. مدخلات: ستون سنة من التطور
يمتلك النظام التعليمي في العراق تاريخا ممتازا وناصعا حتي بداية الثمانينيات برغم كل التناقضات السياسية والتشوهات الفكرية علي مر العهود السياسية بدءا بتأسيس الملكية العام 1921 وانتهاء بتولي صدام حسين حكم العراق 1979. وعندما اقول بقوة ذلك النظام ليس معناه هو الافضل في العالم، بقدر ما كان هو المتميز في الدول العربية والاسلامية، فلقد نسب للعراق علي امتداد تراكم سنوات حياته المعاصرة: بناء مؤسسي من افضل واقوي النظم التربوية والتعليمية الموجودة في منطقة الشرق الاوسط عندما وصل الي قمة عطائه في العام 1975 نتيجة تطور جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية وفاز العراق بجائزة اليونسكو العالمية التابعة للامم المتحدة في العام 1982. وسعت مختلف الحكومات العراقية علي امتداد تاريخ العراق المعاصر من اجل محو الامية في العراق وخصوصا بين النسوة العراقيات، فكان لهذا الجانب تأثيره الاعلي علي وجه الاطلاق في كل دول العالم الاسلامي.
مناهج قوية في التعليم العراقي
وبقدر ما كانت المناهج التربوية الاولي قوية ومؤثرة، فلقد كانت مناهج التعليم الدنيا والعليا معلمنة الي حد كبير مع تلازم الدروس الدينية في كل المدارس المدنية الابتدائية والاعدادية والثانوية. ولقد ارسيت في الجامعات العراقية علي امتداد خمسين سنة ومنذ تأسيس جامعة بغداد عدة مناهج قوية كانت قد تشكّلت علي امتداد زمان اطول بتأثير تأسيس كليات عراقية عريقة قبل خمسين سنة علي تأسيس الجامعة، فلقد كانت كلية الحقوق العراقية قد تأسست في العام 1908 ثم لحقت بها كليات الطب والهندسة ودار المعلمين العالية والتجارة والملكة عالية للبنات.. ناهيكم عن دور العراقيين الاوائل في تأسيس جامعة دينية اسمها جامعة آل البيت ببغداد لتدريس العلوم الاسلامية بمختلف المذاهب السنية والجعفرية، ولكنها اخفقت بعد 3 ــ 4 سنوات من تأسيسها علي عهد الملك فيصل الاول بتأثير التباينات السياسية والنزاعات الفكرية العربية والعراقية لكل من ساطع الحصري وفهمي المدرس!
ولا يمكننا ان نغفل ابدا تأثير المناهج البريطانية في العشرينيات وخصوصا تلك التي اسسها الانكليز ابان عهد الانتداب، ومن ثم تأثير الافكار الالمانية التي خلقها وجود ساطع الحصري علي رأس اهم مؤسسة اجتماعية عراقية لتكوين الاجيال واختلافات هذا الحصري مع رجالات العراق التربويين وخصوصا الدكتور فاضل الجمالي الذي كان قد وصل لّتوه من الولايات المتحدة الامريكية وكان يطمح رفقة زوجته مسز ساره باول جمالي لتأسيس مناهج عراقية مشبّعة بالمؤثرات الامريكية المتطورة (كما كانت قد حكت لي ذلك عندما كنت التقي الاستاذ الجمالي (رحمه الله) واياها ببيتهما بالمنزه في العاصمة التونسية ابان الثمانينيات). وكان العراق مشبعا جدا بتأثير المناهج الكلاسيكية والتقليدية التي تتبعها المدارس القديمة فيه، ومنها: الحوزة العلمية في النجف الاشرف بكل عراقتها ومركزيتها في العالم الاسلامي والتي نجح الامام آية الله محسن الطباطبائي الحكيم من تطوير الاليات والمناهج المعتمدة فيها في منتصف القرن العشرين.. يضاف اليها مناهج المدارس العثمانية القديمة التي تأسست ابان القرن التاسع عشر ومن ابرزها: الكلية العسكرية التي تخرج فيها معظم الضباط القدامي الذين اكملوا دراساتهم في مدارس اسطنبول العليا بحيث وجدنا ان اغلب الضباط العرب كانوا من العراقيين فقط عند مطلع القرن العشرين. لعل من اهم رجالات التربية العراقيين ايضا الذين ارسوا مناهج قوية جدا هو الدكتور متي عقراوي الذي نصّب اول رئيس لجامعة بغداد ويعد من خيرة التربويين في العالم ابان منتصف القرن العشرين. ولا يفوتني ان اذكر كما يذكر كل اقراني الذين تربوا في مدارس العراق ابان الخمسينيات والستينيات بأن مجلس الاعمار العراقي علي العهد الملكي كان قد اقّر مشروعا استراتيجيا في " التغذية المدرسية " الذي طّبق تطبيقا رائعا في المدارس الحكومية والخاصة اذ كانت تقدم لنا في الابتدائيات وعلي حساب الدولة: افضل الوجبات مع فيتامينات من اقراص زيت السمك والحليب المستورد لنا خصيصا من هولندا.. وبقي هذا النظام الغذائي مستمرا في كل ارجاء العراق علي عهد الزعيم عبد الكريم قاسم ولم يختف الا بعد عام 1963 ــ مع الاسف الشديد ــ.
تأثير الافكار المؤدلجة الخاطئة في تربية العراقيين وتعليمهم
مع اعترافنا بفضله وجهده في قراءته الخلدونية، الا ان ثمة اخطاء لم يعترف بها الدارسون كتلك التي ارتكبها ساطع بحق التربية والتعليم في العراق لا بسبب علمنته التي كان العراق بأمس الحاجة لها، وانما بسبب تكريسه النزعة القومية القوية في مجتمع تعددي ومتنوع جدا كالمجتمع العراقي.. ولقد برز اثرها لاحقا علي حساب النزعة الوطنية التي كان العراقيون بأمس الحاجة اليها عند مرحلة التأسيس! وعليه، فلقد كانت نتائج الافتراق بين النزعتين في العراق مثيرة للانزعاج في البداية ابان الحكم الملكي، ثم غدت مثيرة للشفقة ايام المد القومي العربي في المرحلة الناصرية.. واخيرا مثيرة للقرف في مرحلة البعثيين وخصوصا علي عهد صدام حسين.. اذ غدت الايديولوجية البعثية صاحبة اسوأ اساليب فاشية عندما انتقد بداياتها ساطع الحصري نفسه نقدا مريرا في كتابه: (الاقليمية) اواخر عمره! واعتقد ان ما زرعه الاوائل اثمرت اكلهم في العقود الثلاثة الاخيرة من سنين القرن العشرين.
لقد اثمرت السياسات التربوية التي تأسست في العراق علي اسس قومية بولادة شوفينيات قسرية ليس في داخل العراق وحسب، بل ستمتد الي خارجه ضمن سبل ووسائل تصل الي اشعال حروب باسم (العروبة) ضد (المجوسية) مثلا! حدث اول شرخ تربوي في العراق ابان العشرينيات اثر صدور كتاب (تاريخ الدولة الاموية في بلاد الشام) للمدرس اللبناني انيس زكريا النصولي، فاحدث انقساما شديدا بين الطلبة العراقيين وقاد الي مظاهرات فصل علي اثرها الاستاذ النصولي وعاد الي لبنان لأنه لم يكن يدرك وزن التنوعات الطائفية والتعددية العرقية في المجتمع العراقي. ولقد كانت الافكار الشوفينية المؤدلجة قد بدأت تؤتي اكلها عندما بشّر احد العراقيين المتعصبين واسمه سامي شوكت بالذي اسماه (صناعة الموت) في كتاب اصدره ببغداد ابان الثلاثينيات وهو يعلن من دون اي خجل بالشوفينية العربية علما بأن سامي شوكت من اصل تركي! وكان ذلك بتأثير صعود كل من النازيست في المانيا والفاشيست في ايطاليا. ثم جاءت الموجة الاخري ابان الاربعينيات بتأثير حركة 1941 وعشرات المدرسين الفلسطينيين، ومن اشهرهم: درويش المقدادي واحتدمت بدايات الصراع السياسي بين القوميين والوطنيين حتى لما بعد الحرب العالمية الثانية .
وفي الخمسينيات، هّبت موجة شوفينية اتخذت لها ابعادا سياسية خطيرة ضد ما يسّمي بـ(الشعوبية) واعتبار كل منتقد للعرب والفكرة القومية شعوبيا اعجميا مهما كان يقّدس وطنيته، بل ووصل المد في عقد الستينيات ان يوصم كل من يعشق العراق بالشعوبية وبقي تأثيرها مرعبا، وراح ضحيته ركامات من البشر وصولا الي الحرب العراقية ــ الايرانية اذ وصلت الموجة الشوفينية اقصي درجات اسفافها بتربية الاجيال عليها 1968 ـــ 2003 بحيث غدت تدّرس في كل اروقة المدارس والجامعات تقارير المؤتمرات الحزبية الغارقة في شوفينتيها وخصوصا تقرير المؤتمر القطري السابع وكمقرر عام واجباري تدريسه ودراسته لكل العراقيين في المدارس والجامعات، وزاد ذلك كله غطرسة علي عهد صدام حسين.
تدهور النظام التربوي والتعليمي
تدهور ذلك النظام علي عهد صدام حسين تدهورا مريعا مع مسلسل الحروب الهمجية التي اقحم العراق بها، وفرض التربويات والاعلاميات عليهم فرضا باسم سلطة قاهرة وتكريس افكار وشعارات (الرئيس القائد) في كل المناهج، بل واحتفال كل العراق بعيد ميلاده (الميمون) والرقص في الشوارع! ناهيكم عن تغلغل الاجهزة الامنية والحزبية في كل المرافق التربوية والتعليمية باعتبارها اهم مرفق يساهم في تكوين الانسان وبلورة اتجاهاته.. لقد اساء النظام السابق في تربية جيل كامل وخصوصا عندما تضمنت المناهج المدرسية ايام الحرب ضد ايران اسوأ ما يمكن غرسه في نفوس الناشئة وزرع الاحقاد بشكل لا يعقل.. وكان الاخ الدكتور طلال عتريسي جريئا عندما كتب دراسة ميدانية حول هذا الموضوع وشارك بها معنا في ندوة العلاقات العربية الايرانية التي انعقدت بالدوحة في العام 1995. ولعل آخر ما حصده هذا الميدان: تأثير العقوبات الدولية المرهقة عليه في تعزيز قبضة النظام علي كل المرافق وجعل القطاع العسكري والقطاع الاعلامي اهم من كل القطاعات الاخري ومنها التربية والتعليم. وبقدر ما افرغ المحتوي التعليمي العراقي من مناهجه المعرفية وعناصره الممتازة.. تمّ حشوه بشعارات الحزب ونصوص من خطب الرئيس القائد وتأطيره بالعناصر المشوّهة والمتخلفة والبدائية التي لا تعرف شيئا ذي بال من الف ياء الثقافة العامة، فكيف بها والمعرفة التخصصية؟ لقد جرت تصفيات واسعة في قطاع التعليم العالي خصوصا من ابرز علمائه ورموزه التي اقالوها وهجروها او حجّموا ادوارها وشردوا بعضها الاخر.. ونصّبوا بدلها عناصر غير كفوءة ليس لها الا ولاءها لأحادية النظام. ومن المحرمات ان يكون المسؤولون والاداريون والرؤساء والعمداء من غير الرفاق القياديين السلطويين. لقد اجهضوا بمثل ممارساتهم هذه كل التقاليد والمناهج العراقية ليخلقوا بدائل مشوهة من التقاليد الاحادية الحزبية والشوفينية وخصوصا علي عهد المخلوع صدام حسين.
وأخيرا: كم كان الثمن غاليا؟
تدمرت كل الاسس القديمة وان اقسي ما دمّر الاف المدارس والابنية والمكتبات والمختبرات والساحات واروقة الجامعات وقاعات الدراسة.. لم تعد تنفق حكومة العهد السابق علي هذه المرافق الحيوية ابدا الا رواتب هزيلة لمن يعمل بها.. وغدت تلك المعالم بدائية ومشوهة، ولم يستطع المجتمع ان ينفق عليها من عنده بسبب انسحاقاته تحت وطأة الاوضاع المعيشية الصعبة التي عاني منها الجميع باستثناء السلطويين، فلقد كانت رواتب القيادات البعثية في المدارس والجامعات اضعاف مضاعفة لما يتسلمه الاخرون مهما كان تصنيفهم في الوظائف! فكيف يمكن لمثل تلك المرافق ان تحيا وتتطور بكل تلك المثالب والاخطاء والجنايات. ان فجيعة التربية والتعليم في العراق قد دمرتها التسربات فالاساتذة يهربون والمستقلون يحاربون والاحرار يلاحقون والكهول يتقاعدون والاطفال يهربون ليصبحوا اولاد شوارع وعمال نفايات وباعة سيكاير علي قارعة الطريق.. فهل هناك اكثر جناية علي اجيال بحالها مما كان قد حصل؟ ولم يستطع احد ان ينتقد الاوضاع حتي لو كان بعثيا! فما هو المطلوب من مشروعات اصلاحية جذرية لهذا الدمار؟ هذا ما ساعالجه في مقال آخر بعون الله.. متمنيا علي جميع الاخوة والزملاء تقديم اقتراحات عملية في التغيير والتطوير.