• بصرف النظر عن أي جدال مفيد وضروري عن العلاقة بين الأميركيين والديمقراطية في العالم العربي، فإن مما لا جدال فيه أن نظام البعث العراقي كان دكتاتورية حمقاء ومستهترة، أشبه بمقتلة عبثية مستمرة راح ضحيتها مئات ألوف العراقيين. نريد من إبراز هذه النقطة أن التشكك الضروري معرفيا والسليم سياسيا بالراية الديمقراطية للحروب والتدخلات الأميركية لا ينبغي أن يشجع على التعامي عن أو التقليل من الطابع الدكتاتوري العميق لأنظمة الحكم في المشرق العربي، والتي لا يمثل نظام صدام البائد غير طليعتها الدموية. وفي إطار أوسع، نريد من ذلك "فك الارتباط" بين رفض التدخلات والضغوط الأميركية وإغماض العين عن الجوهر الاستبدادي للأنظمة العربية من جهة، وبين العمل من أجل التغيير الديمقراطي في البلاد العربية والتغاضي عن تطرف الهيمنة الأميركية واستهتار أجندتها في المنطقة العربية من جهة أخرى.
• نظام صدام لا ينسى ويجب ألا ينسى. وإذا شئنا تثبيت مكون ديمقراطي ومعادي للطغيان في الوطنية العراقية المتجددة فقد يجب توجيه "نزع البعثية" العراقية العراقية أو "استئصالها" بعيدا عن نوازع الانتقام وقريبا من نزع الاستبدادية و"الوطنية العسكرية" وترسيخ العدالة والثقافة الديمقراطية. ولا نجازف بالوقوع تحت "صدامين" من نوع آخر إن نسينا صدام فقط، ولكن أيضا إن تذكرناه بطريقة معينة (كما سنشير بعد قليل) أو اكتفينا من نزع البعثية بإقصاء البعثيين من العراق الجديد.
• العراق تحت الاحتلال الأميركي. ليست هذه كارثة الكوارث ولا نكبة النكبات ولا "أم الهزائم" إلا إذا استمرت المندبة في احتكار المشهد الفكري والثقافي والإعلامي العربي، أو إذا هيمنت الأصوات العراقية التي لا تتذكر صدام حسين إلا لكي تنسى الاحتلال الأميركي وتريح بالها من عناء الرد على التحديات التي يثيرها، وربما لتتمكن من منح نفسها شعورا نضاليا. وما دام الاحتلال واقعا فإنه يفرض بحد ذاته صيغة لتفاعل العراقيين معه تقترب من محاولة فعل أفضل ما يمكن من وضع سيئ. هناك ما يمكن فعله على الأرجح. وفي توفر هذا الإمكان يتفوق الاحتلال الأميركي بلا شك على الطغيان الصدامي الذي لم يكن يترك أدنى مجال للاحتجاج العقلاني (ولا نقول الاعتراض السياسي). لكن الاحتلال "وضع سيئ" بلا شك أيضا خلافا لما توحي به مثابرة عراقيين على هجاء دكتاتورية صدام وعدم اقترابهم من الحقل السياسي والإيديولوجي الجديد في بلادهم. ونميل إلى الاعتقاد أن كثيرين من هؤلاء هم ممن أتاح لهم الحمق الاستثنائي لنظام صدام حسين أن يصيروا "ديمقراطيين" دون جهد وبثمن بخس. فعلى حساب صدام حسين يستطيع حتى أمثال أحمد شلبي ووفيق السامرائي أن يكونوا ديمقراطيين أصيلين (بشرط واحد: أن يتوافق ما هو على حساب صدام مع ما هو لحساب الأميركيين).
• من المحتمل جدا أن طغيان صدام المديد الذي دمر المجتمع المدني والحياة السياسية في العراق سيتفاعل مع منظورات الأميركيين الاستشراقية التي تتمحور حول نظرية الجوهر الفسيفسائي الثابت لمجتمعات "الشرق الأوسط" ومع مصالحهم الاستعمارية الجديدة، باتجاه قد يدفع "الديمقراطية العراقية" لتكون ديمقراطية بابلية من نوع ما: لا أحد يفهم فيها على أحد ولا أحد يتفق مع أحد ولا وجود لقواعد مشتركة للترجمة المتبادلة للمواقف والمصالح. الخطير في هذا التطور المحتمل أنه سيوجه المطالب الاجتماعية نحو أولوية الأمن والاستقرار (كما وجهتها دكتاتورية صدام الرعناء نحو أولوية الخلاص)، وصولا حتى إلى الترحُّم على صدام حسين وأيامه. هكذا يكون الطاغية قد حقق انتقامه. لكن الأخطر أن احتمالات انتشار فوضى بابلية في العراق ستعطي عمرا جديدا ودفعا متجددا لنظرية عدم ملاءمة الديمقراطية للبلاد العربية، وهي نظرية تضمر مواقف عنصرية تضع العرب دون غيرهم من الشعوب، او مواقف "خصوصانية" (عنصرية بالمقلوب: نحن فوق الآخرين)، وتسوغ نفسها بحجج اقتصادية وجيوسياسية وثقافية. وهو ما يلائم في كل الأحوال أعداء الديمقراطية الكثيرين والأقوياء في العالم العربي، وفي العراق طبعا.
• بعد تحييد الأميركيين الناجح للمؤثرين الإقليمي والدولي، نرجح أن يتحدد تأثير الوجود الأميركي في العراق بالحصيلة الجبرية- إن جاز التعبير- لمصالحهم وقوتهم، ثم حجم ونوعية المقاومة التي سيواجهونها. تشترك في صوغ التصور الراهن للمصالح الأميركية عقيدة المحافظين الجدد بجناحيهم الليبرالي والديني وبالنزوع الامبريالي لكلا الطرفين (بحجج حداثية، ديمقراطية وتنموية، عند الأولين؛ وتوراتية عند الأخيرين) وباشتراكهما في ليكودية متطرفة. وتضع هذه العقيدة المصالح الأميركية ضمن إطار أوسع، إحداثياه هما: التحكم بالشرق الأوسط وإعادة رسم خرائطه السياسية وربما الجغرافية، ثم "تأمين" القرن الحادي والعشرين قرنا أميركيا وإحباط احتمالات بروز أية قوى عالمية منافسة. ويجعل الإحداثي الأخير من تنظيم الشرق الأوسط، وفي القلب منه "تأمين" إسرائيل، قاعدة لنظام عالمي جديد تحت الهيمنة الأميركية، اي لنظام الامبراطورية الأميركية و"السلم الأميركي". هذا التصور مختلف تماما عن التصور البراغماتي أو الواقعي الذي ساد في الحرب الباردة وكان يقوم على توازن القوى ومذهب الردع والاحتواء. ولعل أصل الفرق في تصور المصالح هو فارق القوة النسبية بين أميركا ما بعد الحرب العالمية الثانية وأميركا ما بعد الحرب الباردة، ثم ما بعد 11 ايلول الذي رسخ حضور وتأثير الجناح الديني ضمن جماعة المحافظين الجدد. وليس هناك أي سبب يدفعنا للاعتقاد بأن علاقة ديمقراطية "بلاشفة البيت الأبيض" هؤلاء (بنديت كوهن) بالحرية وحقوق الإنسان وحكم القانون ستكون أقوى من علاقة اشتراكية بلاشفة الكرملين السابقين بالعدالة والمساواة والأخوة الإنسانية.
• ونتحدث عن نوعية المقاومة العراقية لا عن حجمها فقط لأن لمقاومة مدنية، أو تخضع فيها أشكال المقاومة المسلحة المحتملة لسيطرة سياسية ومدنية وموحدة أو منسقة، انعكاساتها الإيجابية على حجم المقاومة وانتشارها واتساع قاعدتها في المجتمع العراقي. وهي بالطبع تعطي نتائج مختلفة عن مقاومة مسلحة تجمع بين التشرذم والفئوية والافتقار للأفق السياسي ومجافاة أساليب العمل المدني. والاختلاف الأهم أن شكل المقاومة الأخير يدفع أكثرية العراقيين إلى الانزواء والشعور بالضياع والتمزق الوجداني بين رفض للمحتلين يشاركون فيه وبين عدم القدرة على القبول بأساليب عمل أو كفاح فئوية وأقلوية بطبيعتها حتى لو استندت إلى بلاغة شعبوية او إسلاموية. فالمقاومة لا تكون وطنية لمجرد أنها ضد الأميركيين ولكن لأنها توحد العراقيين وتتجاوز انقساماتهم العصبوية والإثنية. وهذا ما تتضاءل فرص حدوثه إذا سيطرت الأشكال الإقصائية، وبخاصة الدينية منها، على مقاومة المحتلين. وما قد يحدث فرقا حاسما يدفع نحو هذا التوجه أو ذاك هو وجود قيادات سياسية عراقية محترمة تكون موضع إجماع معنوي حتى لو لم يؤيدها كل الناس سياسيا. وقد لا يكون الأمر المفاجئ عدم وجود قيادات من هذا النوع (بالنظر إلى الفراغ القيادي الذي أحدثه نظام صدام حسين الذي كان أفتك سلاح تدمير شامل ضرب به المجتمع المدني العراقي) بل استغناء بعض النخب العراقية بشتم العرب عن الحد من آثار الفراغ القيادي وتحليل المشكلات التي تواجه بلادهم. فكأن هجاء العرب، وهو يبلغ منذ الآن حدود السماجة، يحل أية مشكلة عراقية؛ وكأن "إثبات" دكتاتورية العرب يساعد على تحقيق الديمقراطية في العراق؛ وكأن الانفصال عن العرب يصلح أرضية لتواصل العراقيين فيما بينهم.
• انتهى نظام صدام ولم يعد للنقاش حول الموقف من الحرب الأميركية لإسقاط النظام أو تغييره أي معنى. وانتهت كذلك إشكالية الخلاص الضروري من الطغيان واستحالة التغيير الداخلي. فالعراق الآن تحت الاحتلال، ونظام صدام، وربما صدام نفسه، تحت الأنقاض. ولم يعد يمكن استبقاء هذه الإشكالية التي فقدت معناها إلا بإكسابها بدل المعنى القديم وظيفة جديدة: تغطية السير في ركاب الاحتلال الأميركي وتبريره، أي بالضبط منح شرعية ديمقراطية لموالاة السلطة الجديدة. هذا ما لا يريد البعض أن يروه، أو هم لا يريدون (ربما لأنهم لا يستطيعون) أن يبلوروا لأنفسهم هوية سياسية جديدة أو يعملون على إعادة تكييف دورهم السياسي. لكنهم بذلك يجازفون بأن يكون عنوان هويتهم، أي "المعارضة العراقية"، مفارقة تاريخية. فالسلطة في بغداد اليوم للأميركيين، وهم من قد يقتلون العراقيين أو يسرقونهم، وهم من لا يستطيع المرء اليوم أن يكون "معارضة عراقية" ومؤيدا لهم في الوقت نفسه؛ واسم حاكم العراق اليوم بول بريمر وليس صدام حسين. ولحراسة هذا النسيان المفيد يبذل الأميركيون جهودا كبيرة للإبقاء على صدام حسين حيا في الإعلام، ولذلك أيضا من غير المحتمل أن يعلنوا موت الطاغية حتى لو تحققوا من موته لأنهم بذلك يخسرون الأساس المتين الوحيد لبناء معسكر حلفائهم. ثم أن إعلان موت الطاغية سيدشن مرحلة جديدة حتى بالنسبة لمن لم يكتف بسقوط نظامه لإدراك أن مرحلة جديدة قد هلت، وأنها تتطلب تحليلات جديدة وحسابات جديدة.
• إن خضوع شرائح كبيرة من النخبة العراقية لسلطة الاحتلال الأميركي أو تبعيتها للخطط الجيوسياسية الأميركية في المنطقة سيضعف فرص التراكم الديمقراطي في ظل الاحتلال، ويدفع المقاومة العراقية الممكنة إلى أحضان تصور للوطنية يمزج بين معاداة الأميركان ومعاداة الديمقراطية. وبالعكس إن من شأن استقلالية شرائح واسعة من النخبة العراقية أن يسهل الاستفادة الديمقراطية حتى من الاحتلال. بل إنه ليس غير هذه الاستقلالية يمكن أن يكون أرضية لتجدد الوطنية العراقية وامتلائها بمضمون ديمقراطي.
دمشق 23/5/2003