|
المثقفون وفوبيا الحرية
سعد محمد رحيم
الحوار المتمدن-العدد: 2291 - 2008 / 5 / 24 - 09:06
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
فوبيا Fobia كلمة يونانية تعني ( الخوف من.. )، والاصطلاح العربي المقابل لها هو ( الرهاب ) والذي يُعرّف بأنه الخوف الشديد واللامنطقي والمستمر من أشياء وحالات ومواقف بعينها، مثل خوف بعض الناس من الأماكن العالية أو المزدحمة، أو الخوف من رؤية الدم أو الجثث أو البحر، الخ. ويقول علماء النفس أن واحداً ( هناك من يقول ثلاثة ) من كل عشرة أشخاص يعانون من مثل هذا الخوف، بهذه الدرجة أو تلك. ومن أعراضها الغثيان والتعرق والخفقان السريع في دقات القلب والارتعاش والتلعثم، الخ. وفي أثناء مراجعتي لقوائم أنواع الفوبيا على مواقع في الشبكة العنكبوتية لم أجد ذكراً لفوبيا الحرية، غير أن أقرب الأنواع إليها هي ( سينوفوبيا ) أي الخوف من كل جديد سواء كان هذا الجديد شيئاً أو فكرة. و ( تروبوفوبيا ) أي الخوف من عمليات التغيير والانتقال واتخاذ القرارات. وهناك ( ألودوسكافوبيا ) أي الخوف من إبداء الرأي. ومنشأ هذه الأنواع كلها مزيج من عوامل وراثية ونفسية واجتماعية وسياسية وتربوية. وفي مقاربتنا لـ ( فوبيا الحرية ) نقع لها على بعد بلاغي/ مجازي أيضاً. وفي الغالب فإن هذا الخوف المرضي يعكس فشلاً في التواصل الاجتماعي وإقامة العلاقات الاجتماعية من جهة، وضعفاً في الثقة بالذات وارتباكاً واضطراباً أمام تحولات الواقع من جهة ثانية. للوهلة الأولى، قد تبعث هذه الموضوعة، والتي توحي باحتمال إصابة بعض المثقفين بالخوف المفرط من الحرية، على الاستغراب. فإذا كان من المتعارف عليه أن تثير الأماكن المظلمة أو المقفلة، في سبيل المثال، مثل هذا الخوف عند بعضهم، فكيف، إذن، للحرية أن تفعل ذلك، ولاسيما عند المثقفين من رافعي شعارات تحرر الأوطان والبشر وحرية الرأي والتعبير والمعتقد والتملك والسفر، الخ؟. هل يعقل أن يخشى مثقف، وظيفته الإبداع الفني أو الأدبي أو الفكري، الحرية التي هي شرط إبداعه وأدائه لوظيفته بإتقان وفعالية؟. نحن قطعاً لا نتحدث عن أولئك الذين يعادون حرية البشر لأنها، كما يدركون، ستخنق برامجهم الظلامية ومعتقداتهم الفاسدة والعوجاء؛ ذلك النمط من الذين يكتبون بخط رديء على الحيطان؛ "الديمقراطية ليست من أخلاقنا". ولا تلك الفئات من عامة المجتمعات التي تبقى لمدة طويلة تحت قبضة الاستبداد حتى إذا تحررت يوماً ما أصيبت بالدوار لأنها لا تعرف ماذا تصنع بهذه الحرية. وبرز من بينها من راح يحن لزمن التعسف والاضطهاد والعبودية. بل الكلام هو عن المثقف، داعية الحرية والمتغني باسمها والحالم بها والمنظِّر لها؟. لماذا يُصاب شخص مثل هذا بالفوبيا، أي الخوف المرضي، من موضوعته الأثيرة "الحرية" إذا ما لاحت تباشير تحققها، أو تحققت فعلياً؟. رأى كانط أن الحرية مساوية للاستقلال الذاتي، حيث "يعد الإنسان حراً بالمعنى الأخلاقي إذا اعتمدت دوافعه على حكمه الخاص بما يعنيه الواجب الأخلاقي... وإن الذات الأخلاقية هي التي تصنع القانون لذاتها". واستناداً إلى هذه المقولات يوضِّح إرنست كاسيرر في كتابه (الدولة والأسطورة ) بأن "الحرية ليست ملكة موروثة عند الإنسان. وإذا أردنا التمتع بها علينا أن نخلقها. ولو تُرك الإنسان لاتباع غرائزه الطبيعية، فإنه لن يكافح من أجل الحرية، بل لعله يختار حينئذ التبعية". فالحرية عبء، والإنسان يهرب أحياناً من هذا العبء إلى التوحد في ضمن كتلة من الدهماء، أو بالانتماء إلى معسكر سياسي ذي إيديولوجية راديكالية شمولية ليتحرر "من كل شعور بالمسؤولية الشخصية". كثر من المثقفين العرب هم نتاج تلك الثقافة التي أشاعتها الإيديولوجيات الراديكالية الشعبوية التي عملت أولاً على انتزاع كل ميل نحو الفردية والاستقلالية عند المنضوين تحت راياتها، ومنهم المثقفون؛ هؤلاء الذين لم يستطيعوا أن يفكروا خارج حدود تأثيرات الإيديولوجيا وعلى مسافة من الجمهور المنفعل الذي شكلته تلك الإيديولوجيات كقطيع. واليوم بعد غروب شمس بعض الإيديولوجيات ( الراديكالية، القومية والشيوعية ) وتفكك الكتل الجماهيرية التقليدية وانكفائها باتجاه الهويات الضيقة، والمؤسسات ما قبل الدولة كالطائفية والعشائرية، وتحديداً في بلدان الجنوب ( العالم الثالث ) ومنها بلداننا العربية. يجد المثقف نفسه معزولاً فيخشى ذاته الفردية المتوحدة، وهذا ما يُشعره بالعجز. وهو إذ ينكر فرديته المخيفة يأبى أن يكون حراً أيضاً.. إنه لا يريد أن يكون حراً، لأن الحرية تعني وقوفه متفرداً وحيداً في مواجهة العالم. والميكانزم الأول للهرب من الحرية عند أريك فروم هو "الميل إلى التخلي عن استقلال النفس الفردية ودمج النفس في شخص آخر خارج النفس للحصول على القوة التي تنقص النفس الفردية". وهذا يفسر، إلى حد ما، لجوء أعداد من المثقفين اليساريين، القوميين والماركسيين، إلى الارتماء في أحضان الإسلام السياسي الراديكالي. إذن نحن نتحدث عن المثقف الذي قال بالحرية، لكنه بقي يخشاها، وحين ذهب مشروعه أدراج الرياح، غمره شعور بالخذلان، وعدَّ نفسه ضحية مخططات سرية موضوعة في مؤسسات عدوّة. بيد أنه اطمأن أخيراً، بالمعنى السيكولوجي، لوضعه الحالي مخذولاً وضحية. وأية بارقة أمل بالحرية لابد أن تصيبه بالهستيريا.. هذا النمط من المثقفين هم عقبة مضافة، ولعلها الأخطر، إلى جانب عقبات أخرى، أمام تحرر الإنسان والأوطان. يعلمنا ميشيل فوكو أن السلطة، ( وكان في ذهنه نموذجان لها؛ سلطة الكنيسة وسلطة الدولة الرأسمالية ) تبغي الجسد الطيع. وبطبيعة الحال فإن هذا الجسد الطيع الذي يجب أن يكون منتجاً أيضاً في ظل السلطة الرأسمالية لابد أن يمتثل عقلياً. فالسلطة، ها هنا، تهدف إلى تطويع العقل ضماناً لتطويع الجسد، فتبتكر وتستخدم جملة من الاستراتيجيات والتقنيات والآليات في هذا السبيل. وبمرور الوقت يفضي تطويع الجسد وإخضاع العقل إلى إضعاف حس المسؤولية عند من تُمارس عليهم عمليتي التطويع والإخضاع. وبطبيعة الحال فإن المسؤولية هي الوجه الآخر للحرية التي ستتحول في هذه الحالة إلى شبح مخيف يتحاشاه المرء. فلا شك أن كثراً من أولئك الذين يعيشون سنوات طويلة تحت وطأة الاستبداد والأنظمة الشمولية لا يكونون قد خبروا الحرية فضاءً ومذاقاً ومزاجاً وممارسة. فبعد أن يُسلبوا الإرادة وحرية الفكر والسلوك سيبلورون جملة من القناعات المسوِّغة التي تجعلهم متكيفين مع المناخ والوضع الذي وجدوا وعاشوا فيهما. وهذا يفسر، إلى حد بعيد، المقاومة التي تبديها شرائح اجتماعية، هي مقهورة تاريخياً ومضطهدة ضد احتمالات التغيير التي يمكن أن تقلب واقعها. ومنطقياً يُفترض أن يكون هؤلاء الأخيرين من الذين لم يحصلوا على فرص تعليم كافية ولم ينالوا حصتهم من الثقافة وبقي وعيهم قاصراً ومحدوداً. غير أن ثمة مثقفين يكونون قد تشبعوا أيضاً بمرارة الذل حتى باتوا شبه مدمنين عليها، وإن بقوا يتغنون بالحرية ويدعون إليها. تعمل السلطة الاستبدادية والشمولية على قتل البعد النقدي أو الملكة النقدية في عقول رعاياها. وتلجأ إلى آليات عديدة بهذا الخصوص. ومن ضمن هذه الآليات محو البعد النقدي أو تحريفه إلى اتجاه آخر بعيداً عنها، فتنشأ عندئذ مقومات ومسلمات العقل التسويغي ( التبريري )، وتوضع أسس نظرية المؤامرة، وتُطرح مسألة وجود الأعداء كضرورة، أي باختصار يتم خلق المثقف المدمج والممتثل. أما الذين يقاومون ويفلتون من كماشة الدمج والامتثال، ويظهرون في صورة المتمردين فيجري التعامل معهم بعدِّهم شواذاً يستحقون النبذ والإقصاء، كما لو أنهم يحملون جرثومة وباء فتاك تهدد سلامة المجتمع. وبقدر ما يخلق تاريخ السلطة الاستبدادية الممنوعات الخارجية فهو أيضاً، يساعد على إفراز الممتنعات الداخلية؛ أي جملة القيود والعوائق والإكراهات الذهنية التي تحول دون حرية الفكر، في إطار أداة التفكير ذاتها التي هي العقل. وهذه الممتنعات تتمثل بحسب علي حرب "بعادات الذهن وقوالب الفهم وأنظمة المعرفة وآليات الخطاب". ولذلك يبقى التحرر من ممنوعات السلطة الخارجية غير كاف لينتج المثقف ويبدع في حقله الفكري والإبداعي الخاص ما لم يتحرر من ممتنعاته التي تأصلت بالتراكم والتوارث، في بنيته العقلية، جيلاً بعد جيل. وإذ يصرخ المثقف بالحرية فإنه في الغالب يعني الجزء الأول منها، متناسياً ما هو أهم؛ تحرير عقله وذهنه مما يعيق عمل الفكر ويحدده ويؤطره. وقد يولد التحرر من العوائق الداخلية خوفاً وقلقاً أشد عند من صناعته الفكر والتفكير، لا لأنه سيجد نفسه مرغماً على بذل جهود باهظة وخلاقة لاحقاً فحسب، بل لأنه سيطل على مناطق جديدة من الفكر كان ممنوعاً من ارتياده في السابق. وسيرى هول الحقيقة بوجوهها وظلالها وإشكالياتها. ولكي يتحمل المرء الذي هو المثقف، هنا، هذا العبء يكون بحاجة إلى شجاعة نادرة لأن المفكر والمثقف إذ ذاك سيضطر لمواجهة قوى وشبكات سلطوية عديدة، اجتماعية وسياسية راسخة، وذات طبيعة احترافية، ولها تاريخها. والخوف من الحرية هو خوف، في حقيقة الأمر، من التصادم والصراع مع تلك القوى والشبكات. المعالجة الناجعة التي يقترحها علماء النفس للمصابين بأي نوع من أنواع الفوبيا تتلخص في مواجهة الشيء أو الحالة أو الموقف المتسبب للخوف مباشرة وبشكل متكرر وتدريجي حتى يوقنوا بأن لا خطر ولا أذى ينجم عن ذلك الشيء أو الحالة أو الموقف. فهل يمكننا القول أن المثقف الذي يعاني فوبيا الحرية سيشفى ويتخلص من خوفه حين تتاح له تذوق جرعات من الحرية ( الحقيقية ) في ظل نظام ديمقراطي ( حقيقي ) حيث تتكسر الممنوعات من حوله، وتتلاشى الممتنعات في ذهنه شيئاً فشيئاً. أي هل أن الأمر مرهون في النهاية بتحولات المناخ السياسي والاجتماعي الذي يعيش فيه البشر، ومنهم المثقفون؟. أعتقد نعم. فضلاً عن أن هذه المعضلة معقدة وشائكة إلى أبعد حد، لكنها قابلة للعلاج في نهاية الأمر. بشرط أن يكون الجزء الأهم من العلاج اجتماعياً، وبالضرورة. أي أن تُصمم برامج وسياسات محكمة ومؤثرة، متأسسة على قواعد علمية وواقعية، تستثمر وسائل وآليات التربية والتعليم والثقافة والإعلام وقنوات المجتمع المدني، ويكون فضاؤها المجتمع كله، لكي نخلق جيلاً لا يستطيع العيش إلا بالحرية، وفي أفقها، ومن أجلها.
#سعد_محمد_رحيم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
صورة المثقف مخذولاً وضحية
-
إذا ما غابت الثقة
-
ماركس الحالم.. ماركس العالم
-
فتاة في المطر
-
حواف الإيدز، أو؛ خالد في الصحراء
-
ماريو بارغاس يوسا في؛ ( رسائل إلى روائي شاب )
-
شبح ماركس
-
أخلاقيات الحوار
-
حواف الإيدز؛ أو خالد في الصحراء
-
الإعلام القاتل
-
ضد ماركس
-
كلام في الحب
-
هنتنغتون وفوكوياما ومسار التاريخ
-
المثقف ومعادلة السلطة المعرفة
-
فقدان حس الحاضر
-
موضوعة -السأم- في الأدب الروائي
-
أفواه الزمن؛ هذا الكتاب الساحر
-
شتائم ملوّنة
-
مشكلاتنا ومشكلاتهم
-
إيان مكيوان في -أمستردام-
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|