين الواحد والمتعدد، او بين الاتباع والابداع، بلغة أدونيس.
بدا مهدي عامل، في مستوى اول، مرآة للأحادية، ان لم يترجم الأحادية ويدافع عنها الا حدود المغالاة والانغلاق. وما كانت أحاديته الا اثرا لاجتهاد نظري عارم الحماس، يفصل بين العلم والايديولوجيا، وبين المدافعين عن الاول وحماة ما يعادي الاول ويمنع انتشاره بين الناس. كان هناك زمن الحقيقة والزمن البائد الذي هزمته الحقيقة، وزمن اليقين الذي يجعل الشك طريدا، بل كان هناك ما قبل التاريخ وبعده، اذ التاريخ الوليد يرمي ب((ما قبل التاريخ)) الى المهلكة. وفي هذا المناخ، المستجير بالحقيقة الواحدة، اجتهد مهدي اجتهادا ميزه من غيره كل التميز، دون ان يقبل، وفي حقل النظرية، الانتقال من الواحد إلى المتعدد.
اعتنق مهدي عامل، الذي آمن بفكرة الحقيقة ومارسها بشكل حقيقي، الواحدية في مستويات ثلاثة مترابطة: شكّلت الماركسية، من حيث هي شكل النظرية الارقى في القرن العشرين، المستوى الايماني الاول، الذي يرى في ((ما تبقى من المعارف)) تضليلا برجوازيا، وجاءت الطبقة العاملة التعيين السياسي للنظرية الحقيقية، ذلك انها تمثل ((الوعي الطبقي الحقيقي)) في مقابل ((ما تبقى)) من أشكال الوعي الاجتماعية. ولم يكن حزب الطبقة العاملة، اي الحزب الشيوعي، الا تكثيفا للحقيقتين السابقتين ينطق بالحقيقة ويأخذ بوسائل حقيقية من اجل تجسيدها، ويقود الجماهير الى اهداف لا وهم ولا تضليل. كان هناك الواحد الاصلي، الذي يتوزّع على مستويات ثلاثة ويظل واحدا، فاصلا بين زمن الاستغلال والعماء وزمن التحرر والافكار المضيئة.
غير ان مهدي عامل، الذي يؤثر الابداع على الاتباع، استولد متعددا خاصا به، يعلن فيه عن تمرده على الأحادية ورجمه لها. نبذ، اولا، اجتهادات ((الاخوة الكبار))، التي تختزل المعرفة الراقية الى اقانيم معدودة، ونبذ، ثانيا، اجتهادات ((الاخوة الصغار)) الذين لا اجتهادات لهم، الى ان بدا، ثالثا، عنصر قلق داخل صفوف الحزب الذي ينتمي اليه. كان يتمرد رافعا راية المتعدد، مؤمنا بتعددية العقل وبحق الاجتهاد المتعدد في الوجود، وبحق الاحزاب المتعددة في الوجود السوي، الذي لا يختصرها الى كلمات متماثلة، كان ذلك المثقف النيّر والمستنير يكره كلمة التماثل ويحرّض على التناقض ويرى في التماثل مواتا وطريقا إلى الموت الأكيد. وبسبب ذلك جاء بنظريته عن ((نمط الانتاج الكولونيالي))، التي وإن بدت واحدية في وجه من وجوهها، اعلنت التعدد في وجوه اخرى، توحّد بين ثورة الطبقة العاملة والثورة القومية والوطنية والانسانية، اي تبدأ ب((الواحد)) ثم لا تلبث ان تلغيه، وهي تذيبه في علاقات متعددة.
انتقل مهدي، لاحقا، من القول بالاجتهاد المتعدد الى ممارسة الاجتهاد في حقول متعددة. فبعد ان نقد وثوقية ((الأخوة))، الكبار والصغار معا، في ((نمط الانتاج الكولونيالي))، ذهب الى مواضيع اخرى، منجزا اجتهادا خاصا به، لا يقبل بما كان ولا يقبل بأفكار الآخرين الذين ادمنوا القبول المتجانس. كتب عن عروبة لبنان و((الظاهرة الطائفية)) والقضية الفلسطينية ومناهج التعليم وابن خلدون وساجل ادوار سعيد ونقد الفكر اليومي، وكان يهجس بكتابة مساهمة في الادب واللغة والرواية والنقد الادبي... وكان في ما يهجس به يتكاثر ويتعدد مؤمنا، كما كان يقول، بأن في العقل اكثر من عقل، وفي الانسان اكثر من انسان. كان ذلك الانسان الذي يشرق في الليل يعتقد ان في الانسان طبقات كثيرة، وان لكل طبقة قولها الذي تريد ان تقول، وان لكل قول لغة ينصّب فيها، وان في كل لغة توترا لا ينتهي.
ولان في العقل عقولا، كان عقل مهدي عامل يأنس الى الفلسفة، حيث المفاهيم المركبة والجسم النظري الجدير بالاتساق، ويُفتن بالسياسة، التي تعطي العقل قوائم يسير عليها، وينجذب الى العمل الجماعي، الذي يصيّر الواحد كثيرا ويضع الكثير في عقول متعددة. بيد ان المكان الذي ارتضى مهدي ان يعلن فيه عن كثيره المتعدد كان: الشعر، ذلك الحقل الاليف والحميم الذي لا يأتلف، في هواجسه ولغته، مع ((نظرية)) مأخوذة بالمفاهيم الباردة. كان الشعر ليل مهدي بقدر ما كانت النظرية نهاره، وكانت القصيدة داخله بقدر ما كان العمل الجماعي خارجه. كان في القصيدة الليلية يلتقي بإنسانه الرهيف، بعد ان استهلك المثقف نهاره، او بعد ان اختصره النهار الى مثقف متفائل، ينسج قولا دائريا عن الجماهير والثورة والزمن الآتي. كان يرسل في النهار تفاؤل المثقف الذي يعيد شرح النظرية، ويعود في الليل الى اشواقه الداخلية، متوسلا الشعر، كما لو كان في مهاد الشعر اشياء لا تطالها النظرية ولا تعبّر عنها الجماهير. للنظرية العقل والمقابلات العقلانية، وللروح بوح طليق، يتمرد على العقل، وفضاءات من الاشارات والصور تغاير المفاهيم، التي لا تلتفت الى شقاء الروح والرغبات المكبوتة.
كان مهدي في الكتابة النظرية يعاني من عزلة العقل ولا يعاني منها: يعاني وهو ينجز جديدا متميزا ويحاول ان يضع ((التميز)) في قول جديد. ولا يعاني كثيرا، لانه يجد من يحاوره قبل الكتابة ويعثر على اكثر من محاور بعد الكتابة. كانت عزلة العقل عارضة امام عزلة الروح، التي ترى الى الموت والليل واللامتناهي والحب والمرأة، بعيدا عن قول جماعي ينسجه النهار ويطويه النهار ايضا. وفي مواجهة العزلة الثانية، اهتدى الى القصيدة، يضع فيها تجربة لا يعرفها الآخرون ولا ينصتون اليها. ففي النهار احاديث سياسية تنتهي الى الثورة، وفي الليل يأتي حديث القصيدة الذي ينتهي الى الحب ومجازاته المتعددة. وما قصائد مهدي، التي استولدتها عزلته، الا احاديث عن احجية الليل والرغبة المحترقة وامرأة لا ترى، تخفق في الروح ناعمة وتنسحب. وبقدر ما تبدو الثورة في النظرية شفاء للجماهير، يبدو الحب في فضاء القصيدة شفاء للروح. وفي قصيدة العاشق الابدي تظهر المرأة، كما تريد، حاضرة وغائبة ومتعالية يومية مبتذلة ورمزا لا يطال. كأن المرأة تأتي الى القصيدة عادية، قبل ان تتجاوز ذاتها في القصيدة وتلتحم بالليل.
تؤول قصيدة مهدي الهامشية عمله النظري الكبير، محدثة عن العلاقة المأساوية بين الانسان والتاريخ وبين جوهر الانسان والوجود. كأن مهدي، الحالم القريب من التصوّف، كان يكتب النص النظري المتماسك ويعلق عليه، ساخرا، بقصيدة اخرى. فللنظرية ان تتأمل التاريخ وتصوغه بلغة مليئة بالرغبات، وللقصيدة ان تكتب عن الرغبات الهاربة، وللنظرية ان تأخذ بلغة مصطنعة وشديدة الصناعة، وللقصيدة لغة اولى بريئة لا تحسن الاقنعة ولا ترضى بالقناع، وللنظرية الوعي اليقظ الذي يقيّد ذاته، وللشعر الوعي واللاوعي المكتسب والعفوي المتعلم وازمنة البراءة الاولى. جزأ مهدي ذاته، خارج القصيدة، فهو المفكّر والمناضل والاستاذ الجامعي، ووحّد نفسه داخل القصيدة، حيث الرغبة تلقي بغطائها على امور كثيرة.
ارتضى مهدي عامل بالواحد وبالأحادية في حقل معين، وخلق متعددا واسعا عاش فيه وذهب. وبهذا المعنى كان، وهو عاشق التناقض، ينقض ذاته ويتعدد قائلا، بهمس وبصوت عال معا: إن من لا يرى التعدد ويعيشه لا يستطيع ان يبشر بمجتمع حر، لان التعدد حرية، ولان التعدد هو اللايقين، ولان حرية اللايقين جوهر الحرية في مجالها الاسمى. ولم يكن غريبا على عاشق الليل والقصيدة والتناقض ان يعدد اسماءه: حسن حمدان في بطاقة الولادة، ومهدي عامل في مجال الكتابة، وهلال بن زيتون في سطور القصيدة. والتسمية هي الخلق، والمسمي يخلق الموضوع الذي يسميه. وكانت المسميات المختلفة اعلانا عن ولادات كثيرة، تخبر ان هذا الانسان المتمرد يرفض ان يختزل الى اسم وحيد او الى عمل واحد، ولا يرضى الا ان يكون متعددا في ممارسات كثيرة.
ومع ان اللغة المسيطرة ادمنت ان تربط الواحد واليقين والأحادية بالنظرية التي دافع عنها مهدي عامل، اي بالنظرية الماركسية، فإن هذه اللغة ترفض ان ترى ان البدء في الماركسية والمبتدأ، قبل مجيء ((ديكتاتورية البروليتاريا))، هو التمرد على الواحد المستقر القديم، اي مجتمع الثروة المتسلطة، وسياسة الاستعمار التسلطية، وقيود التبعية التي كبلّت الشعوب الفقيرة ولا تزال مقترحة لملايين البشر ملايين القبور التي لا تنتهي. وبهذا المعنى بدأ مهدي عامل ورحل وهو يحارب الواحدية، ومارس احادية الفكر ونقضها، وعاش حياته القصيرة متعددا ويقاتل من اجل التعدد. ومجاز تعدده، الى جانب القصيدة وقبلها، فتنة السياسة، التي تطالب بفرد يختلف عن غيره، يعلمه اختلافه معنى الرفض والنقد والاقتراح والاختلاف والمبادرة. تناقض آخر، عاشه ذلك المثقف المشبع بالتناقض، حين دعا الى حزب طليعي واحد، ودعا الى حزب وحيد تصوغه العقول المتعددة والارادات اللامقيدة.
((على عقل الانسان أن لا تصيبه الرطوبة)) قال مهدي مرة، في لحظة شرود وأسى. ونقيض الرطب ما يقبل الاشتعال، الذي اشتعاله حياته وموته في آن. ومهدي لا يزال، كما كان، متناقضا، مشتعلا ومنطفئا معا، ينقد العقول الرطبة ويرتاح الى مكان مشمس فسيح.
©2002 جريدة السفير