|
في نوستالجيا اللاذقية
معتز طوبر
الحوار المتمدن-العدد: 2290 - 2008 / 5 / 23 - 04:03
المحور:
سيرة ذاتية
الى الشاعر حسين عجيب ثمة بون شاسع في الحياتين هناك في الرياض و هنا في اللاذقية . وبالأصدقاء ايضا . فمن مقهى "الامم " والذي كان علي ان اقطع اكثر من 20 كم للوصول اليه على أطراف الصحراء المترامية ، الى مقهى " نوستالجيا " المتاخم والقريب جدا من جامعة تشرين في اللاذقية . ومن الأصدقاء في الرياض علي العمري وسعود السويداء واحمد كتوعة وخلف الخلف، والشيش والاراكيل المحيطة بنا، بفحولة الجو وذكوريته ، الى الاصدقاء حسين عجيب ومصعب حسن وجميل حلبي ورامي الطويل ومحمد سعيد وكأس العرق بأنوثة المكان وبرودته . ارتكبنا الحياة هناك . احتفلنا بها دون مواربة او خجل ، بتورياتها وفضائحها وأقاويلها ، ونحن نتلمس ارتكاباتها وخياناتها ايضا . وها انا ارتكبها هنا بخبر الموت هذا . خيانة اثر خيانة أصبحت حياتنا ............ . حياة نستعد لها طويلا . ذهاب نحضّر له ونتيقن به . وموت لا يفاجئنا بقدومه . هكذا نحتفل ونشرب نخب موت صديقنا . نسكر ولا نبالي بشيء . يعلو اسمه في سهرتنا، ينضج ويتقمّر ويحمر قبل أن يؤكل . نعلم بأنه لا مبرر لأحد ان يغادر دون وداع ، حتى لو كان موتا. لن نضحك ونقول إنها زعبرة ولصوصية تلك التي تخطف بريقا طالما كان بيننا . ثمة أصدقاء يتخيلون الألم ويناضلون من أجله، يحرثون أرضه . وأحبة تمضي مع الألم وتنعشه وترويه بذاكرتها وبدمائها الحارة . الموتى الذين يتوهمون الأشياء والأماكن ويتركون لنا أن نتخيل ونتمرّن على الخيال ونوسع مداركنا بذلك ، شاءوا ان لا يبادلونا الحديث والكلام ، بل تركونا معلقين كدمى في الهواء دون ان يفسحوا للريح حتى ، حتى ان تبعث في أعضائنا الحياة وتحرك دماء لطالما جفت وتيبست من مزاولة السعادة معهم . كنتَ سعيدا بخبر الميت هذا ، فقط لأنك أحببتَ الألم ، ألم الذكرى ، أحببتَ ان تصون نفسك ، وبأن تحافظ على بهجة كانت وما زالت مونتك َ على فقر الأيام الكالحة . صديقنا الشاعر " نور الدين بدران " شاركنا بأفراحه كثيرا ومرارا كما قلت ، لكنه هو الهارب منذ ربع قرن، آثر ان يحتفظ لنفسه بمتعة الموت ، الهرب والوحدة والعزلة ويترك لنا الألم بشساعته وتخييله .وان يبتلع هذا الموت بسكاكينه الحادة وفاجعته البعيدة . آثر أن يموت بعيدا كما عاش متخفيا وهاربا من ثقل أفكاره. فعل خيانة وفعل موت ، كل منهما أمضى من الآخر في إحداث الألم والتمثيل بأنوثة المكان . فعل صنو وحشية الأمل ، لأننا لن نصدق هذا الخبر هذا الفعل . ما زلنا حائرين . لن ينقذنا مبدأ الارتياب من شيء ، لا مجال لمحايثة الأمل بقدومه . فالموت ليس كتلة ولا طاقة ، هو هسيس من الذاكرة شاءت ان تذوب في العاطفة والمشاعر . الموت كان رغبة مفاجئة تمناها، إشارة للبعيد البعيد والدائم . لا ندري هل حضّر لهذا الموت ، لم يبدو على تغضنات وجهه استعداد له ، لم تكن أساريره تشي بتركنا . هل عرف ان " الجمال في البعيد البعيد فقط " كما يقول صديقنا " وديع سعادة "ام ان تلك الرغبة طقس واستعداد له . لا نريد لأحد ان يموت هربا بهذا الشكل ، خوفا من توديع الأصدقاء، مصعب حسن ومحمد سعيد ورامي طويل وحسين عجيب وجميل حلبي ومعتز طوبر .
لقد شغلتَ نفسك يا" حسين" بابتسامة عريضة خوفا من توديع الأصدقاء . وأغمضتَ عينيك ناخّا نحو الأرض والأرجل أسفل الطاولة، - كأنها علامة الميت ، فالغريزة هنا ان ننظر إلى الأرض ونتمعن ونفحص نوعية التراب الذي يُردم علينا-، مع انك رددتَ عبر الهاتف وانت تتكلم بان صديقنا " بدران " قد غاب وصعد الى السماء ، وهنا صبّ رامي الطويل يده على يدي مبصوطا بالكلام هذا ، على انه تناص مع إيماني بأن الموت يدلفنا إلى حياة أرقى وأسمى .. وكم ثرثرتَ وقلتَ ان خبر موته لم يتأكد بعد . كنت تواسي نفسك وتستعد للألم والحزن وتستعد لأن تشغل نفسك بالشرب أكثر وأكثر . فلم تكتف بكأس من العرق او كأسين ، فقد أخذت حصة الميت في الشرب والثرثرة والكلام ، لم يتوقف معلاقك عن الكلام الا بعد ان همدت روحك ، وانهبد يقينك على أن الموت قادم لا محال . قلت بأنك كنت تتوقع موت "مصعب" وانك تستعد لذلك بأن تحتفل لهذا الموت وتسكر وتصول وتجول حبا له . وتفرح للموت احتراما له ، على عادة جيرانك " المرشديين " هنا في اللاذقية في مشروع "شريتح ". في كل مرة كانت تجمعنا الصدفة ، وهذه المرة جمعتنا صدفة الميت ، لطالما تيقنتُ بأن للصدفة قانون فيزيائي تجريبي يحيل أحداثها إليه(القانون). يمكن ان يقيس احتمالات حدوثها والتنبؤ بمصيرها حتى . لكن لم افهم شيئا من " مصعب" عندما تكلم عن عدمية الفوضى،- مصطلح جديد لم اسمع به او ربما كان من ابتكاراته الكثيرة في الكتابة والحياة -، ربما انتشى كثيرا من الشرب أو الزعل ، فأخذ الكلام يخرج من فمه بفعل قانون الطرد المركزي او قانون الثقالة ( الجاذبية الأرضية ) وأصبح ينطق عن الهوى . كان كل شيء مناسبا للتشويه والقتل . مناسبا للعصيان ، ولكن على قد حالك َفي العصيان ، فقد رفضتَ ان تخرجَ من المقهى بعد ان اخبرنا نادل المقهى بأن وقت إغلاق المقهى قد فات عليه أكثر من ساعة . لقد تمردتَ عليه بطريقة طفولية. وتساءلت ُ، هل يعود هذا الى " خبر الميت " أم لأنك أحببتَ امرأة صاحب المقهى . عصيان " مصعب " صديقنا القاص, كان بأن أحال تجاربنا كلها إلى التقليد والمشابهة ، قلتَ له، أن يكتب ذلك فانحمقَ وأصرَّ على الشفاهية في النقد ،مبررا ذلك بالتواصل الحي نفسه ، ولكن اتفقنا انت وانا على ان الكتابية تبعد التشويه وتصون أصواتنا من الانشقاق والتفرع .
ربما خبر الميت جعلنا نفرح ونسكر. وتواعدنا ان نسكر أكثر اذا تيقن الخبر . حتى ان بعضنا اقترح ان نسكر شهرا كاملا على حساب الميت اذا كان الخبر معكوسا ومغلوطا وضحكنا كثيرا لكن بدموع مالحة . فصديقنا الذي نقل الخبر هذا عبر الموبايل ، كنّا قد اعتدنا على أوهامه وخرفه وشككنا في صحة ما وردنا منه . لكن لم ينقذنا شيء من هذه الدوامة التي عشناها . الا بعد ان أغلق النادل الحمامات وقطع عنّا إمداد الماء لمشروبنا "العرق " وأصبح من الصعب علينا شربه"سكا " . فكان ان قمنا بعيدا من "نوستالجيا " الروح هذه . نتخبط بأقدامنا وأمانينا التي تمتمنا بها من سنين طويلة. وخارجا تخلفت عنكم وحيدا ، كما عشت في هذه المدينة وحيدا . اللاذقية 3/ 10 / 2007 م
• نوستالجيا : مقهى في اللاذقية .
* شاعر سوري مقيم في السعودية [email protected] * تأكدت في اليوم التالي من موت الشاعر نور الدين بدران هو وزوجته في أراضي الأردن ، إثر حادث سيارة مفجع على طريق صحراوي موحش وهو قادم من السعودية الى سوريا .
#معتز_طوبر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إيطاليا: اجتماع لمجموعة السبع يخيم عليه الصراع بالشرق الأوسط
...
-
إيران ترد على ادعاءات ضلوعها بمقتل الحاخام الإسرائيلي في الإ
...
-
بغداد.. إحباط بيع طفلة من قبل والدتها مقابل 80 ألف دولار
-
حريق ضخم يلتهم مجمعاً سكنياً في مانيلا ويشرد أكثر من 2000 عا
...
-
جروح حواف الورق أكثر ألمًا من السكين.. والسبب؟
-
الجيش الإسرائيلي: -حزب الله- أطلق 250 صاروخا على إسرائيل يوم
...
-
اللحظات الأولى بعد تحطم طائرة شحن تابعة لشركة DHL قرب مطار ا
...
-
الشرطة الجورجية تغلق الشوارع المؤدية إلى البرلمان في تبليسي
...
-
مسؤول طبي شمال غزة: مستشفى -كمال عدوان- محاصر منذ 40 يوم ونن
...
-
إسرائيل تستولي على 52 ألف دونم بالضفة منذ بدء حرب غزة
المزيد.....
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
-
بصراحة.. لا غير..
/ وديع العبيدي
-
تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|