|
إلى من يتغنى بالموت ليل نهار!
نذير الماجد
الحوار المتمدن-العدد: 2300 - 2008 / 6 / 2 - 11:11
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
ليست الحياة إلا قنطرة أو مرحلة مؤقتة أو عبور للحياة الآخرة، هذه الفكرة الراسخة في الوعي الديني اقتحمت كل النشاط الوجداني المكرس في الأدبيات الكلاسيكية ولازالت تمارس تأثيرها على بقايا المتبتلين الذين يقادون لتمثل حياة مستعارة مستمدة من هاجس الموت ومتأثرة بكثافته العالية وزخمه الكبير الذي استفادت منه جميع النظم الأخلاقية في عصور ما قبل الحداثة. ومهما كانت المبررات التي لن نعدمها في عصور كان الإنسان فيها تتقاذفه الأقدار والنوائب ويقف أمام الطبيعة بذهول وعجز شبه كامل إلا أن للموت وظيفة براغماتية آنذاك كوسيلة ضبط وعالم افتراضي تعويضي يساعد على التخفيف والحد من آثار العجز في مجابهة الطبيعة والسلطات السياسية.
لهذا كان الموت سلاح من لا سلاح له، وحياة من لا حياة له، وقد وظفته سائر الأديان عند انبثاقاتها الأولى في مواجهة جميع أشكال التسلط، السياسي أو الطبيعي، وأشبعت من خلاله حاجة الإنسان للتعويض عن قصوره المزمن في تحكمه بمصيره بصياغتها لعالم افتراضي وحياة مستعارة أو مؤجلة، إنه يشكل أداة مفهومية في خطاب موجه للسلطات السياسية والأنساق الاجتماعية المحافظة بغية خلخلتها أو إضعافها.
لكن طقوس الموت لا تتخذ زخمها الشديد إلا في البنى الثقافية للمجتمعات المأزومة، وعليه فإن ثمة علاقة طردية بين التخلف الاجتماعي وبين مقولة الموت من جهة، وبين مقولتي التقدم والحياة الأصيلة من جهة أخرى، لهذا كان من الطبيعي حدوث القطيعة في المجتمعات التي أحرزت التقدم وتمكنت من إخضاع الطبيعة واستعادة السيادة العليا أو المشروعية السياسية لتصبح منتجة ومحتكرة للإنسان وحده. وفي هذا المناخ الدنيوي تعلمنت العلوم والفنون وازدهرت المعارف وتطورت الصناعة، وبالتالي استعادت الحياة الأصيلة الغير مستلبة مكانتها وحل حب الحياة محل الخوف من الموت.
هذا ما حدث في الغرب وهي سيرورة حتمية لاتزال مجتمعاتنا البائسة غارقة في معاكستها، لأنها لاتزال متمسكةً بالسماء بصفتها الملاذ والمرجعية في تحديد جميع مناشط ومعالم الحياة. من الطبيعي إذن أن تستفحل ثقافة الموت ويترعرع الخطاب الديني الوعظي الذي يساهم في تكريس هذا اللون من الحياة المقنعة التي يمثل فيها الموت القيمة المرجعية التي هي وحدها الحاسمة لفعل الوعي وشرط النجاة، ورعاة هذا النمط الفكري الدعوي المتشائم والابتزازي بامتياز هم الذين يحددون شروط ممارسة الوعي "الديني" واستحقاقات النجاة. والقراءة الدينية الجوهرانية المعتمدة على فعل الإكراه والقسر هي التي يجب أن تهيمن على الوعي الديني كله، وبالتالي لا يبقى أمام المتلقي سوى الرضوخ، أوليس الموت لغزا ليس بمقدور أحد تفكيكه سوى هؤلاء الرعاة الوعظيين أنفسهم؟!
مسكين هذا المتلقي المجهد الذي تقدم إليه هذه الوعظيات المشحونة بعبق الموت، ليجد نفسه مجبرا على تعاطيها رغم أنه يجفل منها وهذا ما يجعله يقع ضحية التناشز والصراع الذاتي بين واقع مقبل على الدنيا مليء بمسراتها وغرائزها وبين أفكار طوباوية تحبذ الزهد والتقشف وتدعو إلى نبذ الدنيا، إنها نزعة تحرض على كراهية الحياة باسم الدنيا وباستعارة ثقافية مستمدة من النسق الذكوري الذي يزدري ويحتقر الحياة والمرأة معا. وفي كل مكان يصل إليه هذا المتلقي المتبتل ينبغي عليه الإنصات لهذا الصوت الرخيم الذي ينذره ويخوفه بعذاب شديد وويلات جسام! وأينما ذهب، في المسجد، أو في الطريق أو في المنزل يجد أمامه "تذكرة الموت" ونذر الجحيم.
تحاصره وتسيطر عليه "تذكرة الموت" إلى أن تتمكن من النفاذ والاندماج في داخله كرقيب ذاتي يمارس الرقابة ويفرض وصاية ذلك العالم المفترض على كل سلوكياته وحركاته وسكناته إلى أن يتمكن هذا الرقيب من قمقمة الإرادة وشل القدرة على التمرد والاختيار وصولا لحالة مشوهة يكتنفها الحزن والغم واحتقار المحيط والملذات الدنيوية وفقدان المناعة على مستوى الفرد والمجتمع وحدوث شروخ على المستوى النفسي تتسبب في إحداث الاستعداد والقابلية لتمثل سلوكيات عنيفة مبطنة ورفض ضمني أو صريح لكل أو مجمل المتع والملذات المجردة عن الاكراهات الغيبية. حتى الجماليات الدنيوية المنتزعة من كل سياق أو علامة دينية ينالها الاحتقار، لهذا السبب أصبح المرء الخاضع لهذه التلقينات الدعوية يتسم بطبيعة خشنة نافرة من الفن ومرتابة منه.
ويؤدي مذاق الموت هذا إلى تعكير دائم للحالة المزاجية للفرد، يكون معها مستعدا لتلقي وممارسة العنف في سلوكه وثقافته وتعاطيه مع المختلف، و مع اشتداد واقع الهزيمة يصبح الموت أكثر إغراءً وأشد إلحاحا وتصبح الحياة ساكنة خاملة نتيجة هذا المفعول السحري العجيب للموت، ومعه يبدو الخلاص حقنة مخدرة مهمتها تأجيل الفرح والبهجة إلى حين الاستحقاق: تخدير من جانب وكراهية من جانب آخر!
قبل أيام عرضت قناة المعارف الدينية على شاشتها مشهدا تمثيليا يقدم نموذجين للسلوك الديني، أحدهما متبتل متنسك شاحب الوجه حاد القسمات عازف عن الدنيا مقبل على الآخرة فيما الآخر مقبل على الدنيا مفتون بمسراتها رافلا بنعمائها متغافلا عما سواها، فكان أن فاجأه الموت بغتةً ليبدأ الرعب والتخويف مما جعلني أطفئ الجهاز خشية على العائلة من تعكير المزاج! هذا المشهد والرعب الممارس فيه قد أعاد إلى ذهني الفيلم الديني "رب رجعون" الذي حظي بصدى واسع من المتلقين من فئتين: المتلقين البسطاء وقد سبب لهم الفيلم فعل الصدمة! أو المتأسلمين التقليديين أو الأصوليين! ولكن حشدا من الواعين والمثقفين قاموا بتوجيه نقود حادة ضد هذا الفيلم واشباهه،وهو فيلم يعتمد أسلوبا وعظيا مشحونا بالإكراه والترهيب والابتزاز بحقائق غيبية لا يمكن الإحاطة بها إلا من داخل إطار الرؤية الدينية التقليدية نفسها المعتمدة في هذا العمل الذي يكاد لا يختلف كثيرا عن أفلام الرعب في هوليود.
ولعل شيئا واحدا فقط هو الذي يجعل المتلقي البسيط يذعن لاملاءات هذا الفيلم هو فكرة الموت وهي الفكرة التي يخشاها ويتحاشها الإنسان لعشقه للحياة، والموت هو أكثر مفردة تتكرر في هكذا خطاب بل هي الفكرة المركزية التي يتمحور عليها الخطاب كله، فبالموت تعاد صياغة الحياة وليس العكس.
من هنا لا يمكن تقبل هذا النسق المفرط في التشاؤم والسوداوية علاوة على محاولته الدائبة في تقديم الله بصورة حاكم له من السطوة ما يفوق ما لدى تيمورلنك أو هتلر، ليبدو من طراز أي حاكم مستبد لا يرحم ولا يسمح بتجاوز خطوطه الحمراء التي هي إرادته ذاتها. يقول غاندي: أكره الإساءة لكني أحب المسيئين، ولا أعتقد أن الله يقل رحمة عن غاندي.
هذا الخطاب وما فيه من أدوات تتضمن العنف مع المتلقي لا يمكن أن يتفهمه الإنسان الحديث الذي يكتفي من الدين برصيده في التجربة الدينية والمعنوية، التجربة التي توفر له البهجة والرضا والتي لا تحتقر الدنيا بل تجعلها الميدان الوحيد للاختبار، التجربة التي جعلت الحلاج يقول بملء شدقيه: أنا الحق أنا الله وليس في جبتي سوى الله! هذه الفعالية الدنيوية التي تتسق وتنسجم مع التجارب العرفاينة في الثقافات والأديان الشرقية هي التي أحلت إله الحياة المتسامح محل إله الموت المهاب والمنتقم.
#نذير_الماجد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لماذا كذب وليد جنبلاط؟
-
آمنوا ولا تفكروا!
-
حوار الأديان في السعودية.. هل هو اكذوبة أبريل؟!
-
اشكاليات الحجاب في الخطاب الديني
-
السعودية:المرأة و السيارة و جدل لا ينتهي
-
طبروا كلكم إلا أنا!
-
الاسلاميون في البحرين و مفاتيح جنة الفقهاء!
-
عاشوراء: موسم المنابر و حصاد الوجاهة!
-
التحية إلى روح بينظير بوتو
-
نحو رؤية جديدة للزواج
-
الإسلاموية و فوبيا التجديد!
-
أحاديث في الحب
-
فتاة القطيف: قضية فتاة أم وطن!
-
الفن ليس محظورا منذ الآن «2»
-
العمامة الفاخرة و -الناصح المشفق-
-
الفن ليس محظورا منذ الآن!
-
عمامة برجوازية في باريس!
-
ثقافة النقد و نقد الثقافة
-
الممارسة الدينية بين التكليف و التجربة
-
--تأملات حول التشيع السلفي-
المزيد.....
-
وجهتكم الأولى للترفيه والتعليم للأطفال.. استقبلوا قناة طيور
...
-
بابا الفاتيكان: تعرضت لمحاولة اغتيال في العراق
-
” فرح واغاني طول اليوم ” تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 اس
...
-
قائد الثورة الإسلامية: توهم العدو بانتهاء المقاومة خطأ كامل
...
-
نائب امين عام حركة الجهاد الاسلامي محمد الهندي: هناك تفاؤل ب
...
-
اتصالات أوروبية مع -حكام سوريا الإسلاميين- وقسد تحذر من -هجو
...
-
الرئيس التركي ينعى صاحب -روح الروح- (فيديوهات)
-
صدمة بمواقع التواصل بعد استشهاد صاحب مقولة -روح الروح-
-
بابا الفاتيكان يكشف: تعرضت لمحاولة اغتيال في العراق عام 2021
...
-
كاتدرائية نوتردام في باريس: هل تستعيد زخم السياح بعد انتهاء
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|