حول مقالة سعدي يوسف - جــنّــةُ الكَـنّــاســين- في صفحة الحوار المتمدن ليوم 2004/1/9
قبل أيام عبرت لصديق أديب عن مشاعري حول ما يكتبه سعدي يوسف , وقلت : بأن هذه المواقف ستحبط الناس , وتخيب ظن الكثيرين الذين كانوا في انتظار الشاعر سعدي ورموز الثقافة العراقية الآخرين بعد زوال طغمة البطش واندحار الدكتاتورية .
كان الوسط الثقافي ينتظرهم في أن يتقدموا الصفوف ويشيعوا أجواء العافية والحياة في رحاب الثقافة العراقية , خصوصا وأن سعدي , ورغم اختلافنا أو اتفاقنا معه , يبقى قامة ورمزا من رموز ثقافتنا العراقية .
كما عبرت عن انطباعاتي بكتابات سعدي الأخيرة , وكونها لا تثير سوى الضجر وعدم التفاعل بالنسبة لي , أنا الذي عشت المأساة كما عاشها غيري بكاملها وبكل تفاصيلها, في انتظار زوال الغول الكبير .
وبعد أن ولت الغمة , وكنت أخمن في أن شعرا وكتابات أدبية ستغزو المشهد الثقافي العراقي والعربي , لهول المصيبة التي عاشها العراق لأكثر من خمسة وثلاثين عاما, لا أجد اليوم سوى قصائد عن نادلة الحانة, ومنظف الشبابيك ودرجه, والقطار الإنكليزي وعرباته, والشراب المصفى المصطفى, و.....
لست ناقدا أدبيا لكي أعبر عن قيمة هذه القصائد, ولكني أعبر عن موقف وانطباعات لأنسأن عراقي أحب شعر سعدي يوسف وتغنى به منذ الصبا وإلى اليوم, إذ أن هذه القصائد لا تناسب الحالة التي يعيشها الوطن والناس .
أقول هذا وأنا أدرك تماما بأن للشاعر والمثقف الحرية فيما يقوله ويكتبه .
ورغم قصائده هذه الأيام ذات المذاق الإنكليزي أكثر من العراقي , والتي ابتعدت كثيرا عن قصائد سعدي أيام المحن , أردت في قناعتي أن يبتعد هذا الشاعر عن الخوض في المواقف السياسية , وأن لا يشغل باله في همومها, لأنها تدخله في درابين ومتاهات تؤثر دون أن يدري على جهده الشعري , وعلى توقد وحماسة روحه.
أعود لصاحبي الذي شكوت له ألمي , ليفاجئني ناصحا بأن لا أتململ من هذه المواقف , وأن أبقي لسعدي مساحة الحب والإعجاب في الروح . وقد بهرت حين سمعت بأن صاحبي ينوي تخصيص عدد من أعداد مجلته احتفاء بسعدي .
ترى ما الذي كان يود صاحبي من مبادرته هذه ! ربما كان يريد القول لسعدي بأن مكانك الطبيعي وسط جمهورك ومحبي شعرك , وسط الناس الذي تذوقوا شعرك وتغنوا بقصائدك , وصارت لهم أحيانا مثل المراجع والقواميس .أو ربما دعوة له للتوقف عن الخوض في السياسة والاكتفاء بالشعر . أو ربما هي دعوة في مخيلة صاحبي لكي نسمع ونقرأ سعدي ونحاوره في روية ودون ثرثرة أو نيات سوء .. ربما, لا ندري ... .
وحول الكناسة والمكانس والوزير الذي بادر بدعوة الناس للذهاب نحو نصب جواد سليم لتنظيف الساحة المحيطة به وشتل الأشجار في حديقة الأمة المحيطة بالنصب . أقول : بأني لم أجد ما يدعو للسخرية من الوزير ومن دعوته هذه , فجواد سليم رمز من رموزنا الثقافية الشامخة , وهذا لا يحتاج بالتأكيد لتذكير سعدي يوسف , الذي كان المنتظر منه أن يناصر دعوة وزارة الثقافة ووزيرها لتكريم هذا الفنان , خصوصا وأن احتفالية التكريم كبيرة تحوي المعرض والمحاضرات والتعريف والإشادة والتذكير , خصوصا وأن سنوات من القحط الثقافي قد برقعت الوطن , وكثر الجهل والتجهيل .
كما أن هذا التكريم هو جزء من برنامج الوزارة لتكريم الكثير من القامات الثقافية العراقية الشامخة والتي أهملها نظام صدام المقبور , وسعدي يوسف والنواب والجواهري وبلند الحيدري والبريكان , وغيرهم العشرات , سيأتي دور الاحتفاء بهم ,الأحياء منهم والذين غادرونا .
أقول بأن سعدي يوسف حر في وجهة نظره , وفي ما يقول وما يعبر , ولكننا ليس بالضرورة سوف نحتفي بكل ما يقول ويعبر لمجرد كونه شاعرا , أو لمجرد تاريخه الشعري ومواقفه الوطنية , فقول الشعر قضية والموقف السياسي قضية أخرى . وسوف لن نختلف على فحولة سعدي الشعرية وطول باعه في مضمار الكتابة , ولكن اختلافنا فيما يذهب به أحيانا من وجهات نظر .
كما سوف لن يختلف الناس في كون العراق محتلا , وفي أن صاحب الفصل فيه اليوم أمريكا ومناصريها, وأن مجلس الحكم قد عين بموافقة الأمريكان , ولكن هذا نصف القول فأمريكا وجدت قوى وأحزاب عراقية ووطنية وذات تاريخ نضالي وهي تحضي بشعبية وتأيد ولا يمكن تجاهلها. ولم تكن الفكرة في أول الأمر مجلس بالصلاحيات هذه بل مجلس استشاري ذات صلاحيات محدودة , ولكن ليس كل ما كان يريده المحتل قد صار له, والحقائق تدعم ذلك .
العبرة من قولي هذا , ليس الخوض في السياسة والجدل مع شاعر أريده قريبا من الشعر بعيدا عن السياسة , بل التذكير ببعض الحقائق , فالحزب الشيوعي العراقي لم يكن مرغوبا بحضوره إلى اجتماعات المعارضة قبل الحرب . وكانت مساعي البعض واضحة لتهميشه. وقد ذهب بالبعض الظن بأنه أصبح من التراث ! متناسين النضال البطولي والأسطوري لبيشمركته ومن كل الأطياف العراقية, والتضحيات الجسيمة لرفاقه وتنظيماته داخل الوطن , وبرنامجه وطروحاته الواقعية .
لم يأتي الشيوعيون من لندن , وواشنطن , وباريس , وستوكهولم , يوم سقط الطاغية, لقد كانوا في الوطن , في جباله وسهوله , في مدنه وقراه , ولم ينم الحاكم المدني الأمريكي في الليل لينهض في الصباح مفكرا بدعوة الحزب الشيوعي العراقي ليكون عضوا في مجلس الحكم المحلي .
لقد كنت في تموز هذا العام في الوطن وكنت قريبا من حوارات الشيوعيين , ومن هواجس أصدقاء الحزب ومناصريه , وكانت هناك دعوات كثيرة وملحة , لا بل حتى ضغوطا كثيرة , بأن لا يعزل الحزب نفسه , وأن يكون مساهما فعالا مع باقي الأحزاب الوطنية للشروع في إعادة الوطن لطريق الحرية والديمقراطية , وتخليصه من الاحتلال بأسرع ما يمكن , ونيل استقلاله . وكانت فرحة كبيرة للشيوعيين والتقدميين وللناس التي تنتظر الكثير من الحزب الشيوعي العراقي , يوم أعلن اسم الحزب ضمن تشكيلة مجلس الحكم .
لماذا نسمي مفيد الجزائري وزيرا من وزراء بريمر ! هو ليس كذلك ... فهو من الشعب , ومن الجيل الذي كافح وببطولة ضد نظام التعسف المقبور , كما أن الوزراء قد كلفوا من قبل أحزابهم ومنظماتهم, وقد طالت المدة حتى تم الاختيار . وكانت مئات الأسماء قد طرحت للنقاش . ولأول مرة منذ زمن طويل يستمع أهل الوطن ويشاهدوا وزراء أصحاب كفاءات ولهم دراية في مهماتهم, ولم تمض سوى فترة قصيرة على توليهم لمسؤولياتهم , بحيث تكون قضية توجيه التهم لهم بأنهم يكنسون للأمريكان صعبة التصديق .
ما البديل الذي في مخيلة الشاعر لهذه التشكيلة الوزارية ؟
هل كان الأجدر بالحزب الشيوعي العراقي وبقية الأحزاب الامتناع عن المشاركة في العملية السياسية الهدف الأكبر منها عودة السيادة ورحيل الاحتلال وتكريس الديمقراطية ؟
أي موقف تطالب الناس أن تقفه ؟
هل القتال ضد المحتلين والتعاضد مع الغرباء القادمين ورجالات الحرس الجمهوري والفدائيين والمتكرشين من زمن البعث الأسود عبر الحدود لقتل مستقبلنا ؟
هل الطلب من القوات المحتلة بمغادرة البلد فورا لكي يعود أعوان صدام الذين نهبوا الملاين والمتمترسين بأكوام السلاح والمال ؟
أليس صدام وزمرته من سبب في المصير المأساوي الذي حالت إليه الأوضاع ؟
لقد سعد الناس بزوال الطاغية وكانوا يريدون أن يتم ذلك على أيدي أبناء البلد, ولكن المقاومة الشرسة للذين فقدوا امتيازاتهم وتحكمهم برقاب الأكثرية في الوطن , برهنت على أن هؤلاء كانوا سيقاومون بضراوة ضد كل من كان يريد تخليص الوطن من الدكتاتورية, وكانت ستسيل دماء كثيرة , رغم أن النزيف لم يتوقف حتى الساعة , ولكن المصيبة كانت ستكون مرعبة , وهذا لا يعني أن الذي حصل كان الأفضل , فهو لن يصبح بالتأكيد مثلا للشعوب التي تريد مقارعة الدكتاتورية وعليها القيام بنفسها بذلك .
لقد جاهد هذا الوزير لمدة عشرة سنوات حاملا البندقية مقاتلا في صفوف أشجع وأنبل حركة مسلحة شيوعية قادها وببسالة شيوعيون من كردستان الوطن وجنوبه, من غر به وفرا ته وبغد اده ووسطه , قاتلت النظام المقبور , وأعني حركة الأنصار الشيوعيين في كردستان . وهو لم يغادر أرض الوطن منذ عشرين عاما قضاها مكافحا بقلمه وصوته. ويوم دخل الأمريكان لم يستأذن هذا الوزير أحدا في الدخول , فهو كان هناك في الوطن , وكان هناك أيضا صحبه ورفاقه . وحين يدعو هذا الوزير رجال وزارته والمثقفين للذهاب في حملة تنظيف ساحة التحرير, فهو يبادر ويحض على المبادرة في زمن نحس برد الناس فيه في الوطن وقلت مبادراتهم بسبب الضيم والقهر والتعب الذي خيم سنوات فوق الرؤوس . وهذا الوزير ليس مغفلا كما تظن يا سعدي .. ! وهو يعرف متى يكون الجهاد بالبنادق , ومتى يكون الجهاد بالكلمة والرأي والمكنسة. وهو بالتأكيد يكنس للعراق الجميل القادم,العراق الذي يحكمه أهله بدون وصاية أحد , وهو يكنس الساحة التي تحيط بنصب جواد وكأنه يمهد الطريق لثقافة عراقية إنسانية أصيلة في وطن متسامح حضاري .
ليس من الحكمة الجلوس اليوم والولولة على ما حالت عليه الحالة.
إن الحكمة والتبصر تدفعنا للشروع في البناء , أو للتفكير في الشروع للبناء , أو للحلم في البناء , ولا أظن بأن أحدا يقدر أن يمنعنا من الحلم الذي هو اختلط بالواقع أو يكاد .
وإذا كان الوزير لا يملك اليوم مالا لإصلاح مولد الكهرباء في وزارته كما كتبت , فأن هذا لن يدوم طويلا , فسيأتي اليوم الذي تعم فيه الكهرباء مدن العراق , وسيأتي اليوم الذي لا يحتاج الناس فيه إلى ملك لتعين المستشارين , لأن الأرض ليست ملك الملك , وأن أرضه هناك واسعة, وبمستطاعه أن يكون ملكا هناك فيها .
كم نحن اليوم بحاجة لمن يوسع الأرض لا لمن يضيقها ....
ألست أنت القائل يوما على ما أظن
قل كلمة وأمضي
تزد سعة الأرض
السويد 2004/1/11