ربما أثارت وتثير مقاربة المفكر الماركسي الايطالي المعروف، أنطونيو غرامشــي (1891- 1937) لعلاقة البنية التحتية أو "البنية" (هكذا مجردة حسب تعبير غرامشي ) بالبنى الفوقية، خاصة البنية الفوقية السياسية، أي الدولة، إشكالية يبدو أنها تتجدد كل حين نظراً لوجود بعض الصياغات والعبارات الملتبسة في أدبيات غرامشي التي تؤدي الى نتائج قد لا تكون محمودة العواقب من وجهة نظر العلم التاريخي/الاجتماعي .
بعض هذه الصياغات ما جاء في سياق معالجة غرامشي لحركة التجارة الحرة تاريخيا، وفي سياق رده على الليبرالية وادعاءاتها بخصوص الحياد الاقتصادي للدولة.
يكتب غرامشي في " الأمير الحديث" قضايا علم السياسة في الماركسية: "تستند حركة التجارة الحرة على خطأ نظري له أصل عملي غير صعب التحديد: تستند إلى تمييز منهجي الأصل بين المجتمع السياسي من جهة و المجتمع المدني من الجهة الأخرى، تمييز يتحول ويعرض على أنه تمييز عضوي. أي أن كل "مجتمع"من الاثنين مكتف بذاته ومتلاحم بفعل آليته الذاتية الخاصـــة و هذا أقرب الى التمييز النقابي - الاقتصادي . بهذا يؤكد على أن النشاط الاقتصادي يعود للمجتمع المدني، و بالتالي فإنه على الدولة عدم التدخل في تنظيمه. إلا أنه في الحقيقة يتماثل المجتمع المدني و الدولة، ولذا من الضروري التسليم بأنه حتى الليبرالية با لمعنى الكلاسيكي للكلمة تشكل نوعا من" تنظيم " لنوع ما من الدولة، تنظيم ابتدأ به و حوفظ عليه للتشريع و الإكراه. إنها عملية إرادية واعية لأهدافها، لا تعبير تلقائي آلي لحقيقة اقتصادية. بالتالي إن الليبرالية برنامج سياسي مقدر له بقدر ما يتحقق أن يغير كوادر الدولة الأساسية وبرنامجها الاقتصادي" انتهى
بكلمة أخرى يغير البرنامج السياسي الليبرالي توزيع الدخل القومي، أو يعيد توجيه العملية الاقتصادية/الاجتماعية لصالح الرأسماليين .
تثير بعض عبارات هذا النص لغرامشي إشكالية، ويمكن للبعض من الخصوم الاجتماعيين أو من "سيئي النية " من ذوي المصالح أن يستثمروا هذا النص بشكل رجعي بدلا من استخدامه بدلالة محاربته للنزعة الاقتصادية و الميكانيكية في تفسير السياسة أو المستوى السياسي و الأيديولوجي و في محاولته محاربة النزعة الاقتصادية في بعض تيارات الماركسية. هذه النزعة التي تماثل بين العامل الاقتصادي و بين البرنامج الاقتصادي للطبقة الاجتماعية. مع العلم أن هذه الطبقات تأخذ و تستمد قوتها من موقعها في تقسيم العمل الاجتماعي ومن شكل توزيع الثروة القومية المشروط أصلا بشكل تقسيم العمل وبشكل الملكية الخاصة المهيمن .
لقد أعطت بعض عبارات غرامشي، في سياق هجومه على النزعة الاقتصادية في الماركسية السائدة، من مثل: "تماثل المجتمع المدني و الدولة "، أعطت الفرصة لمفكرين ليبراليين جدد كي يراجعوا المادية التاريخية بشكل مبتذل و يقترحوا بدائل "حديثة " في فهم التاريخ البشري. مثال ذلك ما جاء في رسالة صحفية لـ " عزت القمحاوي " من القاهرة نشرها " ملحق الثورة الثقافي " في عدده /181/ تاريخ 26/9/1999 تحت عنوان: " نظرة جديدة في تاريخ العالم الحديث؛ سـقوط نظرية المركز و الأطـــراف "(2) وهي مقالة لمناسبة " المشروع القومي للترجمة الذي ابتدعه المثقف الكبير جابر عصفور " ، حسب القمحاوي، وفي ســــياق الحديث عن الكتب المترجمة ضمن خطة "المشروع" (هذه المؤسسة الثقافية المصرية)، تم ذكر كتاب "ما بعد المركزية الأوربية " للكاتب الأمريكي "بيتر غران". وبعد أن يشيد القمحاوي بمشروع الترجمة المصري الذي يشرف عليه الكاتب المصري المعروف جابر عصفور - وهذه إشادة في محلها - نراه (القمحاوي ) يكيل المدائح لـ بيتر غران و كتابه الســـالف الذكر. يقول القمحاوي في تقريظ الكتاب و المؤلف: " يستند بيترغران في كتابه الجديد بشكل غير مباشر على نظرية المفكر الماركسي الايطالي أنطونيو غرامشي " 1891- 1937 " الذي أهتم بالعلاقة بين القاعدة و البنى الفوقية، كما يستفيد من طروحات المفكر الفرنسي الشهير ميشيل فوكو حول جدلية توزيع القوة في المجتمع وقراءة المسكوت عنه في الخطاب في إطار حديثه عن التفكيك ".
على أساس من خلط البنيتين (التحتية والفوقية ) خلطًا ملتبسًا و تعويم المستوى الاقتصادي في البنية التحتية عبر تحويله من مستو محدد للبنية الاجتماعية الى مجرد عنصر ( عامل ) اقتصادي من عوامل كثيرة للبنية الاجتماعية ليس له أي امتياز على العوامل الأخرى، وبعد الاستفادة الانتهازية من عبارة غرامشي التـي فحواها "تماثل المجتمع المدني والدولة "، ومن عبارة غرامشي الأخرى "البنية" بدلا من البنية التحتية أو البنية الاجتماعية / الاقتصادية، وما يعنيه هذا من أن ملكية طبقة أو فئة ليست هي ملكية أفكار أو ملكية ملكوت الله، بل هي ملكية اقتصادية لجزء من الثروة القومية بالدرجة الأولى. وعلى أساس آراء فوكو، و"خفة" تحليله للبنية الاجتماعية الاقتصادية؛ فوكو الذي يعتبر البنية التحتية (الاجتماعية الاقتصادية ) عبارة عن عناصر مبعثرة تطير في فضاء مفترض ليس لعنصر امتياز على آخر. أي ليس هناك ثقيل ولا خفيف، بل عناصر "قوة" من دون كتلة موزعة في هذا الحيز "الفضاء" الاجتماعي. على هذه الأسس مجتمعة ُيعوّم المستوى الاقتصادي في فضاء فوكو المفترض؛ المستوى الاقتصادي الذي يعطي الكيان الاجتماعي "ثقله" ومحتواه، وهكذا يكون فوكو قد فكّك المجتمع المدني الى دائرتيه المتلازمتين: دائرة الاجتماعي من ناحية ودائرة الاقتصادي من الناحية الأخرى، وذلك عبر تحرير الاجتماعي من "وزْره " الاقتصادي الثقيل. وهكذا يتحلل فوكو من مسؤليته الاجتماعية والأيديولوجية تجاه فئة أو طبقة بتحليله "المحايد" تجاه الملكية الخاصة البرجوازية؛ ملكية الثروة القومية وشكل توزيعها، وهكذا يعالـــج مراكز القوى " الفضائية " بشكل اعتباطــي ( اختياري ) أو تهكّمي. "فالثقيل" و "الخفيف" لهما عنده نفس الوزن ولو كان بنفس الحجم . وفوكو ينفر من" الكتلة " وينجذب الى " الطاقة " ينفر من الكم وينهمك بالكيف++!
وعلى هذه الأسس من غرامشي وميشيل فوكو تأتي نظرة بيترغران الجديدة للتاريخ ومراجعته للمنهج المادي - التاريخي، حيث يتوصل إلى تصنيف عجيب للمجتمعات والأمم حسب تشابهات سطحية لبناها الفوقية السياسية وعلى أساس تماثل المجتمع المدني والدولة ". حيث توضع " إيطاليا والهند والمكسيك" في سلة واحدة و "روسيا وإيران والعراق والصين الخ…" في سلة أخرى، و هكذا …
هذا التصنيف الذي يقوم على تشابهات سطحية تافهة في البنية الفوقية السياسية مضلل الى أقصى حد لأنه يتغاضى عن، و يتجاوز تحليل البنية الاجتماعية - الاقتصادية ( البنية التحتية ) لكل أمة من هذه الأمم، أي أنه يفسر الجوهري عن طريق التشابهات التافهة في المظهر . كما أنه يتجاهل الفرق بين البنية التحتية ( الأساس ) وبين البنية الفوقية التي ليست سوى مظهر لهذا الأساس وان كان فاعلاً كممارسة منظمة لطبقة مسيطرة. و اذا تأملنا نتائج هذه النظرة الإديولوجيــــة ( بالمعنى السيء للكلمة ) والمغرضة، لرأينا أن القصد هو التغطية على التقسيم الجائر للعمل على المستويين "القومي" و"الدولي" وعلى التوزيع الجائر للثروة على المستويين "القومي" والدولي أيضا. فالولايات المتحدة الأمريكية التي يشكل سكانها 6 % من سكان الأرض تستحوذ على 33% من ثروة العالم المادية. أضف الى ذلك التفاوت في ملكية الثروة الاقتصادية داخل الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها. إن هذه التغطية على هذا التفاوت المريع في ملكية الثروة الاقتصادية يؤدي بشكل آلي إلى تخطئة نظرية المركز والأطراف في التشكيلة الرأسمالية العالمية .
يقول القمحاوي: " إن كتابه الجديد ( كتاب غران ) يقدم رؤية جديدة لتاريخ العالم تناقض فكرة المؤرخين الغربيين حول "المركزية الغربية " التي تقسم العالم الى مركز أوربي متقدم والآخرين، أو بلغة المفكر المصري سمير أمين الذي يستشهد به غــــران كي يدفنه ، إلى المركز والأطراف الرأسمالية ". ( 4 )
على أي تصنيف، وحتى يأخذ معناه العلمي التاريخي/ الاجتماعي، أن يجري تحليلاً للبنية التحتية؛ الاجتماعية - الاقتصادية لأمة من الأمم ، مسبوقاً كمدخل، بتحليل البنية الفوقية الإديولوجية والسياسية. ثم يدرس علاقات هذه البنى الفوقية مع البنية التحتية وتداخلاتهما المتنوعة حسب الشرط التاريخي العيني، وهذا ما يؤكد عليه غرامشي نفسه، غرامشي الذي اعتمده بيترغران " بشكل غير مباشر ". يكتب غرامشي في " الأمير الحديث " وعذراً لطول الاستشهاد: "ينبغي التمييز بين مستويات ومراحل مختلفة في "علاقات القوى"، وهذه هي أساسا كالتالي: علاقة للقوى الاجتماعية مرتبطة ارتباطا محكما بالبنية، موضوعية وخارجة عن نطاق الإرادة الإنسانية وقابلة لأن تقاس بدقة العلوم الطبيعية، بناء على مستوى تطور قوى الإنتاج المادية، هناك طبقات اجتماعية تمثل كل منها وظيفة ولها مركز في الإنتاج نفسه. هذه العلاقة هي ما هي الواقع العنيد. وهي الأرضية العلمية للإديولوجيات.
مرحلة تلي الأولى هي علاقة القوى السياسية، أي تقدير مقدار التجانس والوعي والتنظيم الذي توصلت إليه الفئات الاجتماعية المختلفة. وبالإمكان تحليل هذه المرحلة وتمييز مستويات مختلفة منها على أساس الدرجات المختلفة من الوعي الجمعي كما ظهرت في التاريخ حتى الآن. المستوى الأول الابتدائي هو المسـتوى الاقتصادي- النقابي؛ وعي بالمصلحة الاقتصادية المباشرة، مع بعض التعاون بين أصحاب المهنة الواحدة، أو العمل الواحد المتماثل.
المستوى الثاني: من مستويات البنية السياسية الفوقية هو الذي يكون قد وصل فيه جميع أفراد الفئة الى وعي بالتعاضد المصلحي المحصور في المجال الاقتصادي البحت. في هذه المرحلة تطرح قضية الدولة، ولكن على أساس التوصل الى المساواة السياسية، القانونية مع الفئة الحاكمة فقط . وذلك ضمن الحق المعلن بالمشاركة بالتشريع والإدارة، وحتى بتعديلهما ضمن أسس الإطار الموجود، أي مطالبة الفئة(الطبقة) الهامشية المتزايدة القوة بتحسين شروطها ودورها على الصعيد القومي.
مرحلة ثالثة: حيث يعي المرء بأن مصالحه النقابية في تطورها الحاضر والمستقبلي تتخطى الإطار النقابي للفئة المحض اقتصادية، وأن بإمكانها وينبغي عليها أن تصبح مصالح فئات هامشية أخرى. تلك هي المرحلة السياسية فعلاً. وفيها نرى انتقالا واضحا من البنيــــة [ التحتية ] إلى صعيد البنى الفوقية المعقّدة، وهي المرحلة التــي تصبح فيها الإديولوجيات، التي نمت بذرتها مسبقا، "حزباً "، ثم تتعارض مـــع بعضها البعض وتتصارع حتى تصبح واحدة منها ميالة لأن تسيطر ولأن تفرض نفسها خالقة بذلك هيمنة فئة اجتماعية أساسية على عدد من الفئات الهامشية.
تمتزج هذه المستويات [للبنية الفوقية] في الواقع التاريخي تمازجا تبادليا، أفقيا وعموديا. يلاحظ هنا أن غرامشي يصنف كل أشكال الوعي ضمن البنية الفوقية [الوعي النقابي والوعي السياسي].
(3)المرحلة الثالثة [ المستوى الثالث] هي مرحلة علاقات القوى العسكرية، الشيء الذي برهن مراراً وتكراراً عن كونه "جوهرياً " تشكل البنية الفوقية السياسية وسيطا بين البنية التحتية والبنية العسكرية، إذا صح هذا القول، كما أن غرامشي يميز مستويين في البنية العسكرية: " المستوى العسكري بمعنـــاه التقني- العسكري البحت. والمستوى الذي يمكن تسميته سياسياً - عسكرياً "(5 )
إن استخدام غرامشي لعبارات من نحو: "الاجتماعي" من دون الاقتصادي و"البنية" هكذا بشكل مجرد عن صفتها التحتية الأساسية و"علاقات القوى" بدلاً من الطبقات الاجتماعية يخلق إلتباسات على أرضية تخفف هذه العبارات من وزنها الاقتصادي (الملكية الخاصة وشكل توزيع الثروة ) وقد يؤدي هذا إلى "طفو" أو "طيران" البنية الاجتماعيــة المتحللة من ثقلها الاقتصادي ، وتؤدي في التحليل الأخير الى نتائج ضارة ومؤدلجة بالمعنى الفاسد للكلمة. كذلك تفعل عبارة "تماثل المجتمع المدني والدولة" .
يقول غرامشي: " الدولة بعناها الموسع هي الاتحاد الجدلي للمجتمع المدني والمجتمع السياسي، للهيمنة والإكراه [أي أن الدولة سلطة من جهة وأجهزة من الجهة الأخرى. وهذه الأخيرة تقسم إلى أجهزة إكراه وأجهزة هيمنة. وأجهزة الهيمنة هذه هي المؤسسات المدنية للدولة أو المجتمع المدني حسب غرامشي]" ( 6 ) لكن، أليست العلاقة الجدلية بين البنية التحتية والبنى الفوقية هي علاقة تناقض ضمن الوحدة، أو ما يدعوه لينين بـــ " ازدواج ماهو واحد ومعر فة جزئية المتناقضين " وهو جوهر الديالكتيك. ويضيف لينين: " إن تماثل الأضداد ( قد تكون وحدتها أصح) ، رغم أن التمييز بين كلمتي تماثل ووحدة ليست ذات أهمية في هذا المجال [ لكنه مهم جدا في مجال بحثنا هذا ] وهو إقرار ( أو اكتشاف ) بميول متناقضة، متضادة، ينفي بعضها بعضا في جميع ظاهرات الطبيعة وتفاعلاتها ( وفي عدادها تدخل أيضا ظاهرات الروح والمجتمع وتفاعلاتهما ) ولأجل إدراك جميع تفاعلات العالم من حيث "حركتها الذاتية"، و من حيث تطورها العفوي، من حيث واقعها الحي، ينبغي إدراكها من حيث هي وحدة من الأضــداد. إن التطور هو "نضال " الأضداد . (7 )
فالاتحاد الجدلي ( وحدة أو تماثل النقيضين ) يعني فيما يعنيه ازدواج الموجود الاجتماعي للبشر إلى بنيتين تحتية ( البنية الاجتماعية الاقتصادية ) وبنى فوقية من الجهة الثانية. ويعني أيضا أن البنى الفوقية، كتنظيم سياسي لسيطرة الطبقة وهيمنتها، تمارس تأثيرًا متعدد الجوانب على البنية التحتية ذا أشكال تاريخية يمكن تحديدها ودراستها. فعلى سبيل المثال: " بدأ تدخل الدولة البرجوازية في العملية الاقتصادية بشكل سافر ومباشر إعتبارًا من أزمة 1873- 1886 في الولايات المتحدة الأمريكية على أثر أزمة الزراعة وأزمة الكساد وقتها. يقول هاري ماكدوف في كتابه " عصر الأمبريالية " مستشهدا هو نفسه باقتباس من كتاب " التحول الكبير " لـ " كارل بولاني : " إن الأزمة الزراعية والكساد الكبير الذين حدثا في 1873- 1886 هزّا الثقة في مبدأ أن الاقتصاد يستطيع أن ينعش ذاته [هزّا الليبرالية الاقتصادية] ومنذ ذلك الوقت لم يعد في الامكان قيام المؤسسات النموذجية لاقتصاد السوق إلا إذا كانت مصحوبة بـ إجراءات حامية [حماية الدولة للأعمال الاقتصادية ] وبخاصة أنه منذ أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات [ من القرن التاسع عشر ] أخذت الدول تؤلف في ذاتها وحدات منظمة] لأعمالها الاقتصادية التي] قد تتعرض لأخطار جسيمة بسبب ما ينطوي عليه أي تكيف فجائي لحاجات التجارة والتبـــادل الخارجيين من قلقلة"(8) .
والجدلي يعني الصراع ضمن الوحدة (التماثل) ويعني ضرورة تمييز الثقيل من الخفيف، تمييز البنية الاجتماعية- الاقتصادية عن البنية السياسية والإديولوجية ( الدولة و الأحزاب السياسية ) الدولة التي يمكن مقاربتها بالشكل الذي أنجزه غرامشي لما لذلك من فائدة علمية، خاصة وأن غرامشي يقارب مفهوم الدولة على أرضية تجربة الحكم الفاشي في ايطاليا اعتبارًا من عام 1923 ( سيطرة الفاشية الايطالية على السلطة بقيادة موسليني ). يقول غرامشي: " إن الفئة الحاكمة تنسق عينيا مصالحها والمصالح العينية للفئات الثانوية (الهامشية)، وتفهم حياة الدولة على أنها تشكُّل متواصل للتوازنات غير المستقرة، غير المستقرة ضمن حدود القانون، أي ضمن حدود سيطرة طبقة معينة وهيمنة مصالحها الاقتصادية والاجتماعية، وتغلُّب متواصل على هذه التوازنات، بين مصالح الفئة الأساسية ومصالح الفئات الثانوية، وهي توازنات تطغى فيها مصالح الفئة الحاكمة ولكن فقط إلــى حد معين [ حتى لا تنهار سلطتها بتأليب أكثرية طبقية ضدها ]، أي ليس الى المدى الذي تبغيه مصالحها الاقتصادية- النقابية " (9 )
فمثلا: المصلحة الاقتصادية - النقابية لصاحب معمل هو أن ينهب الفلاح أقصى ما يستطيع عبر رفع السعرعند شراء هذا الأخير (الفلاح ) منتوجه الصناعي . لكن حكومة تمثل المصالح الاقتصادية - النقابية المهنية لأرباب العمل الصناعيين ورغبة منـها ( الحكومة ) في تدعيم الموقع الاجتماعي - الاقتصادي المهيمن لمجال الطبقة المذكورة، وفي سبيل ايجاد نوع من التحالف مع الفلاحين تحاول ضبط أسعار المنتجات الصناعية قليلا لصالح الفلاحين ( أي تتنازل اقتصاديا - نقابيا الى حدا ما ) حتى تحافظ الحكومة على استمرارية الهيمنة الاجتماعية الاقتصادية للصناعيين كطبقة، وكي تبقي الفلاحين الى جانبها كطبقة ثانويــــة ( سند ) وحتى لا يتحالف الفلاحون مع الطبقة العاملة الخصم التاريخي لأرباب الصناعة والطبقة المستغلة من قبلهم ويقودا صراعًا ضد الطبقة المهيمنة والمسيطرة. ( هذا على ســـبيل المثل لا أكثر )
يكتب تروتسكي: " بعد سنتين من انطلاق الفاشية ( الأيطالية )، كانت في السلطة. واستطاعت ترسيخ نفسها بفضل واقع أن الفترة الأولى من ســـــيطرتها ( تزامنت ) مع فترة ازدهار اقتصادي أعقب ركود سنة 1921- 1922 لقد حطم الفاشيون البروليتاريا المتراجعة بالقوى الهجومية للبرجوازية الصغيرة " ( 15 )، بينما استفادت الحكومة الصينية الاشتراكية من هذه البرجوازية الصغيرة الريفية(الفلاحين) بشكل معاكس ولخدمة برنامجها البروليتاري .
مرة أخرى نعود الى عبارات غرامشي وما قد تخلقه، أحيانا، من التباسات قد تستفيد منها الليبرالية اللاديمقراطية. فمثلاً، وردت عند غرامشي عبارة " المصالح الاقتصادية المباشرة " في سياق حديث له عن الثورة الفرنسية وعن " المرتبة الثالثة " (البرجوازية وقتها ). يقول غرامشي: بخصوص أسباب انفجار الثورة الفرنسية 1789: " لم يختل التوازن للسبب الميكانيكي المباشر الذي هو افقار الفئة الاجتماعية ذات المصلحة في كسر التوازن، والتي كسرته فعلاً، وإ نما جاء هذا الاختلال ضمن إطار من الصراعات أعلى من العالم الاقتصادي المباشر(مصالح اقتصادية قائمة)، إطار مرتبط " بمكانة " الطبقــــات ( المصالح الاقتصادية المقبلة ) .. وبالسيادة وبالسـلطة. "( 11 ) بالتــالي فهـو ( علم السياسة ) ذو نظرة بعيدة ( لديه خطة أو برنامج ). والسياسة بهذا المعنى تطمح لبناء دولة من طراز جديد قائمة على سيطرة وهيمنة طبقية جديدة. لهذا فالتشيع يفتقر لهذه النظرة البعيدة ( البرنامج أو الخطة ). أي يفتقر للحظة المستقبل، لهذا فهو يعمل بشكل انتقائي لتكريس ما هو قائم وبدافع من مصالح ضيقة وجزئية وليست " قومية "، أي لا تعني مجمل الأمة. لهذا السبب تنكص السياســــــــة عند المتشيع الى ما يشبه" اقتصادية - نقابية " ضيقة.
إن الفئة الثالثة ( البرجوازية وقتها ) التي راحت تعي وتشعر بأن قوتها الاجتماعية - الاقتصادية لم تعد تتناسب مع دورها الثانوي، راحت تناضل في سبيل السيطرة السياسية والهيمنة الاجتماعية الاقتصادية، أي راحت تطالب بالقيادة الاجتماعية والسياسية بديلا عن فئة اجتماعية - اقتصادية بائدة لم تعد هيمنتها شرعية بحكم تطور القوى المنتجة التاريخي واختلال النسب الاجتماعية - الاقتصادية. هكذا يمكن مقاربة البنية الفوقية السياسية (الدولة) ومقاربة الحزب السياسي كمشروع دولة مستقبلي (مشروع دولة من طراز جديد)، أو حزب متشيع لدولة قائمة بالفعل . وهنا لابد من التفريق بين مفهوم السياسية و مفهوم التشيع . فـ "شيعة التقاليد" أو "الحزب" المدافع عن وضع سائد هو جماعة " متشيعة، أي منحازة بشكل انتقائي بعيداً عن العلم التاريخي/ الاجتماعي، وعن العلم السياسي وذلك في سبيل هدف معين وجزئي. هذه الانتقائية في الولاء في سبيل هدف معين وجزئي هو أساس لا علمية " التشيع " وأساس إديولوجيته الفاسدة . فالتشيع لا سياسي لأنه يشتمل على ضرب من ضروب التفضيل الشخصي، حسب غرامشي . أما العلم السياسي (أو علم السياسة) فهو الذي يأخذ القضايا بكليتها أي بلحظاتها الثلاث : الماضي، الحاضر، المستقبل .
أما الحزب السياسي بالمعنى التاريخي والعلمي فهو " وجود الاستمرارية" أكانت مع الماضي ( نقد التراث مع الاحتفاظ بما هو إيجابي فيه) أم مع المـــستقبل ( الهيمنة المقبلة ومشروع الدولة الجديدة ). على أساس ذلك، فكل حزب سياسي يشطب من برنامجه هذا الطموح المستقبلي لهيمنة طبقية جديدة ولدولة جديدة يكون قد حكم على ذاته بالتحول الى ضرب من ضروب الفئات المتشيعة لوضع قائم أو سائد . أما الحالة الثالثة بين السياسة والتشيع فهي الفردية التافهة الرثة التي ما هي إلا اشباع للنزوات الآنية. هذه الفردية هي حالة " أنا " منقطعة عن الماضي والمستقبل فما هي (الفردية) والـــــحالة هذه، - حسب غرامشي- إلا عنصر حيواني مثير لإعجاب الأجانب "[غريب] كغرابة سكان حديقة الحيوانات ". (12 )
هوامش
( 1 ) أنطونيو غرامشي " الأمير الحديث " - قضايا علم السياسة في الماركسية ترجمة زاهي شرفان و قيس الشامي - دار الطليعة- بيروت . ط 1 1970 ص 57 ـ 58
(2 ) ملحق الثورة الثقافي – العدد / 181/ 26 /9 /1999 . ص 7
( 3)ملحق الثورة الثقافي - عدد مذكور .
(4) ملحق الثورة الثقافي – عدد مذكور .
(5) غرامشي " الأمير الحديث " - مرجع مذكور ص 77-78-79-80
(6) لينين المختارات في 10 مجلدات ، المجلد 4 1908 – 1915 دار التقدم موسكو - ترجمة الياس شاهين . 1978، ص 467-468
(7) جان مارك بيوتي " فكر غرامشي السياسي " ترجمة جورج طرابشي . ط1، 1975، دار الطليعة بيروت . ص 207
(8) هاري ماكدوف " عصر الامبريالية " ترجمة عبد الكريم أحمد منشورات وزارة الثقافة – دمشق 1971 راجع هامش الصفحة 52
(9 ) غرامشي " الأمير الحديث " – مرجع مذكور . ص 79
( 10) تروتسكي – ماندل " نصوص حول الفاشية " ترجمة كميل داغر . دار الطليعة – بيروت – ط1، 1981 . ص 73 ، 11 غرامشي " الأمير الحديث " – مرجع مذكور . 82
(12 ) غرامشي " الأمير الحديث" – مرجع مذكور 43
& " إن المجتمع المدني يشمل على علاقات الأفراد المادية ضمن مرحلة معينة لتطور القوى الإنتاجية. إنه يشــتمل على مجمل الحياة التجارية و الصناعية لمرحلة معينة و بذلك يتعالى على الدولة و الأمة [ القومية ]، بالرغم من أنه يتوجب عليه من الجانب الأخر أيضا ، أن يؤكد نفسه في علاقته الخارجية بوصفه قومية [ أمة] ، و أن ينظم ذاته في الداخل بوصفه دولة."
هذا ما يقوله ماركس في الإديولوجية الألمانية . المجتمع المدني هنا بنية تحتية ، بينما يظهر عند غرامشي كجزء من البنية الفوقية [أجهزة الهيمنة في الدولة؛ الأجهزة الإديولوجية (الإعلام والتعليم- التربيـــة)، والاقتصادية للدولة البورجوازية الحديثة]
& " يتفق فوكو مع التأويليين على القول إن الممارسات " تحرر " بآن معا الموضوعات و الذوات . يكتب ماركس في الموضوعة الثالثة عن فيورباخ : ".. إن تطابق تبدل الظروف والنشاط الإنساني لا يمكن بحثه وفهمه فهماً عقلانياً إلا بوصفه عملاً ثورياً "
ويقرون [التأويليون] أيضا بأن لا علاقات السببية المــــادية أو الاجتماعيـة (العلاقات الأولية) [ الاقتصادية - الاجتماعية ] و لا علاقات السببية الذاتية أو القصدية [ السياسية ] ( العلاقات الثانية ) تسمح بأن نفهم كيف تحرر الممارسات الكيانات [كيف تحرر الممارسات الاجتماعية- السياسية البشر].
إن فوكو الذي يتبنى وجهة نظر الباحث الأركيولوجي [ الحفر المعرفي ] الخارجية ، يرفض هذا اللجوء إلى المعنى ( أي التفسير السببي- المادي )، وهو يؤكد أن الممارسات الخطابية [ الأيديولوجية ] إذا ما نظرنا إليها من زاوية الحياد الخارجي تفتح المجال العديم - المعنى لنظام من التحولات ، حيث تدرك الملفوظات [ التعابير ] و الذوات و الموضوعات و المفاهيم الخ .. كعناصر ذات معنى من قبل الذين يستخدمونها . " ميشل فوكو - مسيرة فلسفية ص 74. أي أن الخطاب الأيديولوجي -حسب فوكو - لا يملك أية قيمة موضوعية، و هو لا يعني إلا قائله أو المتلفظ به، و فوكو بهذا " الحياد الخارجي " المفتعل و المنحاز لوضع عالمي سائد و فاسد- يجعل الخطاب يدور حول ذاته كحمار ربط إلى شجرة يابسة، يدور حوله ثم يدور إلى مالا نهاية . وينسى أن الخطاب هو ملتقى صراعي للمصالح الاجتماعية المتعارضة.
راجع [ " ميشل فوكو – مسيرة فلسفية " تأليف أوبير دريفوس و بول رابنيوف . ترجمة جورج أبي صالح . مركز الإنماء القومي - من دون تاريخ .