قليلة هي المصادر التي تبحث عن واقع وهوية وتاريخ تركمان العراق خاصة،والتركمان عامة في منطقة شرق المتوسط. وكتاب (أقليات في شرق المتوسط) تأليف فايز سارة الذي صدر عام 2000 عن دار مشرق ـ مغرب ،هو أحد هذه المصادر.ورغم أن الكتاب يبحث عن الأقليات في دول الشرق المتوسط عامة ، إلا أنه يتطرق بشكل مفصل إلى تركمان العراق والتركمان في البلدان الأخرى مثل إيران وسوريا والأردن ولبنان وفلسطين .
يرد في الكتاب حقيقة هامة إلا وهي قدم وجود التركمان في شرق المتوسط . حيث يرد أن قدومهم إلى المنطقة يسبق العثمانيين بقرون عديدة ،ويعود بالضبط إلى أواخر القرن السابع الميلادي ،عندما اندفعت القبائل التركمانية من موطنها في وسط آسيا غربا ..
ويشير فايز سارة في كتابه ،إلى أن المصادر التاريخية ترجع زمن هجرة التركمان إلى شرق المتوسط إلى أواخر القرن السابع الميلادي، حيث اندفعت القبائل التركمانية من موطنها في وسط آسيا غربا باتجاه شرق المتوسط ،وأخذت تستقر في العديد من المناطق ، بينما استقر قسم منها في إيران ،وقسم آخر في العراق ومناطق من بلاد الشام ،ليستقروا في المناطق ذات التماس بين الدولة العربية ـ الإسلامية والدولة البيزنطية وأماكن الثغور من شمال العراق وحتى شمال آسيا.
وقد اندمج التركمان في الحياة العامة للدولة العربية ـ الإسلامية بعد اعتناقهم الإسلام دينا لهم،وانخرط عدد كبير منهم في جيش الدولة ،وهو الأمر الذي مهد لهم فيما بعد ،وخاصة في العهد العباسي لأن يلعبوا دورا مهما في بعض المراحل السياسية .كما تبوأت شخصيات منهم مناصب رفيعة في الدولة،وبرز منهم كثير في قائمة النخبة العليا في التاريخ والمجتمع العربي ـ الإسلامي لا حقا .
أن ابرز ما يميز التركمان حسب ما يورده مؤلف الكتاب ،هو علاقاتهم مع المجتمعات التي عاشوا فيها. حيث أنهم احتفظوا بعلاقاتهم مع تلك المجتمعات بعد سقوط الدولة العثمانية ،وخروج الأتراك من البلاد العربية عقب الحرب العالمية الأولى (1914ـ 1918 ) حيث استمر وجودهم في مجتمعاتهم ،مؤكدين حقيقة الانتماء إلى الكيانات الوطنية التي ظهرت في المنطقة ،كما أنهم، أي التركمان،أصبحوا ينظرون إلى الدول التي يقيمون بها باعتبارها أوطانا لهم،وانهم مواطنون فيها .
ويؤكد الكتاب ،إن اكبر تجمعين للتركمان في بلدان المنطقة هما في العراق وإيران .حيث يحدد نسبة التركمان من سكان إيران تصل إلى 5و1% ،الأمر الذي يعني أن عددهم هناك يبلغ 750 ألف نسمة ( العديد من المصادر تؤكد إنهم يقاربون المليونين ويتمركزون في مدينة (كونبده كاوس) بصورة رئيسية ومدينتي (بندر توركمن) و(كالاله)) )
. وبسبب عدم وجود إحصائيات رسمية ، يخمن المؤلف إلى أن التركمان في العرق يشكلون حوالي 7% من سكان العراق ،وبذلك يقدر عددهم بأكثر من مليون ونصف المليون من العراقيين ،ونسبة التركمان من إجمالي سكان سوريا والأردن أقل مما سبق بكثير،إذ يقدر عدد التركمان في سوريا بأقل من 100 ألف نسمة ،وقد لا يتجاوز عددهم في الأردن الـ 25 ألف نسمة ،حسب أكثر التقديرات.
ويشير كتاب ( أقليات شرق المتوسط) أن التركمان يشكلون ثاني أقلية قومية في العراق.إذ هم يأتون بعد الأكراد مباشرة ،وأنهم ينتشرون على خط قريب من الحدود السورية ـ العراقية ،ثم يمتد شرقا باتجاه الحدود العراقية ـ الإيرانية ،وعلى امتداد هذا الخط تقع المدن والقرى التي يسكنها التركمان،وتلك التي يشارك سكانها التركمان غيرهم من إخوانهم العراقيين .ومن أهم تلك المدن والقرى : داقوق ،تازة ،طوزخورماتو وآمرلي والموصل وتلعفر وكركوك وأربيل ،والأخيرتين من أهم وأكبر مدن شمال العراق بعد الموصل . كما يتواجد تركمان عراقيون في أنحاء أخرى من العراق،وان يكن بكثافة أقل ، في بغداد والبصرة ،والكوت والحلة وكثير من هؤلاء اندمجوا في محيطهم الذي يعيشون فيه ،والقليل ما زال محتفظا بشخصيته التركمانية،حسب رأي الكاتب.
وبالنسبة للتركمان في سوريا فيرى المؤلف ،إن مناطق توزع التركمان في سوريا، يمكن ملاحظتها في منطقة الفرات والجزيرة،حيث هناك أقلية تركمانية ،تشكل امتدادا للأقلية التركمانية في شمال العراق،وهي لا تختلف عنها كثيرا مع أنه من الصعب القول بوجود روابط وصلات بين التركمان عبر الحدود السورية ـ العراقية ،وهناك مجموعة تركمانية تنتشر في المنطقة الفاصلة بين الفرات ومدينة إعزاز شمال حلب ،ومعظم هؤلاء امتهنوا الرعي في فترات سابقة ،لكنهم استقروا واخذوا يمارسون الزراعة ،وكذلك هو حال التركمان الموجودين في مناطق منبج والباب القريبتين من حلب ،وفي مدينة حلب ذاتها مجموعة من التركمان تتعايش مع بقية سكان المدينة من العرب والأقليات الأخرى التي تسكن المدينة .
وتتواجد أعداد من التركمان في منطقة حوض نهر العاصي وبخاصة بالقرب من مصياف حيث " حوير التركمان " و " ناطر " فيما يتواجد التركمان في منطقة الساحل السوري في قسمه الشمالي بالقرب من لواء الإسكندرون في منطقة راس البسيط ومرتفعات الباير .وهناك عدد محدود منهم في منطقة دمشق،تقيم إلى جانب الشركس في بلدة براق قرب دمشق .وفي المدينة ذاتها تتوزع مجموعة من التركمان في المناطق التي يسكنها نازحو الجولان،وهي في الأصل من الجماعة التركمانية التي كان عددها ثلاثة آلاف نسمة ،وتتوزع على قرى الجولان قبل أن تحتله إسرائيل عام 1967 وتقوم بطرد معظم سكانه السوريين ،وكان هؤلاء التركمان يتوزعون على مجموعة قرى جولانية بينها :حفر ،وكفر نفاخ ،والسنديانة ،والغادرية ،والعليقة، ،وأغلبهم يمارسون الرعي ،ويعود زمن وصولهم إلى الجولان إلى ذات الزمن الذي جاء فيها الشركس ،أي الربع الأخير من القرن التاسع عشر.
ولا تتوفر عموما إحصائيات رسمية بعدد التركمان في سوريا مثل باقي دول الشرق الأوسط ، إلا أن الكاتب يرى أن التقديرات لا تجعل أعدادهم تتجاوز مائة ألف شخص يتوزعون في تجمعات سكنية من طبيعة مدينية ،وأخرى تجمعات ريفية .ويمتهن التركمان من سكان الريف الزراعة وتربية الحيوانات على نحو ما هي حال أقرانهم من أبناء الريف السوري ،فيما يغلب العمل الحر والاشتغال بالوظيفة العامة بالنسبة للتركمان المقيمين في المدن ،وبخاصة المقيمين في دمشق ،والذين فقدوا أراضيهم في مرتفعات الجولان بعد نزوحهم منها عام 1967 .
والتركمان يتبعون الدين الإسلامي ،وهو دين الأكثرية من سكان سوريا وغالبا فانهم متدينون ،وهم يتكلمون العربية ،وبعضهم يتكلم التركية القديمة وفيها الكثير من المفردات العربية، ،وهم أكثر ميلا للاندماج في الحياة العامة بحكم تقاربهم وتفاعلهم معها ،حيث لا يميز القانون السوري بين المواطنين من أصول تركمانية وغيرهم من السوريين ,وقد لعب التركمان من أبناء قرى الجولان دورا معروفا في المقاومة الشعبية التي ظهرت في الجولان أثناء حرب 1967 .
ولعل أهم معلومة أوردها فايز سارة في كتابه (أقليات شرق المتوسط) تلك المتعلقة بالتركمان في فلسطين،والذين يطلق عليهم اسم ((عرب التركمان )) لأنهم جميعا ينتمون إلى قبيلة تحمل هذا الاسم. ورغم اختلاف الروايات التاريخية حول أصولهم وقدومهم إلى فلسطين ،إلا أن جميعها تكاد تتفق على أن قدوم التركمان إلى فلسطين ، كان بسبب عقوبة فرضها السلطان العثماني بحقهم .وثمة رواية أخرى ،تعيد زمن مجيئهم إلى فلسطين إلى أيام الحروب الصليبية ،حيث شارك التركمان في الدفاع عن بلاد الشام أثناء تلك الحروب ،وهم المعروفين بفروسيتهم ،وتبدو هذه الرواية اكثر قربا إلى الواقع ،حيث كان بين قادة جيوش صلاح الدين الأيوبي ،قائد تركماني بارز هو مظفرالدين كوجك(كوكبورو) أحد قادة صلاح الدين وزوج شقيقته، وهو أمير دولة الأتابكة في أربيل ، حيث شهد المعركة الكبرى في حطين ،وقد انضم إلى جيش صلاح الدين فيما بعد القائد التركماني يوسف زين الدين وهو أمير أتابكة الموصل في شمال العراق . ويعتبر هذان القائدان من أسباب قدوم التركمان إلى فلسطين وكما هو طابع التركمان في كل مناطق تواجدهم، فإنهم تمكنوا من الاندماج الكلي مع محيطهم العربي. وبالإمكان القول أنهم صاروا عربا من أصول تركمانية .
وحسب المصادر التاريخية ،فان القبائل التركمانية في مرج لبن عامر ،كانت سبعا ،أولها قبيلة بني سعيدان ،والثانية قبيلة بني علقمة ،والثالثة قبيلة بني عزاء ،والرابعة قبيلة الضبايا ،والخامسة قبيلة الشقيرات ،والسادسة قبيلة الطوالحة ،وسابع القبائل النفنفية .وقد انتظمت القبائل التركمانية في مجلس عشائر تم تشكيله في العام 1890 لكل واحد من شيوخ العشائر أن يكون عضوا فيه وفق شروط معينة .
وانخرط التركمان في فلسطين وجميعهم من المسلمين في الحياة الوطنية ،ولا سيما في موضوع مواجهة مشروع الاستعمار الاستيطاني ،كما أنهم شاركوا في المواجهة الفلسطينية مع الانتداب البريطاني ،وتعرضوا كما تعرض غيرهم من الفلسطينين إلى الطرد من بلادهم واللجوء إلى الشتات.
وتسجل أحداث ثورة فلسطين الكبرى 1936 ـ 1939 مشاركة التركمان بالثورة ،وقد كانت قرية "المنسي" إحدى مراكز الثورة في اللواء الشمالي من فلسطين ،وكان فيها مقر القيادة العسكرية ،وفيها مقر محكمة الثورة والتي كانت تنعقد في بيت الحاج حسن منصور.
وفي حرب 1948 اجتاحت القوات الصهيونية قرى التركمان في فلسطين، ودمرتها بعد قتال عنيف بين المهاجمين وأهالي القرى.وقد سقطت " المنسي " بعد معارك حدثت ما بين 9 و13 نيسان / أبريل 1948 ،وتزامن سقوطها مع أغلب القرى المجاورة ،وتم تهجير أهاليها ،وقد اتجه بعض تركمان فلسطين ممن نزحوا عنها عام 1948 إلى منطقة الجولان في سوريا.وكان بينهم عرب العوادين الذين تربطهم مع تركمان الجولان روابط قربى .وهناك صاروا معروفين باسم " جماعة أبو نهار " .وقد تعرض هؤلاء للتهجير من الجولان ثانية في العام 1967 على أيدي القوات الإسرائيلية التي احتلت الجولان في حرب حزيران /يونيو 1967 .
والخلاصة الذي يصل إليه الكاتب في موضوع التركمان بصورة عامة، أنهم أميل إلى التأقلم والتعايش مع أبناء ا القوميات الأخرى في البلدان التي يعيشون فيها .
يمكن اعتبار كتاب فائز سارة ( الأقليات في شرق المتوسط) كتابا هاما ،لأنه يتطرق بصورة موضوعية وحيادية إلى موضوع بالغ الأهمية في الفترة الراهنة من زمن العولمة والنظام العالمي الجديد، ألا وهو موضوع التعددية القومية في شرق المتوسط.