|
مَن يخافُ -حين ميسرة-؟
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن-العدد: 2301 - 2008 / 6 / 3 - 11:10
المحور:
حقوق الانسان
من يخاف فرجينيا وولف؟ سؤالٌ أطلقه الأمريكيّ إدوار آلبي منذ أربعين عاما كعنوان لأحد مسرحياته. وأنا أحد الذين يخافونها، لأني من أكثر من أحبوها. لذلك كلما أقدمتُ على قراءتها أو ترجمتها أتهيأ ذهنيا وروحيا كمن على وشك الدخول في صلاة. نعم، فثمة درجات من الحب تقترن بالخوف. وهذا، بمعنى من المعاني، يتفق مع المذهب الأبيقرويّ الذي قرن المتعةَ بالألم، إذا ما اتفقنا أن الحب متعةٌ وأن الخوفَ يسبب لونا من الوجع، ربما الممتع. الشيءُ ذاته شعرتُه تجاه هذا الفيلم، "حين ميسرة"، الذي أثار جدلا واسعا لم يتوقف بعد. ظللتُ أخافه رغم أنني لم أكن قد شاهدته. تماما مثل خوفنا من فرجينيا وولف قبل أن نقرأها، ثم حين نقرأها يزداد خوفنا! الخوف الأول هو خوف من مجهول. والخوف الثاني هو خوف من معرفة هول هذا الذي كنّا نجهل، إذْ كلما عرفنا ذلك المجهول ازداد يقينُنا بأنه أشد غموضا مما كنا نظن. لكنني في الأخير استجمعتُ شجاعتي وذهبت لأشاهد هذا الفيلم المُربِك الشيّق الشاقَّ الشقيّ. كان أصدقائي، أدباءَ وصحافيين، يأخذون عليّ أنني أُحجمُ عن مشاهدته دون مبرر معقول. كلُّ المصريين شاهدوه، بعضهم شاهده أكثر من مرة، وصارَ حديثَ المدينة، ذاك أنه قسمَ الرأي العامَ قسمين: ما بين معادٍ جدا، ومؤيدٍ جدا. وأقولُ لهم: طيب، سأراه حين ميسرة! فيضحكون. ثم فتشتُّ بين أروقة نفسي: لماذا أخاف هذا الفيلم؟ ولماذا لم أرحّب أن يراه ابني مازن، رغم أنني أعامله على نحو ليبراليّ منفتح ولا أخشى عليه من صدمات كسر التابوو كما فعل معنا أهلُنا قديما فتشوّهت مداركُنا. لماذا أُحجمُ عن الفيلم رغم أنني دافعتُ عنه مسبقا وتساجلتُ بشأنه مع أصدقائي الإعلاميّين الذين هاجموا الفيلم في مقالاتهم أو في التليفزيون. دافعتُ عنه اعتمادا على رصيد المخرج "خالد يوسف" عندي. هو تلميذ "يوسف شاهين"، المخرج الفذ. لكن التلميذَ أدخلَ خطًّا جديدا على منهج الأستاذ قرّبه من المشاهد المصري العادي غير النخبويّ. تخلّص خالد يوسف من غموض شاهين وتعمّده الإيغالَ في تشظية الحدث وتفكيك الزمن. تلك التيمات التي جعلت من أفلام شاهين الأخيرة أُحجياتٍ مُلغزة، تروق كثيرا للمثقفين والفنانين والمجانين، لكنها تُنفّرُ المتفرجَ العادي الباحثَ عن "حدوتة" جميلة وحبكة ودراما متسلسلة كما عودتنا السينما المصرية منذ بداية القرن الماضي. حيث: يبدأ الفيلم بنقطة انطلاق، ثم تعلو الدراما مع الحدث حتى تصل إلى الذروة أو "العقدة الدرامية"، ثم تتوالى الأحداثُ حتى نصل إلى النهاية. التي قد تكون حلاًّ للعقدة، أو لا تكون. وقد يبدأ الفيلم من نقطة الذروة ثم يمضي في "لملمة" الزمن بالفلاش باك حتى تكتمل الصورة. المهم أن الحدث هو البطل. استطاع المخرج الشاب الاقتراب من هذه التيمة الأثيرة لدى المتفرج العربيّ، لكن بتقنيات فنيّة حداثية تشي بموهبة واعدة ورفيعة. وعرفتُ السرَّ وراء إحجامي. هو الخوفُ من الخوف. ذاك أن من شاهدوا الفيلم أجمعوا أن بالفيلم طبقاتٍ من البشر تجاوزت في فقرها كل ما عهدناه ورأيناه من فقر. مصريون ليسوا تحت خط الفقر، بل تجاوزوا هذا "التحت" بمراحل. وأنا أخافُ أن أخافَ على مصر. يقول الفيلم إن عشرين مليون نسمة تعيش في العشوائيات! وأن سبعةَ ملايين طفل يهيمون في الشوارع! يا إلهي! هل هذه مصر؟ مصر الجميلة. وماذا أقول لابني الذي كثيرا ما اصطحبته لنقف أمام الهرم وأنا أهتفُ: شوف قد ايه مصر عظيمة! هذا المشهد الذي تراه الآن ببساطة يدفع الأوروبيون عشرات الآلف من الدولارات كيف يروه! هذه بلدنا، نحن من هذه البلد! فماذا عساي أقول الآن؟ هل هكذا صارت أرضُ أعظم حضارات العالم!؟ وماذا فعلت ثورة يوليو إذن التي وعدت بتذويب الفوارق بين الطبقات؟ كيف سمحنا بأن يحدث ما حدث إن كان قد حدث؟ وأين المصريون فائقو الثراء وإن قلّ عددُهم؟ أين الحكومة؟ أين الرئيس؟ أين الضمير العام؟ ولأنني لا أمتلكُ أية إجابة عن أي سؤال مما سبق، فقد اتخذتُ الطريقَ الأسهل. وهو عدم طرح تلك الأسئلة. ومن ثم عدم مشاهدة الفيلم. لكن موجة الغلاء الكوميدي التي اكتسحت مصر مؤخرا، بما يشير بوشك دخولها مجاعةً محققة، جعلتني أغيّر في التكتيك، وإن حافظتُ على استراتيجيتي العامة وهي: الوهمُ الجميلُ خيرٌ من الواقع المرّ. هذه الحكمة البليغة وصلتُ إليها بعد مراس طويل مع المرارات التي لا حلّ لها. وطبعا لا أُلزمُ أحدا بهذه الاستراتيجية. هي حكمتي الخاصة بوصفي شاعرةً طوباوية تحيا في وهمها الخاص، والشعراءُ، كما تعلمون، لا جُناح عليهم. قررتُ الذهابَ إذن لأعرف عن أي فقراء يتحدث الفيلم، مادام الوضع الجديد بمصر سيجعل كلَّ الشعب فقيرا! الطبقة الوسطى تحللت فصعد نصفٌ بالمئة إلى فوق وصاروا فاحشي الثراء، وهبطت الغالبية الكاسحة إلى قاع الفقر والعوز. فأيّ فقر يطرحُ الفيلم؟ ووضعت لنفسي خطَّ رجعة. لو لم أتحمّل سأخرج في منتصف الفيلم ثم أُفعّل حيلي الخداعية وأقول لنفسي: لا تصدقي يا بنت! هذا مجرد فيلم! يعني وهمًا وفانتازيا! ومصر بخير. دخلتُ الفيلم ولم أُصدَم كثيرا كما كنت أظن. الفقراءُ يعوزهم المال، لكنهم استنبتوا لأنفسهم أظافرا حادة من سلاطة اللسان والجهل وانعدام الخلق. نعم طبعا، فالعلمُ والرقيّ يُفقدانك شيئا من قوتك. الخلقُ يُعلي صوتَ الضمير داخلك فتحجم عن أي سلوك ينالُ من خارطتك الخُلقية التي رسمتها لنفسك. لكن الفقير جدا ماذا يفعل غير أن يطيحَ بكل شيء حتى يعيش؟ الفيلم يقدّم رسالةً شديدة اللهجة إلى النظام. رسالة تقول: مع كلِّ لقمةٍ تنتزع من فمٍ فقيرٍ ثَمَّ نابٌ سامٌّ ينبت. وفي جعبة كل معوز جائع، ثَمَّ مجرمٌ وإرهابيٌّ وضالٌ يتكوّن. فاحذري أيتها الحكومة التعسة! وسألتُ نفسي: يا ترى أيهما أقوى: طالبةٌ موسرةٌ في الجامعة الأمريكية، أم البنتُ التي تنامُ في الشارع وتأكل من القمامة وتضاجعُ الأولادَ وتنجب أطفالا وهي بعدُ طفلة؟ الأولى قوية بمالها وعلمها، لكن الثانية أقوى بلسانها وأظافرها وبتحررها من مانيفستو الأخلاق والأعراف الذي رسمه لنا الدين والمجتمع. الكلُّ قويٌّ إذن، والكلُّ ضعيف ومأزوم وتعس. مادامت الدولةُ غائبةً، والحكومةُ تعرف كيف تحكم، ولم تتعلم كيف تحب!نهضة مصر|2يونيو08
#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ولم يكنِ الفستانُ أزرق!
-
أعوامٌ من النضال والاعتقال-مشوار فخري لبيب
-
إلى أين تذهبُ الشمسُ... يا جوجان؟
-
انظرْ حولك في غضب
-
ثقافةُ الوقوف في البلكونة !
-
بالطباشير: فقدانُ الهالة
-
داخل رحم
-
الأحدب والجميلة
-
ناعوت: «الهدم والبناء» في الوعي أصعب من «المعمار!-
-
السوبر قارئ
-
عينا الأبنودي
-
اِصمتْ حتى أراك!
-
كلام شُعَرا...!
-
أنفي والجيرُ المبتّل
-
الجميلُ الذي أخفقَ أن يكونَ عصفورًا
-
بالطباشير : عزيزي الله، من رسم الخطوط حول الدول؟
-
بالطباشير: آخرُ مُعتزلةِ هذا الزمان
-
بالطباشير:يا باب الورد، حِصَّة وين؟
-
الشَّحّاذ
-
بالطباشير: -سُرَّ مَنْ رآكِ- أيتها الغيوم
المزيد.....
-
المرصد السوري: نحو 105 آلاف شخص قتلوا تحت التعذيب بالسجون خل
...
-
تونس: المفوضية الأوروبية تعتزم وضع شروط صارمة لاحترام حقوق ا
...
-
وسط جثث مبتورة الأطراف ومقطوعة الرؤوس... سوريون يبحثون عن أق
...
-
مسئول بالأونروا: ظروف العمل في غزة مروعة.. ونعمل تحت ضغوط لا
...
-
جمعية الإغاثة الطبية بغزة: أكثر من 70% من سكان القطاع بلا مأ
...
-
-حفلات يومية-.. ممارسات تعذيب -احترافية- في مراكز الاحتجاز ا
...
-
الأمم المتحدة تبحث وقفا -غير مشروط- لإطلاق النار في غزة
-
أردني محرر من سجون سوريا يروي معاناة 26 عامًا من الاعتقال وي
...
-
هآرتس: وفاة 4 فلسطينيين تحت التعذيب بإسرائيل منذ أكتوبر 2023
...
-
وصفتها بالمتسرعة.. برلين ترفض مطالب بإعادة اللاجئين السوريين
...
المزيد.....
-
مبدأ حق تقرير المصير والقانون الدولي
/ عبد الحسين شعبان
-
حضور الإعلان العالمي لحقوق الانسان في الدساتير.. انحياز للقي
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
فلسفة حقوق الانسان بين الأصول التاريخية والأهمية المعاصرة
/ زهير الخويلدي
-
المراة في الدساتير .. ثقافات مختلفة وضعيات متنوعة لحالة انسا
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نجل الراحل يسار يروي قصة والده الدكتور محمد سلمان حسن في صرا
...
/ يسار محمد سلمان حسن
-
الإستعراض الدوري الشامل بين مطرقة السياسة وسندان الحقوق .. ع
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نطاق الشامل لحقوق الانسان
/ أشرف المجدول
-
تضمين مفاهيم حقوق الإنسان في المناهج الدراسية
/ نزيهة التركى
-
الكمائن الرمادية
/ مركز اريج لحقوق الانسان
-
على هامش الدورة 38 الاعتيادية لمجلس حقوق الانسان .. قراءة في
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
المزيد.....
|