سؤال يفرض نفسه في ضوء الوضع الاقليمي وعلى خلفية التهديدات الامريكية المستمرة ضد سوريا والاصرار من قبل الحكومة الاسرائيلية على محاولة تحميل سوريا المسؤولية عن العمليات الاستشهادية داخل الارض المحتلة ، والتي جاء الاعتداء الإسرائيلي على سوريا في منطقة عين الصاحب كرد على العملية الاستشهادية في حيفا ( الجميع يسمونها انتحارية بما في ذلك المسؤولون في السلطة الفلسطينية جميعهم بلا استثناء . وحدهم السوريون ( ملكيون اكثر من الملك ) و معهم الحركات " الجهادية " ، ومعها بعض الشخصيات التي أدمنت سابقا الخطاب القومي ، فلما أفلس هذا الأخير ، انتقلت بكل يسر وببساطة إلى الخطاب الديني الذي لا يختلف في جوهره عن الخطاب القومي الثورجي ) .
يقال : إن السياسة هي فن الممكن . هذا صحيح . ويقال : إن السياسة و الأخلاق لا يلتقيان . وهذا صحيح أيضا . لا توجد في عالم السياسة لا عقائد راسخة ولا حقائق منزهة . كل شيء قابل للاتفاق عليه وكل شيء قابل للنقض . هذا هو عالم السياسة عبر العصور .. بدءاً من اتفاق موسى وفرعون ، مرورا بصلح الحديبية و صلح بريست ، باتفاقيات يالطا وبوتسدام وانتهاء بفك الارتباط عام 1974 واتفاقية أوسلو ، وصولاً إلى خارطة الطريق .
السؤال الثاني هو : هل فعلاً إن النظام الرسمي العربي أجاد إدارة الجانب السياسي من الصراع : سابقاً العربي ـ الصهيوني ، والآن الإسلامي ـ اليهودي ، وربما يريده البعض ( من أمثال بن لادن ) إسلامي ـ " صليبي " ؟ . ألم نرفض ما عرض علينا في عام 1948 لنطالب به بعد 1967 ؟. ألم نرفض ما عرض علينا في السبعينيات من القرن الماضي لنرضى ونطالب به في مدريد ؟ ألم يرفض الفلسطينيون ما عرض عليهم في زمن إدارة كلينتون ليحاولوا الحصول عليه في اتفاقية جنيف ؟ . وطالما أننا لم نحسن إدارة المعركة سياسياً ، فهل نحن اعددنا لها بشكل جيد عسكرياً ومجتمعياً وتنموياً ؟ الجواب كلا . لقد أخفقنا في تحقيق متطلبات الحداثة بكل جوانبها . والمشكلة تكمن في أننا كنا على الدوام منفعلين بالأحداث ، ودائماً كانت ردود أفعالنا تلبي بشكل أو بآخر متطلبات المخطط الصهيوني . وفي هذا الخصوص أسوق دوماً مثالاً واضحاً من لعبة الشطرنج ( وهل " رقعة شطرنج " بزيجينسكي تختلف كثيراً ؟ ) : اللاعب الأستاذ قادر ـ بخبرته و" ضخامة المعلومات " لديه ، وبالطبع عبر جهده وتدريبه المتواصل ، أن يقرأ تفكير الخصم لعدة خطوات مقبلة ، مع جميع الاحتمالات الممكنة .. ولذلك فهو ينتصر على مجموعة خصومه الضعفاء الغير مدربين ، الغير متابعين ، والواثقين جداً من أنفسهم لا لشيء سوى لأنهم .. ضعفاء ومستهدفين ( ولذلك يمنع الرأي الآخر وتمنع مراكز الدراسات ويمنع كل شيء باستثناء مديح الزعيم والقائد الذي لن تنجب الأمة أحدا من بعده ـ إنها الثقافة الشفوية وثقافة العشيرة ) .
لننظر قليلاً للوراء إلى بدايات المشروع الصهيوني في المنطقة .. ولنبدأ من اختلاف العرب ومن ثم رفضهم لقرار التقسيم ومن ثم هزيمة الجيوش العربية في 1948 والتي كانت خيانة بعض الأنظمة أحد أسبابها .. ( هذا اصبح حقيقة تاريخية ) .. ولتبدأ بعد تلك الهزيمة سلسلة لن تنتهي من الانقسامات والخلافات ( المنفوخة والمضخمة من خلف الستار ) بين أنظمة " تقدمية " تريد رمي إسرائيل في البحر وبين أنظمة تقليدية "ً رجعية " تحارب في السر والعلن تلك الأنظمة التقدمية ( بحجة محاربة الخطر الشيوعي كما كانت ترغب أمريكا ومن ورائها إسرائيل ) ولكنها تقيم في السر علاقات اقتصادية وتجارية وأمنية مع إسرائيل .. وهكذا لم ينته ذلك الانقسام والتضاد وما حمله من مؤامرات متبادلة ( مما دفع بجميع الحكام تدريجياً للارتماء في أحضان أمريكا طلباً للحماية ) – أقول لم ينته ذلك الانشطار إلا بعد إتمام المرحلة الأولى من المخطط الصهيوني الإمبريالي للمنطقة والذي تزامن مع انتهاء الحرب الباردة وانهيار المنظومة الاشتراكية ، وبالتالي انتفاء صفة التقدمية عن أنظمة وصفة الرجعية عن أنظمة أخرى ـ لتصبح كل الأنظمة ، ويا للعجب ، إسلامية وترفع شعارات إسلامية وجهادية (كان نظام صدام " البعثي و القومجي " يرفع شعار الله اكبر على العلم الوطني ) الخ .. أي أصبحت كلها رجعية بمقاييس الحقبة السابقة . وذلك رغم بقاء نفس الدساتير( بما في ذلك المادة 8 الشهيرة ) ، ومع وجود نفس القيادات ونفس الأحزاب في السلطة ..
هنا وفي هذه اللحظة التاريخية بالضبط ، تحدث النقلة النوعية التالية في تاريخ الصراع حول فلسطين : يتحول الصراع إلى إسلامي – يهودي بعد أن كان عربياً – إسرائيليا لعقود طويلة ساد خلالها انقسام الأنظمة العربية إلى " تقدمية " و " رجعية " ، وحيث ضاعت أثناءها قضية فلسطين بسبب احتضان ودعم وهيمنة الأنظمة العربية على هذه أو تلك من المنظمات الفلسطينية – أي اصبح الموقف من القضية الفلسطينية ساحة للصراع العربي – العربي وتصفية الحسابات بين الجميع (أستاذنا الكبير الشاعر العظيم سعيد عقل يردد باستمرار وم زمان : ان القضية الفلسطينية كان يجب ان تبقى صراع فلسطيني ـ إسرائيلي ) .. إذن في الوقت الذي يفترض فيه تشكل موقف موحد تجاه القضية الفلسطينية من قبل أنظمة تتصف جميعها بالاسلاموية ( ولو نظرياً وشعاراتياً ) – تكبر الساحة وتدخل عناصر جديدة غير متوافقة وغير متآلفة فيصبح الصراع إسلاميا- .. يهودياً وليس صهيونياً .. إذ لا يجوز ان يكون هناك أي موقف موحد متكامل من القضية الفلسطينية حتى ولو كانت جميع الأنظمة العربية " رجعية " وتدور في الفلك الأمريكي بما في ذلك لبنان الذي تدريجياً يتحول إلى شبيه بأي دولة عربية " تقدمية " ( بحكمة التركيبة الاتنية والطائفية ) . – تلك كلها مقدمات المرحلة التالية من المخطط الصهيوني للمنطقة : تبرز الحاجة إلى " فلسطين ثانية " تشق الأمة العربية من جديد– فيحتل صدام حسين الكويت " الشقيقة " . مما يدفع بشكل أوتوماتيكي القضية الفلسطينية إلى الوراء في سلم أولويات السياسة الدولية بشكل عام والأمريكية بشكل خاص ، هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى تنشأ اصطفافات جديدة من منطلق الموقف من الحرب على العراق والحصار المفروض عليه مع كل المآسي الذي أصاب الشعب العراقي . إلى ان يبلغ اليأس بالشعب العراقي حداً يتمنى معه الخلاص من الأزمة ولو على يد الشيطان الأمريكي .. وهكذا تنضج الظروف والضرورات الأمريكية والصهيونية لبدء المرحلة التالية من خططهم للمنطقة فتحشد القوات الأمريكية والبريطانية في الخليج ودول أخرى في المنطقة حتى قبل استصدار القرار 1441 المهين والمذل .. ودون ان يوقف ذلك الحشود العسكرية ودون ان تتريث الإدارة الأمريكية إلى حين ينتهي المفتشون من عملهم .. فالحرب قرار متخذ سلفاً . ويسقط النظام العراقي في العراق بشكل دراماتيكي . ولم تنفعه كل الشعارات الجهادية . ولم تنفعه حسابات قصيرة النظر حول أهداف وأطماع أمريكا .
وهنا كان الملفت للنظر خطأ سياسي سوري جسيم : يبدو أنه تم خداعهم من قبل بعض أركان النظام العراقي حول إمكانية مقاومة طويلة الأمد ضد الغزو الانكلو ـ أمريكي . أو غرر بهم من قبل بعض التيارات الدينية التي تتبع مبدأ : معاهم معاهم ، عليهم عليهم ، مما حدا ببعض المسؤولين الإسلاميين الرسميين ( المفتي العام ) إلى إصدار فتوى بضرورة الجهاد في العراق ـ وقد كان ذلك قراراً خاطئاً 100 % ويتناقض مع السياسة السورية الرسمية طيلة العقود المنصرمة ـ إذ كيف يُسمح للمؤسسة الرسمية الدينية باتخاذ قرار هو من صلاحيات القيادة السياسية العلمانية القومية ( والأمر تجاوز إصدار فتوى إلى تشجيع ما يسمى بالمجاهدين الإسلاميين للذهاب إلى العراق ) . علماً ان ذلك لم يتم بالتنسيق مع أية دولة شقيقة أو صديقة ، بما في ذلك إيران ـ الحليف الاستراتيجي لسوريا .. فالجميع كانوا يتمنون سقوط نظام صدام ، وقد قدموا كل ما يلزم لذلك .. حتى إيران كانت على " الحياد " نظرياً فقط ( وهذا هو الموقف السليم ).
هكذا إذن ، كان يفترض ( لو كان الأمر في بلد ديموقراطي مؤسساتي ) ان تؤدي الأخطاء الجسيمة للديبلوماسية السورية ـ خصوصاً بعد نشوء الحرب وبعد سقوط النظام العراقي ـ إلى " التضحية " ( مع احترامنا الشديد للوزير الشرع ) بالمسؤولين الذين تبنوا هذا الخطاب وتلك الديبلوماسية وتعيين أشخاص آخرين من اجل القيام بانعطاف حاد نحو ترميم الموقف ، والمباشرة إلى إعادة المياه إلى مجراها الطبيعي في العلاقات السورية ـ الأمريكية سواء عن طريق بعض الأصدقاء الأوروبيين ( كإسبانيا مثلا ، التي لها علاقات جيدة معنا ومع أمريكا ، وهي من دول التحالف ) أو بمساعدة دول شقيقة كمصر أو الأردن اللتين تحافظان على علاقة ممتازة مع الإدارة الأمريكية أو حتى بمساعدة شخصيات أمريكية كانت دائماً تتفهم الموقف السوري . أو باستخدام ورقة الأسرى الإسرائيليين لدى حزب الله ( والذي تقطف ثماره الآن ألمانيا .. وإيران ) . وذلك إلى جانب اللجوء للتهدئة في الخطاب السياسي تجاه أمريكا سواء عبر رسائل ديبلوماسية أو عبر وسائل الإعلام ، وما إلى غير ذلك .. كان يمكن ان يساعدنا هنا مبدأ بسيط : ما متت ـ ما شفت مين مات .. . لم نحسب جيداً أوراق قوتنا بشكل دقيق .. ولم نعرف نوايا ( ولم نفهم كما يبدو حتى الآن ) الإدارة الحالية للمحافظين الجدد الذين يلهثون في استغلال الوضع الدولي والأمريكي . مرة أخرى تظهر أهمية مراكز الدراسات .
لا أظن ان عدم طرد ممثلي حماس أو الجهاد الإسلامي يكفي لوحده من اجل إيقاف ضخ النفط العراقي إلى ميناء بانياس وتنامي الضغوط الأمريكية على سوريا لو لم ترتكب تلك الأخطاء ولو لم تستمر الحسابات الخاطئة ، بل حتى عملية حيفا نفسها ما كانت لتؤدي إلى العمل بسهولة من اجل تمرير قانون محاسبة سوريا ، أو اطمئنان شارون إلى عدم الاعتراض الأمريكي في حال اعتدائه على سوريا ، كما حصل .
ببساطة لقد أهدرنا فرصة طيبة ، كان يمكن أن تثمر تعاطي افضل للإدارة الأمريكية مع مصالحنا الإقليمية ( وهذا ما كان يحصل طيلة عقدي الثمانينات والتسعينات ) ، وذلك عندما قدمت سوريا دعماً هائلاً للولايات المتحدة الأمريكية في حربها على الإرهاب . كان يجب ان نحسن استثمار المواقف والتصريحات التي أدلى بها عدد من المسؤولين الأمريكيين بهذا الخصوص ، وبالتالي الصورة الحسنة التي وفرتها هذه المواقف في أوساط الرأي العام الأمريكي ..
باختصار ، يجب العمل على الفور من اجل إعادة عناصر البراغماتية والعقلانية إلى السياسة السورية والتي اتسمت بهما خلال العقود الماضية وبسببها نجحت سوريا ، بخلاف اغلب الدول من الوقوع في مطبات الحرب الباردة سابقاً ، ثم النظام العالمي الجديد . وذلك يتطلب بان لا يسمح للإسلام السياسي ، السوري أو غير السوري ، بان يقود السياسة والاستراتيجيا السورية ، وبحيث لا تبتلع الشعارات الاسلاموية والجهادية الخطاب السياسي والأهداف الفعلية للسياسة السورية .. إذ إن ذلك يذكرنا ، أو يعيدنا إلى زمن الخطاب القومي المتطرف دون ان يعيد لنا الحقوق والأرض المغتصبة .. وهنا لا يمكنني إلا ان استشهد بما قاله السيد حسن نصر الله قبل الحرب على العراق وفي معرض حديثه عن المخططات الأمريكية والإسرائيلية لمنطقة الشرق الأوسط ، قال بما معناه : إنهم يريدون تفتيت المنطقة و إقامة دويلات على أسس طائفية ومذهبية لكي يبرروا قيام دولة إسرائيل على أساس ديني توراتي ، أي أن يعطوا لها الشرعية الفعلية .
إذا كان هذا هو هدف الصهيونية ، فلماذا لا يحق لنا ان نسأل : ألم يكن أحرى أن تقوم جميع حركات المقاومة ـ لبنانية ، فلسطينية وعراقية ـ على أساس وطني ؟!. ألم يكن أجدى ان تنفتح الأنظمة التقدمية( سابقاً ) على مؤسسات المجتمع المدني بدلا من قمعها وإجهاضها لصالح اسلمة المجتمع برمته ، وأن تذهب الأنظمة الرجعية ( سابقاً أيضا ) نحو حداثة مجتمعية بدلاً من صرف مواردها على حروب دينية في أفغانستان و الشيشان لحساب المخططات الأمريكية و الصهيونية " بالوكالة " ؟ .
فلنقرأ التاريخ جيداً . ولنتعلم من دروس التاريخ القديم والحديث . ولنفكر بشكل جيد كما يفكر اليهود جيداً ( والكلام للسياسي والمثقف جداً السيد مهاتير محمد ) . خصوصاً وانه جرت منذ اواخر الثمانينات من القرن الماضي و لازالت تجري جهود حثيثة من قبل دوائر عالمية معينة من اجل استبدال العدو التاريخي للغرب وللحضارة الغربية ـ بحيث يحل الاسلام مكان الشيوعية التي أفَلَ نجمها مع انهيار النظم الاشتراكية التي كانت قائمة في اوروبا الشرقية .. فظهرت الى الوجود نظرية صراع الحضارات .. واعتبر الاسلام هو العدو الرئيسي للغرب الرأسمالي و للحضارة الغربية .. ولذلك تم دعم جميع التيارات الاصولية والحركات الجهادية السلفية في وقت ما .. بدءأ بالقاعدة والطالبان في افغانيستان ، ومروراً بمختلف الحركات والتنظيمات التي لم تتمكن من تقديم نفسها كحركات تحرر وطني بقدر ما برزت كقوى استئصالية في مختلف الاقطار العربية والاسلامية .. وهذا موضوع آخر يحتاج الى درساة مستقلة .