د.منذر بدر حلوم , جامعة تشرين – اللاذقية سوريا
في اللامبالاة اعتكاف عن ممارسة الفعالية (الخارجية) العامّة وانكفاء إلى الذات (الداخل). أمّا هذه الحالة فتنشأ , غالبا , من الشعور بعدم وجود طلب خارجي على الشخصية: شعور بعدم الأهمية , أي عدم حاجة الآخرين أو المجتمع إلى الفرد المعني وشعور بالعجز عن التأثير في الآخرين وشعور بالعجز عن تغيير الظروف الخارجية لصالح الطلب على الشخصية. ويشتد تأثير العوامل السابقة تحت تأثير محاصرة طاقات الفصام الداخلي الإبداعية بضغط المادي العام (اليومي)على النفسي الخاص (اللازماني) , أي ضغط العام المشترك على الخاص المختلف وضغط غياب شروط الإبداع و الطلب الخارجي عليه على الحاجة الداخلية إليه. الأمر الذي ينجم عنه استنفاذ شرط الفصام الإبداعي لصالح فصام مرضي أو توجيهه باتجاه انهزام نصف الداخل لصالح النصف الآخر , انهزاما يعمل بعض العقائد على أن يكون نهائيا. فيتلقف بعضها من انهزم نصفه اليمين ويتلقف بعضها الآخر من انهزم نصفه اليسار إلى فعالية وهمية مبنية على عجز الفرد فتقود إلى المزيد منه.
أمّا في الحالات الأشد فتكون اللامبالاة بمثابة اعتكاف عن ممارسة الحياة , عموما , لصالح حياة تمارس نفسها فتكون أشبه بحياة كائن في بيات أو سكون , تحضر فيها حركة فيزيولوجية داخلية لا تعبّر عن نفسها خارجيا إلا بالحد الأدنى من مظاهر الحياة. أما بالنسبة للإنسان الداخل في سكون اللامبالاة فتحضره , إضافة إلى الفيزيولوجي , حركة نفسية داخلية تتحدد بمعاداة الخارج كله , حركة تسوّر نفسها بشعور عدائي ضده , فتغيب مظاهر الحياة الإبداعية , بل مظاهر الحياة عموما خلا تلك التي تجسّد الحد الأدنى الذي يكفل استمرار الحياة.
1- البطالة واللامبالاة: البطالة بحد ذاتها لافاعلية إجبارية. ففي حين يكون في اللامبالاة آلية اختيار داخلي قد تؤدي إلى ما يمكن تسميته باللامبالاة الجانبية أو الجزئية ( لامبالاة تجاه نشاط ما, من جهة, وفعالية آلية تجاه غيره من جهة أخرى) , كأن يعمل الشخص وظيفيا في مهنة أو اختصاص ما ولا يبالي بما يدور حوله من أشياء لا تمس عمله أو حياته بالمعنى المباشر, يكون في البطالة أساس للامبالاة شمولية تطال كل شيء. فثمة إرجاع يلعب دورا هنا يعمّق القطيعة مع المجتمع وما يرتبط به من شأن عام. فالشعور بعدم الأهمية المتمثل بغياب الطلب الاجتماعي على الشخص , يترافق هنا مع وقائع داعمة للشعور بعدم أهمية التحصيل والمعرفة بما تعنيه من معالجة ذاتية للمعلومات , أي الشعور بعدم أهمية بناء الذات.
و هكذا , فإذا كان ثمة فرصة أمام من يعاني لامبالاة جزئية للهروب إلى مجال فاعلية آخر , أو فرصة أمام الفصامي لأن يجد في ذاته مهربا , فإن انهزام الواقع والفكرة في حالة البطالة العلمية يقود إلى لامبالاة كلية , بل إلى حالة يأس وغربة تتحدد فيها العلاقة مع الخارج ( الدولة والمجتمع ) بالعداء و القطيعة.
2- البطالة المقنّعة واللامبالاة: تتمثل أهم آليات التدمير في البطالة المقنعة فيما يمكن أن يطلق عليه تعبير ( وهم الفاعلية ). ذلك أن في البطالة المقنّعة عملا كاذبا ومشغولية كاذبة ليس للفائض فقط , فالجميع فائض في ظل البطالة المقنعة , لأن الجميع نصف يعمل أو شبه يعمل. ولا يخفى على أحد ما للعمل من أهمية في تحقيق التوازن النفسي المبني على برمجة الوقت وعلى تحقيق طلب خارجي على الذات وعلى إنفاق جانب من الذات في عمل يسوّغ إنفاق الجوانب الأخرى في غيره. أما البطالة المقنّعة , بما هي خداع تمارسه مؤسسات الدولة على المجتمع , فيبقى الخداع الذي في أساسها حاضرا على جميع المستويات. وأكثره ضررا ما يمارسه المستفيد الوهمي من البطالة المقنعة من خداع ذاتي. فهو ينفق وقته بكذبة العمل و بالخداع إذ لا يعمل , وهو يخدع نفسه موهما إياها بأهميته مع إدراكه أنه فائض عن الحاجة , وهو يخدع الآخرين بأهمية دوره الوظيفي عن طريق المبالغة والعلاقة العدائية التي يعوض بها عن قلة اهتمام الآخرين به ( أي أولئك الذين يفترض أن لهم مصلحة اجتماعية بوجوده).
أما العاطل المقنّع فيعود بعد ذلك كله إلى البيت, مدركا عدم أهميته أو قلة شأنه , و مدركا في الوقت نفسه الخداع الذي يمارسه على الآخرين و مستمتعا به في آن , مخفيا عن نفسه الخداع الذي يمارسه على ذاته , ذلك أن الأخير يحقق له الأهمية. فتكون علاقة العاطل المقنع بالواقع علاقة فصامية من نوع خاص. وكأية حالة فصامية لامرضية تكون قاعدة للإبداع , بيد أنها هنا , من منطلق الضرورة , تكون قاعدة لإبداع الكذب و الحيل الآدمية الرخيصة. وذلك كله يكون مبنيا على جملة اشتراطات هي اللامبالاة عينها. فالقبول بصفة الفائض يعني قبولا مسبقا بأهمية منقوصة تكون على حساب الآخر , أي أن هذا القبول يمثل وجها من أوجه الاعتداء على الآخر. كما أن لعبة الوهم ذاتها تقتضي غض النظر عن واقع العمالة في المؤسسة المعنية وعن الواقع الاقتصادي عموما, أي هي تعني لامبالاة بالعام , بالاجتماعي. إضافة إلى ذلك, فإن ممارسة الوهم , كضرورة للاستمرار , تقتضي علاقة خاصة مع من يتعامل معهم الفائض وظيفيا أو العاطل المقنع ,علاقة جوهرها اللامبالاة بوضعهم وبوقتهم وبمالهم وبحاجتهم إلى العمل .. الخ. ومن جهة أخرى , يؤدي استخدام البطالة المقنعة أو توظيف فائض عمالة , كآلية اقتصادية , إلى تعميق البطالة من خلال العجز عن خلق تراكم اقتصادي و العجز عن خلق فرص عمل حقيقية جديدة , وهذا بدوره يقود إلى اللامبالاة بالعلوم أو إلى انفصال الواقع عن العلوم في حال وجودها.
3- إنتاج اللامبالاة ذاتيا: لا تقتصر اللامبالاة , بصفتها منتجا من منتجات البطالة والبطالة المقنعة , على العاطلين كليا أو جزئيا , إنما تتعداهم إلى المجتمع ومؤسساته , بما في ذلك التعليمي منها. فالمجتمع من جهة قبوله بوهم الاشتغال و وهم الفاعلية و وهم الأهمية ينتج أوهاما من نوع خاص تخدم اللامبالاة. أي هو ينتج لامبالاته الخاصة التي تعمق الانفصال بين الدولة والمجتمع , انفصالا يمكن أن يبلغ حد القطيعة. فلا يمكن للمجتمع أن يعيش بمعزل عن فعاليات اجتماعية عامة مشتركة تحقق اجتماعيته. وبالتالي حين تغيب الفعاليات الاجتماعية الحقيقية ( أحزاب وجمعيات ونواد ومنتديات متمايزة مختلفة) تدفع ضرورة تحقق الاجتماعي إلى إيجاد بدائل في فعاليات وهمية , فيبالغ , مثلا , بمجالس العزاء إلى درجة تحوّل الطقوس المرتبطة بها إلى ما يخالف العرف الديني أحيانا , ويبالغ بالزيارات والعلاقات الاجتماعية الأهلية و بأهمية التفاصيل و التوافه اليومية , وتتحول مجالس الطعام والشراب إلى فعل شبه يومي يخدم وهم الفاعلية الاجتماعية حينا والثقافية حينا آخر و السياسية بينهما , ويعود مقهى النراجيل ليحل محل النادي والعائلة لتحل محل الجمعية و المضافة لتحل محل المنتدى..الخ. ولا شك في أن لذلك كله أهمية كآلية دفاع تقي الناس اللامبالاة المرضية . فتوهّم الاشتغال وتوهم الفاعلية والأهمية أصح على المستوى النفسي من التسليم بعدم وجود طلب على الفاعلية , و بعدم جدوى القيام بأي عمل و بعدم الأهمية الشخصية , ذلك أن التسليم بالأخيرة يقود إلى اللامبالاة واليأس والعدوانية. ولكن , أليست هذه الفاعلية الوهمية وجها من أوجه عيش اللامبالاة إلى جانب كونها عامل وقاية منها ؟
البحث في إجابة عن هذا السؤال لا بد أن يسير في منحيين: أولها , وعي حالة اللامبالاة وعلاجها بسلوك من جنسها ؛ وثانيهما , البحث في اختلاف اللامبالاة الموعاة والمدارة عن اللامبالاة المرضية , واختلاف نتائجهما على المستويين النفسي والاجتماعي.
من المعلوم أن اللامبالاة بالوسط المحيط و المحافظة على علاقة بهذا الوسط تتحقق من خلالها الحياة الاجتماعية في آن معا , تتضمن سرّا يخفي ممارسة اللامبالاة في العلاقة الاجتماعية وإعادة إنتاجها كنمط حياة اجتماعي. لكن تحقق ذلك يقتضي , على المستوى الفردي , الاهتمام بالآخر الذي يكون به المجتمع , بما يضمن مردودية العيش اللامبالي ( تحقيق الحاجات الحياتية ). بنتيجة ذلك تسود المجتمع حالة غش واحتيال وخداع متبادل يقرّ به الجميع كما يقرون بمعادله الأخلاقي (المقولات الأخلاقية التي تسوّغه), بل ينتجون المقولات و المعايير الأخلاقية الموافقة له , ويقرون بمعادله الثقافي أيضا و ينتجون المقولات والمعايير والأنماط التي تسانده وتستند إليه , كما يترسخ معادله السياسي ويتم الإقرار به , وهو يتمثل بالخداع المتبادل بين الفرد والدولة والمجتمع (التسيب, الأداء الوظيفي المنخفض , الرشوة واختلاس أموال الدولة , إدارة الفساد والإدارة به وإدارة لقمة العيش بما يحقق شروط اللعبة و يبقي جدار اللامبالاة قائما بين الشعب والسلطة ).
يعبّر هذا الوفاق اللامبالي عن حالة يعادي فيها المجتمع الدولة و تكون جل ممارساته مضادة لفكرة الدولة , دون أن يمنعه ذلك من الرضوخ بطواعية لبعض مؤسساتها , ذلك أن الأخيرة تمارس وهم الدولة , وتكون بذلك معادية كمثل المجتمع بممارساتها لفكرة الدولة . وهكذا , تقود هذه الحالة إلى شخص يمارس التسيب وينتقده , يمارس الفساد ويعبّر عن اعتراضه عليه , ويكون صادقا في الحالتين. فهي لعبة إما أن يكون داخلها أو يكون خارج المجتمع. وإن اختار الحالة الثانية يكون قد انتقل من الفصام الذي يبدع الخداع والغش المتبادل إلى ما يشبه الفصام المرضي. ويكاد لا يستثنى أحد من ذلك خلا القلّة التي تكون , على الرغم من كل شيء , قادرة على الإبداع الجمالي.
إذن , فثمة عيش لامبال من نمط خاص يكون وقائيا يستبدل الخداع بالعنف. لكن يجب ألاّ يفوتنا أن قواعد اللعبة بحاجة إلى تغيير بين فينة وأخرى. فالأوهام , عكس الحقائق , تستهلك بسرعة , وثمة حاجة إلى وهم جديد بين الحين والآخر. فالإنسان لا يستطيع أن يعيش وهم فاعلية محددا بوظيفة أو سلوك أو طقس معين فترة طويلة من الزمن , ذلك لأن اللعبة , حتى بالنسبة لأكثر الناس حماسا وأقلهم فطنة , تصبح مملة مع مضي الوقت و تنفضح قواعدها , فيكون لابد من تغيير في شروطها أو في بعض عناصرها , كأن يدخل لاعب جديد أو أن تضاف صناديق مغلقة جديدة , يكون على اللاعبين إيجاد الحيل للوصول إليها و العثور على مفاتيحها. ثم بعد امتلاك مفاتيح الأهمية هذه , يتم حبس العامّ في الصندوق و الدوران حوله وتحويله إلى فرجة.
لكن الاعتقاد بإمكانية استمرار اللعبة , كمبدأ , إلى ما لانهاية وهم قاتل. فهكذا لعبة تنتج عجزا فكريا واقتصاديا ونفايات فكرية واقتصادية ونفسية وسياسية تعبّر عن نفسها حين تبلغ عتبة معيّنة , فتفجّر كل المكبوت والمقموع خلف اللامبالاة بأشكال وصور قد تنسف المجتمع والدولة. بيد أنه يجب ألا يفوتنا أن ثمة عوامل تطيل من فاعلية ما أسميناه اللامبالاة الوقائية. من أهم هذه العوامل الأديان والأيديولوجيات , أي العقائد الدينية والسياسية التي يجد فيها اللامبالون بالواقع اهتماما بالوهم واللامبالون بالتطبيق اهتماما بالنظري والشعاراتي واللامبالون بالدنيوي اهتماما بالأخروي , اهتماما تقدمه العقائد في صورة طلب على الأشخاص يضعهم موضع الاهتمام وينقلهم إلى شروط لعبة جديدة تستثمر لامبالاتهم السابقة من زاوية أن أحدا ما يعرف إلى أين عليهم أن يسيروا وما عليهم إلا أن يتبعوه . لكن على كل منهم أن يتبعه , معتزا بنفسه , مكموما بوهم أن المسيرة تكون به , ناسيا في غضون ذلك أنه لا يكون أكثر من رقم في قطيع أو أداة يستبدل بها غيرها. أما الرقم والأداة فلا شخصية لهما , قد تتحقق الأشياء والأهداف بهما لكنها لا تكون من أجلهما.
وفي الوقت الذي يسيطر فيه فراغ إيديولوجي يتمثل في عجز الأيديولوجيات القديمة عن طرح أوهام جديدة أو تغيير شروط اللعب لإحياء أوهامها القديمة , و عجزها بالتالي عن اجتذاب من ضاقوا ذرعا بوهم الفاعلية الاجتماعية والسياسية والفكرية والعلمية , في هذا الوقت نجد الأديان تجتذب الكثيرين , ذلك أن العقائد الدينية تعد بما يصعب فضحه, فالأشياء التي تعد بتحقيقها تكون بعد الموت ولا أحد , للأسف , يعود من هناك.
إلى جانب اللامبالاة الموعاة التي تكون عناصرها وشروطها معروفة على مستوى الفرد والمجتمع والدولة , هناك لامبالاة فردية يعيشها الفرد ولا يعيها , كما هناك لامبالاة اجتماعية يعيشها المجتمع دون أن يدركها. وهذه وتلك تكون نتيجة ثانوية من نتائج لعبة اللامبالاة الوقائية التي يخيل للبعض أنه يمكن إدارة المجتمع ومؤسساته بها إلى ما لا نهاية بنجاح ودون أخطار تذكر. لكن الواقع يقول بأن ثمة كثيرين لا يستطيعون العيش طويلا مخادعين أنفسهم متوهمين أهميتها , حتى لو تغير اللاعبون وشروط اللعبة والأهداف (الأوهام). فهم بحاجة إلى فاعلية حقيقية وأهداف حقيقية , وإلى أن تكون أهميتهم الواقعية بما ينسجم مع طاقاتهم و ممكناتهم العقلية والنفسية والروحية , لا أن يكونوا مشلولين من جانب متضخمين من جانب آخر. فلا يمكن , مثلا , تحييد أو إهمال الروح لصالح العقل أو العقل لصالح اللاعقل أو الأخلاق لصالح اللاأخلاق وحبس المهمل في حجرة مظلمة إلى الأبد . فهو لا بد سيخرج إلى النور , لكن ذلك سيكون بالكيفية التي توافقه وفي الزمن الذي يناسبه و بما ينسجم مع التفاعلات الشخصية عند الفرد والاجتماعية عند المجتمع. ومن الطبيعي أن المؤسسات التي تدير اللامبالاة وتدير بها تكون أعجز من أن تتوقع زمن وكيفية خروج المهمل المهمّش , وأعجز من أن تمنعه. لذلك فإن اللامبالاة , كائنة صورتها ما تكون , تحمل خطر انفجار العنف في أية لحظة. و بين هذا وذاك يؤدي التراكم النفسي الثانوي الناجم عن مخلفات العجز الجزئي إلى لامبالاة مرضية قد ينكفئ الناس بنتيجتها عن المشاركة في اللعب فيتحولون إلى قطيع من غنم عجيب لا لحمه يؤكل ولا هو يدر الحليب أو ينتج الصوف.أما هؤلاء فلا يكون بهم اقتصاد , ناهيك عن أن يكون بهم علم أو فكر أو حتى دولة. ففي الوقت الذي يمكن فيه لبعض العقائد أن تفيد من نتائج اللامبالاة , بتلقفها المحبطين اليائسين وتزويدهم بأوهام توظف بعض طاقاتهم , فإن الدولة تكون الخاسر الأكبر , فهي لا يمكن أن تكون باللامبالاة إلا ضعيفة تابعة. فدولة قائمة على شعب لامبال ومؤسسات لامبالية تكون شكلية و تكون بنيات كالعائلة والعشيرة والطائفة أكثر حضورا وأهمية منها. أما اللامبالاة فلا تأتي دفعة واحدة , بل تكون بالتدريج و مع كل مرحلة تدفع بالمرء من بنية إلى أخرى وفقا لتراتبية البنيات وقدرتها على توظيف الطاقات. وهكذا فقد تأخذ اللامبالاة صورة إلغاء أهمية الدولة والشأن العام لصالح بنيات أخرى تناقض فكرة الدولة. ففي أن يجد الفرد مرتكزا لنشاطه والتعبير عن نفسه في بنية من نمط العشيرة أو الطائفة إضعاف للدولة. وفي حين يمكن للسلطة القائمة على اللعبة الطائفية , مثلا , أن تكون أكثر استقرارا , فإن الدولة نفسها تكون أكثر هشاشة.
4- فاعلية العطالة أو لامبالاة الميكانيزمات والقوانين:
لو أطفأت محرك سيارتك وهي تسير على طريق مستو دون أن تفرمل فستتابع سيرها إلى مسافة ما ثم تتوقف. أمّا المسافة التي تقطعها فتتعلق بجملة عوامل مثل كتلتها والسرعة التي كانت تسير عليها وقوة الاحتكاك ومقاومة الهواء ..الخ. ذلك في مثال الآلة , أما في المجتمع فهناك ما يمكن أن يطلق عليه تعبير حركة اللامبالاة أو حركة السكون الناجمة عن العطالة. وبما يشبه آلية السيارة , البسيطة على تعقيدها , التي تنتهي إلى التوقف فتصبح كتلة عديمة الفاعلية الذاتية , خلا فاعلية الاستسلام للحركة العامة والاستجابة للمؤثرات الخارجية , بما يشبه ذلك يقود ضعف الدفع الداخلي الميكانيزمات الموقعنة لفكرة الدولة والناظمة لها إلى المزيد من التأثر بالقوى الخارجية , حتى إذا توقف الدفع الداخلي , كما في حالة اللامبالاة , ساد الفعل الخارجي سيادة شبه تامّة. وهكذا تتعيّن الميكانيزمات والقوانين (التي تتلخص وظيفتها الأساسية بجعل فكرة الدولة واقعية وتنظيم العلاقات بين عناصرها و بينها وبين غيرها بما يضمن تحقيق ذلك) إيجابا بالفاعلية و سلبا باللامبالاة. ومنه , يكون على الميكانيزمات التي تسيّد فكرة الدولة والقوانين التي تنظمها أن تتعين بفاعلية الداخل. ولما كان التعيين لا بد منه وكنا إزاء داخل لامبال كانت ميكانيزمات الدولة وقوانينها أمام خيارين: إمّا أن تتعين بالتعسف أو تتعين باللامبالاة. لكن التعيين بالتعسف يقود إلى المزيد من التعيين باللامبالاة. إذن , فالتعيين في كلتا الحالتين يكون باللامبالاة. ذلك أن التعيين بالتعسف لا يقود إلى أية فاعلية حقيقية وتكون وظيفته الأساسية المحافظة على قشرة الدولة وجعلها كتيمة تخفي عن الخارج ما يدور في الداخل وعن الثاني ما يدور في الأول. ومنه تكون الدولة , في ظل لامبالاة الداخل , في أحسن حالاتها , قشرة أو غشاء بين خارج معني بهذا الغشاء (ذلك أن علاقات التبادل تتم عبره بل تنحصر به غالبا) وداخل لا مبال به , منفصل عنه (ببنياته الطائفية والعشائرية والعائلية) . وهكذا تكون ميكانيزمات الدولة وقوانينها , في حالة التعيين التعسفي أو التعيين باللامبالاة , بين قوتين كلاهما خارجية من وجهة نظر فكرة الدولة , وتكون معنية بنفسها فقط , أي تكون لامبالية سواء بالداخل اللامبالي أم بالخارج المعني بما يفيد منه مما يمرره غشاء الدولة أو القشرة. وهكذا تطال اللامبالاة الدولة نفسها , فتصير إلى ( دولة لامبالاة ) , إذا صح التعبير. وتكون , كما يكون مواطنوها , أشبه بأداة لا شخصية لها , يتقاذفها الصانعون , يستخدمونها عندما يصنعون أشياءهم الخاصة ويلقون بها في صندوق العدّة عندما يلهون.
- انتهى -