|
في نشوء وتكون الفكر السياسي العراقي وعلاقته بحالة الانحطاط الراهن
أحمد الناصري
الحوار المتمدن-العدد: 2304 - 2008 / 6 / 6 - 08:44
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
الفكر السياسي في شكله العام ، باعتباره انعكاس مباشر للتطور الثقافي والاجتماعي والحياتي في البلد المعين، وتعبير عن مصالح وأهداف محددة لجماعة من الناس، هو مزيج من تفاعلات كثيرة، يتأثر بالتاريخ والتجارب القديمة والحديثة، وقيمة المدارس والتيارات والشخصيات الفكرية والسياسية المحلية والعالمية، والصراعات الدائرة بين أطرافها وطبيعتها وأشكالها وأدواتها، ودرجة تأثير العوامل الداخلية والخارجية حسب الظروف والمكان الذي تدور فيه الأحداث السياسية، التاريخية واليومية، وأهمية البلد المعني الإستراتيجية والاقتصادية والسياسية، وعلاقاته بالمحيط الخارجي، ونظرة المحيط الخارجي له. الفكر السياسي والعمل السياسي في العراق كما في جميع الدول العربية تقريباً، مع تفاوت واختلافات بسيطة، لم ينشأ أويترافق مع تطور اجتماعي طبيعي، ولم يرتبط وينتج عن مشروع نهضة منجز او صاعد، ولم يرتبط بتحولات اجتماعية واقتصادية جذرية وكبيرة، بل حاول أن يكون رافعة من رافعات التطور والتعويض القسري أو شبة القسري عن غياب شروط تمهيدية ضرورية للتطور الاجتماعي العام، وأستخدم السلطة كأداة قسرية أولى ووحيدة لتحقيق أهدافه وبرامجه، لذلك أخفق في حالات كثيرة، وأعطى نتائج مأساوية وكارثية، على العكس من التوقعات والخطط المطروحة والأحلام الوردية في أغلب التجارب التي مررنا بها، وأوصلنا الى الحالة الخطيرة والمؤسفة التي نعيشها اليوم، وندفع أثمان باهضة تهدد وجود بلداننا، وكأن ما يحصل لنا ولشعوبنا قدراً محتوماً، وهو ليس بالقدر الوحيد في كل الأحول. لقد قادنا غياب الفكر السياسي والاجتماعي وهشاشته وسطحيته، الى حصول الكوارث السياسية، والى الفشل السياسي العام والمريع، في مجالات بناء الدولة الحديثة والمجتمع المتطور، والفشل في تحقيق الأسس المطلوبة في كافة المجالات والمستويات، وفي تحقيق الأهداف والمصالح البسيطة لشعوبنا، وحل المشاكل والأزمات المتفاقمة، والسير في ركب الحضارة التاريخي الطبيعي، بل حصل الارتداد والنكوص عن أبسط القواعد والمبادئ والأصول، وها نحن نتخبط ونعود القهقرى الى الخلف، وتطفو على سطح الحياة السياسية والاجتماعية مفاهيم بائدة تجاوزها الزمن، تقف في مقدمة هذه المفاهيم الطائفية السياسية والاجتماعية، بكل عنفها وخرابها السائد اليوم في العراق وإمكانياتها وأساليبها، وقبول الاحتلال والتبعية، والتخلي عن الحقوق المشروعة، وتبني الأفكار الخاطئة الأخرى، بتبريرات سياسية واهية في أحسن الأحوال. بدأت الحياة الفكرية السياسية في منطقتنا وبلداننا العربية مع انهيار التجربة العثمانية وآثارها وبقاياها الثقيلة في مجتمع تقليدي شبه جامد، ومع بداية سيطرة الاستعمار البريطاني والفرنسي وتنفيذ معاهدة سايكس- بيكو، وإطلاق وعد باللفور والتكالب والهيمنة الخارجية على المنطقة مع بداية اكتشاف النفط وتوسع حركة السوق الداخلية، ومع ثبات وبقاء القوى التقليدية في مواقعها القديمة، وعدم وجود حركية اجتماعية صاعدة، وظهور قوى داخلية مستعدة للتعاون والخضوع للخارج الاستعماري بشروط الخارج، أما القوى الجديدة والقوى الساعية للتغيير والبناء الجديد، فقد خضعت لشروط وعوامل سياسية واجتماعية موضوعية وذاتية كثيرة، قاسية ومتخلفة، حددت شكل العمل والنشاط الفكري والسياسي ومستواهما، وحددت مستقبل العمل السياسي في بلادنا، فقد فرض التطور الاجتماعي ودرجة التعليم ومستوى الوعي والحراك الاجتماعي العام وطبيعة السلطة الجديدة وأجندتها وسقف الحريات العامة ولجوء بعض الحركات السياسية الى العمل السري الكامل او شبة الكامل مما حرمها من النشوء والتكون الطبيعي، ومن غياب للدراسة والتخصص، وعزلها عن حركة المجتمع المتبادلة والمتفاعلة، وخسارتها لتجارب وإمكانيات كبيرة، ثم تعرضها للملاحقة والتضييق والاعتقال والسجن والإعدام والقتل في حالات ليست قليلة، كل ذلك أنتج حالة مشوهة غير متوازنة. كان ذلك خلال الثلاثينات والأربعينات حتى نهاية الخمسينات من القرن العشرين. ثم حصل التغيير الثوري السياسي والاجتماعي الكبير في تموز عام 58، بقيادة العسكر، بالتنسيق مع القوى والأحزاب السياسية الوطنية متمثلة في جبهة الاتحاد الوطني التي تشكلت عام 57 ومساندة الجماهير السريع والحاسم. إن قيادة ثورة تموز من قبل العسكر مثل النقص البنيوي الرئيسي ومنه تفرعت مشاكل كثيرة أخرى، من بينها طبيعة الفكر السياسي وتطوره ونضجه بالنسبة للحركة السياسية الوطنية التي شاركت وساهمت في التهيئة والتحضير للثورة، وطبيعة برامجها وشعاراتها وأغراضها، والنواقص والأخطاء الكبيرة التي سبقت ورافقت الثورة والصراعات العنيفة التي نشبت منذ الأيام الأولى لها، والتي أدت في النهاية الى توقف الثورة وإسقاطها، الى جانب والإصطفافات والتحالفات الجديدة الداخلية والخارجية، والتدخل الخارجي السافر والعنيف. لقد كانت التجربة السياسية بعد نجاح الثورة تفتقر الى أسس ومقومات كثيرة للاستمرار والنجاح في إنجاز مهامها، وكان النقص في الفكر السياسي العراقي يقف في مقدمة النواقص والاختلالات. ومن اختلال تجربة الثورة وسقوطها الرهيب في عام 63 بدأ الموت الوطني وبدأ التأسيس للخراب والانهيار الحاليين، عدا فترة حراك ونهوض فكري وثقافي ( شعري وتشكيلي ) وسياسي ثوري واجتماعي في أواسط الستينات انتهى عام 70 تقريباً، لكنه تحرك ونهوض مضطرب، شابته نواقص وتشوهات كبيرة، وهو بحاجة الى دراسة ومراجعة وتقييم لاستكشاف عناصره النافعة في المواجهة الحاسمة الدائرة حالياً بين شعبنا ومشروعه الوطني وبين الاستعمار العسكري الأمريكي وتوابعه. بعد انقلاب 17 تموز 68 وسيطرة البعث على السلطة بالطريقة المعروفة، وصعود نموذج استثنائي في الاستبداد والقمع والهيمنة وإدارة الصراع السياسي ضد الجميع بأدوات قمعية جديدة ساحقة، وبناء نموذج استثنائي للدولة القمعية، يعتمد على موارد النفط الهائلة وأدوات وشعارات وأساليب سياسية وقمعية فعالة، تلاشت إمكانية تكون وتطور الفكر السياسي الوطني المستقل عن السلطة، وجرى منع وملاحقة أي رأي أو فكرة مخالفة مهما كانت بسيطة، ثم جرت تطبيقات شاملة وقاسية للسيطرة على الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية بشكل تعسفي استبدادي منفلت، ضمن سياسة ما سمي تأطير المجتمع والسيطرة عليه، وعاد الهبوط والتردي والانقطاع السياسي عن مسار الحياة العامة وعن الأجيال اللاحقة من جديد، وقد تحولت هذه السياسات الرعناء العامة، الى حروب وصدامات خارجية كتحول طبيعي ضمن المنطق الخاص لصيرورة تلك الظاهرة الشوهاء ومسارها المعوج، وكانت من ثمارها الرهيبة المرة الحرب العراقية- الإيرانية التي اندلعت في 22 أيلول عام 80، وراح ضحيتها مليون عراقي مع خسائر مادية خيالية، وتعطل وخراب مجالات كثيرة في حياة الناس. وبعد فاصلة قصيرة، لا تعد استراحة ولا تكفي للمراجعة والتفكير، بل لم تكن كافية حتى لجمع جثث القتلى والضحايا ول(لفلفة) جراح الحرب العبثية الطويلة والرهيبة، جرّت السياسة الفردية الرعناء بلادنا نحو كارثة احتلال الكويت الشاملة وهاويتها الرهيبة، في عام 90، وحرب تدمير العراق في بداية عام 91، وأحداث الانتفاضة الشعبية وآثارها، وفرض الحصار الجائر الطويل على شعبنا وتجويعه وإذلاله، واستمرار هذا الوضع حتى الحرب الأخيرة، وقيام الغزو والاحتلال وسقوط بغداد المروع، في عام 2003، وانطلاق الحرب الأهلية الطائفية المستمرة الى الآن، والدمار والخراب الشامل، في وطن محطم ومستلب، يرزح تحت نير الاحتلال ومهدد بالتدمير والتقسيم النهائيين. من المؤكد أن التجربة السياسية المضطربة والرجراجة ونواقصها الهائلة ومشاكلها الكبيرة والمتكررة الممتدة منذ ثورة 58 و(قبلها أيضا) حتى يوم الاحتلال المشؤوم، ودخول الجيش الأمريكي الى بغداد، وبداية الاحتلال الاستعماري العسكري المباشر واستمراره، والمستوى الاجتماعي والحضاري العام، والإختلالات الاجتماعية والثقافية الكبيرة، هي التي سببت وأنتجت الحالة المتهرئة الراهنة في العمل السياسي وانهياره وانحطاطه، وهي التي مهدت تدريجياً عبر التخريب والاستنزاف الطويل والمنظم الى الالتقاء بالمشروع الأمريكي والقبول به والخضوع له، والتخلي عن الأهداف والمبادئ الوطنية الأساسية والبسيطة، ثم الانخراط بمخطط الاحتلال التخريبي، عبر القبول والمشاركة في مجلس الحكم التعيس والمحاصصة الطائفية، الى تنفيذ الحرب الأهلية الطائفية المدمرة والمجاهرة بخطط التقسيم، وبروز أحزاب وحركات وأسماء ووجوه هجينة وكاركتيرية وظواهر ممسوخة لا تمت بصلة الى التطور والتقدم الاجتماعي الطبيعي، ومن هنا برز المستوى الهابط والمتهرئ لما يسمى بالحركة السياسية الحالية التي أنتجها وفرضها الاحتلال بصورتها الحالية، وفشلها التام في كل شيء، وصراعاتها الدموية المنفلتة الى جانب عملية المحاصصة الطائفية والفساد والنهب العلني وعدم الاكتراث بمصالح الناس. يتبين من هذا العرض والمرور السريعين على التجربة السياسية العراقية، وما وصلت إليه الآن، من تهرؤ وانحطاط شاملين، إنها لم تنتج فكراً سياسياً هاما ً باعتباره ضرورة هامة من خلال استخدام العقل والمنهج النقديين، لأسباب عديدة ذكرنا بعضاً منها، والمشكلة تحتاج الى بحث دائم ومستمر لسد الفراغ الكبير، وللمساهمة في معالجة الخطر السياسي القائم حالياً، والمتمثل بالاحتلال والطائفية والتقسيم، وتدمير الروح الوطنية والوطن العراقي وعزله عن محيطه ومجاله العربي الطبيعي. لقد بقي الفكر السياسي العراقي يدور بين الفكر اليومي والفكر التبسيطي السائد وردود الأفعال المباشرة، ولم يكن هناك فكر إستراتيجي وتخطيط بعيد، لما يجب عمله في المستقبل، أو لمعرفة ما سيحصل غداً وبعد غد، لذلك كانت الأحداث والتطورات مفاجئة وصادمة وكارثية. إننا بحاجة الى فكر سياسي وطني نقدي، يتجاوز أخطاء وإخفاقات الماضي، فكر ينتمي للمستقبل ويساهم في تأسيسه وبناءه. ما هي حصيلة عموم النتاج الفكر الوطني؟؟ وأين مدارسه وتياراته؟؟ وأين هو الفكر الماركسي بكل تياراته؟؟ وأين هو الفكر اليساري الوطني؟؟ وأين هو الفكر القومي التقليدي، أو الفكر القومي الديمقراطي في العراق وفي بلداننا العربية ؟؟ وماذا عن الفكر الليبرالي الجديد ( التافه ) والممسوخ، باعتباره مؤيد ومبشر بقيم الاحتلال والاستعمار الجديد والعولمة بشكلها الإمبريالي، باستهتار واندفاع أجوف؟؟ وما هو دور المثقف العراقي في المراحل السابقة؟؟ وكيف أنقلب البعض الى مثقف تابع وحامل لمبخرة الاحتلال وشارح لمشروعه؟؟ علينا المساهمة في إنتاج الفكر السياسي الوطني النقدي، كمنهج للعمل ورافعة وتأسيس للبرامج والحلول الوطنية، وعلينا العمل الجاد للخروج من الأزمة العامة الخطيرة والطويلة، ولكي نساهم في إيقاف المهزلة العارمة والخراب الشامل ونساهم في إنقاذ الوطن من مأزقه التاريخي.
#أحمد_الناصري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المعاهدة الأمريكية - العراقية والموقف الوطني
-
لعنة الهامش - عن خراب مدينة الناصرية
-
ماكليلان والعجز في الاقتصاد الأمريكي والأمراض النفسية لجنود
...
-
المعاهدة الأمريكية - العراقية وقضايا الوطن المصيرية
-
شيء عن الثقافة العراقية
-
الصديق اليساري الوطني الدكتور عبد العالي الحراك
-
المأزق التاريخي
-
اليسار الآن
-
السياب الشاعر الكبير وليس السياسي
-
نحو تصعيد وتشديد النضال السياسي والحقوقي والإعلامي والدعائي
...
-
التاريخ ومقدمات الخراب، حول علاقة الحاضر بالماضي .. منطقتنا
...
-
مرثية ( بكائية ) لضحايا فاجعة المستنصرية
-
الخطة الأمريكية الأخيرة وفاجعة المستنصرية
-
أمنيات شخصية ساذجة لكنها مستحيلة على أبواب السنة الجديدة
-
عودة الى موضوع حركة الانصار
-
الحوار المتمدن .. رؤية مختلفة
-
محاولة لتحديد حجم وأهمية تقرير لجنة بيكر، وفق نظرة وطنية
-
التداعي والتراجعات والاحتمالات
-
التداعي
-
التحركات الأمريكية الأخيرة، هل هي تحركات اللحظة الأخيرة ؟؟
المزيد.....
-
العثور على قط منقرض محفوظ بصقيع روسيا منذ 35 ألف عام.. كيف ب
...
-
ماذا دار خلال اجتماع ترامب وأمين عام حلف -الناتو- في فلوريدا
...
-
الإمارات.. وزارة الداخلية تحدد موعد رفع الحظر على عمليات طائ
...
-
صواريخ حزب الله تقلق إسرائيل.. -ألماس- الإيرانية المستنسخة م
...
-
كيف احتلّت إسرائيل جنوب لبنان عام 1978، ولماذا انسحبت بعد نح
...
-
باكستان ـ عشرات القتلى في أحداث عنف قبلي طائفي بين الشيعة وا
...
-
شرطة لندن تفجّر جسما مشبوها عند محطة للقطارات
-
أوستين يؤكد لنظيره الإسرائيلي التزام واشنطن بالتوصل لحل دبلو
...
-
زاخاروفا: -بريطانيا بؤرة للعفن المعادي لروسيا-
-
مصر.. الكشف عن معبد بطلمي جديد جنوبي البلاد
المزيد.....
-
الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات
/ صباح كنجي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت
...
/ ثامر عباس
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3
/ كاظم حبيب
المزيد.....
|