بدءً، أود أن أوضِّح للقارئ الكريم، أني كنت وما زلت من الداعمين لمجلس الحكم منذ انبثاقه وذلك لأنه كان الأفضل مما يمكن تحقيقه –رغم نواقصه- وفق الظروف المتاحة ولأنه الخطوة الأولى في الإتجاه الصحيح لتحقيق الآمال الديمقراطية الجميلة. ولكن هذا لا يعني أني أدعم المجلس ظالماً أو مظلوماً دون تمييز. فهذا الدعم مشروط بما يقدمه المجلس من أعمال في صالح الشعب العراقي ومواقفه من الديمقراطية وحقوق الإنسان. ومن حقنا، في العراق الديمقراطي، أن ندين الأعمال التي تتعارض مع هذه الشروط وننتقد المواقف التي تستحق النقد ونسدي لهم النصح بما يفيد المصلحة العامة ومنسجماً مع منطق التاريخ.
لقد فوجئ الشعب العراقي يوم 1/1/2004 ب"مكرمة" من مجلس الحكم بمناسبة العام الجديد، وذلك بإصدار القرار المرقم 137 ألغى بموجه (قانون الأحوال الشخصية) الذي أصدره الزعيم العراقي الأسبق عبد الكريم قاسم في أوائل الستينات من القرن الماضي واعتبر تقدميا ينصف المرأة العراقية ويمنحها حقوقا واسعة. وتفيد الأخبار أن الأعضاء الإسلاميين في المجلس استغلوا غياب الأعضاء الآخرين (العلمانيين) ومرروا قرارهم المذكور و«الذي يكرس الطائفية والانشقاق في المجتمع والأسرة العراقية». إن تصرف هؤلاء يوحي وكأنهم يعملون عن قصد على خلق المزيد من الأعداء لهم في هذه المرحلة الصاخبة من تاريخ العراق الجديد التي تتطلب منهم الحكمة في إصدار القرارات.
لقد أصدر الزعيم عبدالكريم قاسم هذا القانون قبل أكثر من أربعين عاماً وبعد مداولات طويلة وجادة مع خيرة المتضلعين في القانون المدني وعلم الاجتماع والمهتمين بحقوق الإنسان. واعتبر القانون في وقته من قبل التقدميين أنه أفضل قانون تقدمي إنساني صدر في العالم الثالث في معالجة الأمراض الإجتماعية التي ينوء منها المجتمع العراقي. ولكن، استغل القانون من قبل طيف واسع من المعارضة الداخلية والخارجية التي ناصبت العداء لثورة 14 تموز المجيدة، فنجحوا في استدراج رجال الدين فأصدروا الفتاوى ضده قائلين بأنه مخالف للشريعة الإسلامية، وهو ليس كذلك بطبيعة الحال.
فمن المعروف، منذ كتابة التاريخ وإلى الآن، أن الرجال هم الذين يهيمنون على الحكم ويسنون القوانين التي تخدم مصالحهم المادية وتشبع غرائزهم الجنسية. إن هيمنة الرجال على مقاليد الحكم ناتجة عن مرحلة تاريخية معينة حيث لعبت القوة العضلية وليس العقلية، دوراً أساسياً في هذا المجال. فاستحوذوا لأنفسهم بحصة الأسد على الأرث وأربعة زوجات وما لا نهاية له من زواج المتعة والمسيار والإماء وفق ما ملكت أيمانهم. واعتبار المرأة ناقصة عقل ودين وأن شهادتها في المحاكم تساوي نصف شهادة الرجل... الخ
لا شك أن ما جاء في الإسلام قبل ما يقارب 15 قرنا، كان إجراءً تقدمياً يناسب ظروف المرحلة. ولكننا نعرف أن الإسلام فتح باب الاجتهاد سمح بموجبه إجراء تغييرات وفق ما تفرزه ظروف المراحل القادمة من مستجدات. وهناك قول مأثور للإمام علي (ع) قلما يذكره الإسلاميون وهو: (لا تقسروا أولادكم على عاداتكم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم ). وهذا دليل على أن الإمام كان مدركاً لمتطلبات المستقبل.
كما ويخبرنا التاريخ أن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) أجرى أكثر من أربعين تغييراً في الشريعة الإسلامية بعد عشر سنوات من وفاة الرسول (ص). ورغم القول أن (لا اجتهاد في النص) إلا إن عمر قد اجتهد في النص مثل الغائه زواج المتعة وحصة المؤلفة قلوبهم في الغنائم وغيرها كثير. ونحن إذ نسأل: إذا كان عمر شعر بالحاجة الماسة إلى هذا الكم من التغيير بعد عشر سنوات فقط من وفاة الرسول، فكم من الأمور الأخرى التي سيقدم على تغييرها إذا ما جاء اليوم وبعد ما يقارب 15 قرناً من الزمان؟
إذا كانت المرأة حقاً، ناقصة عقل ودين، كما يدعي الإسلاميون، فكيف كان الرسول (ص) يستشير زوجاته في كثير من الأمور وخاصة أم سلمة التي كانت تمتاز بالحكمة؟
المرأة هي الأم والأخت والزوجة والإبنة والزميلة والصديقة والرفيقة.. المرأة العراقية ناضلت كما ناضل أخوها الرجل وتحملت الكوارث. وتشكل النساء في العراق الآن حوالي 60% من الشعب. إن النظرة الدونية للمرأة هي امتداد للتراث البدوي الماضي المتخلف، عندما كان الإنسان يكسب عيشه بقوة عضلاته وليس بقوة عقله، أي كان يعيش بالطرق البدائية والهمجية كالغزو والقتل والنهب والسلب والإغتصاب والإختطاف وبيع الأسرى في أسواق النخاسة. والمرأة بطبيعتها لا تجيد هذه الأعمال البربرية لكونها أقل قوة من الناحية العضلية. ولكن أثبت العلم، أن المرأة تتمتع بقدرات عقلية لا تقل عن الرجل وقد تفوقه في العديد من المجالات. وبصورة عامة، تعتمد القدرة العقلية عند الإنسان على عدد الخلايا العصبية neurons في الدماغ. وقد وجد العلماء أن عدد الخلايا العصبية في دماغ المرأة أكثر مما في دماغ الرجل. كذلك فإن المرأة أكثر قابلية لتحمل الأمراض والمحن والصبر في الظروف القاسية من الرجل. كما وبينت نتائج الإمتحانات ما قبل الجامعة (A-level ) في بريطانيا وأمريكا تفوّق الإناث على الذكور, كذلك نسبة البنات في العديد من الكليات وخاصة المتخصصة منها بالعلوم الطبية في أغلب البلدان أكثر من الذكور. وفي روسيا تشكل النساء أكثر من سبعين بالمائة من الكادر الطبي.
كما وشكلت المجندات ما يقارب 100 ألف في القوات الأمريكية في حرب الخليج الثانية التي حررت الكويت من الغزو الصدامي. ونلاحظ نفس النسبة الآن في قوات التحالف التي حررت العراق. فإذا كان هذا هو الوضع ونحن نعيش في القرن الحادي والعشرين، فما هي امتيازات الرجل على المرأة كي يستمر في استعبادها؟
إن القرار 137، سابقة ليست في صالح العراق الجديد وأساء إلى سمعة مجلس الحكم وأصاب أنصاره بخيبة أمل فضيعة. ومن المفرح أن السيد بول بريمر باشا قد استخدم حق النقض (فيتو) على القرار المذكور سيئ الصيت وأبطل العمل به، وأثبت لنا مرة أخرى أنه أكثر حرصاً على مصلحة الشعب العراقي والديمقراطية وحقوق الإنسان في العراق الجديد من العديد من السياسيين العراقيين وخاصة الإسلاميين منهم. فتحية للسيد بريمر وأعزه الله ونصره.
ومن نافلة القول، أن الحقوق الديمقراطية لا توهب إلى الشعب من أحد، "ولكن تؤخذ الدنيا غلابا". لذلك نرى أن الحقوق التي تحققت للشعوب الغربية الديمقراطية لم تأتِ لهم على طبق من ذهب، بل من خلال نضالات جماهيرية عبر قرون. لذلك على جماهير شعبنا وخاصة المنظمات النسائية منها، شن نضال شديد بلا هوادة لنيل حقوقهن، ومعهن جميع الرجال المتنورين التقدميين. كما وندعو السادة الذين أصدروا القرار 137 أن يعيدوا النظر في مواقفهم السياسية وآيديولوجياتهم الشمولية وأن يستخلصوا درساً من مصير صدام حسين وما آل إليه من نهاية مذلة. فمهما بلغ حكام اليوم، الذين يعملون تحت تأثير آيديولوجياتهم الشمولية، فلا يمكن لهم أن يصلوا إلى جبروت صدام حسين. فقد خرج الجني العراقي من القمقم ولا يمكن إعادته كما كان. نصيحتي لهم أن يقرأوا التاريخ جيداً ويستوعبوا دروسه القاسية، فالتاريخ لا يرحم ويعامل المغفلين والجاهلين في السياسة كمجرمين.
وختاماً، أحيّي ما قامت به "الناشطات العراقيات اللائي يمثلن حوالي 80 جمعية نسائية، بينهن وزيرة الاشغال العامة نسرين برواري من مظاهرات في ساحة الفردوس للاحتجاج على قرار مجلس الحكم... ورفع شعارات منددة بالقرار المذكور مثل: «لا للتفرقة، لا للتمييز بين المرأة والرجل في عراقنا الجديد» و«نرفض القرار 137 الذي يكرس الطائفية والانشقاق في المجتمع والاسرة العراقية».
إلى الأمام، فما ضاع حق وراءه مطالب.