يُتهم المثقف العراقي كونه لا يمتلك خطاباً واضحاً من الأحداث الكبرى التي أدت إلى انهيار مقومات الدولة والمجتمع. وإن وجد خطاباً فأنه ينهل مفرداته من الخطاب السياسي بسبب (فشل) المثقف العراقي في إيجاد مرجعية خاصة به توازي مرجعية السياسي.
والمتابع للوسط الثقافي العراقي منذ منتصف الخمسينيات وحتى الثمانينيات من القرن المنصرم، يجد أن معظم المثقفين مُسيسين والغالبية منهم محسوب على تيار اليسار العراقي ونسبة المستقلين في الوسط تكاد أن تكون معدومة.
والصراع كان في أوجه بين الأحزاب السياسية العراقية من أجل احتواء المثقف، وتمكن حزب البعث المقبور بعد سنوات من تسلمه السلطة في العام 1968 من شراء بعض الأقلام وإجبار البعض الآخر من خلال الإرهاب والعنف الانتقال إلى صفوفه.
وبعد انفضاض عُرس الجبهة الوطنية المشؤوم بين الأحزاب الشمولية، زاد حزب البعث المقبور وتيرة العنف والاضطهاد ضد المثقف اليساري، مما أدى إلى هجرة الآلاف من المثقفين إلى خارج الوطن احتجاجاً وخشيةً من إرهاب السلطة.
وحصل فرز واضح بين ما يسمى مثقفي الخارج (مثقفي اليسار) ومثقفي الداخل (مثقفي اليمين-البعثي) والفئة الأخيرة جُلها من الانتهازيين والمُطبلين للنظام المباد وحروبه القذرة وتخصصوا في مدح الطاغية المهزوم.
في حين أن مثقفي الخارج بعد الهجرة إلى المنافي، اكتشفوا حقيقية السياسي المعارض الجاهل الذي ورط الجميع بكارثة كبيرة وكان أول الهاربين من ساحة المواجهة ودفع المثقف حياته ثمناً لتلك المواجهة التي قادها السياسيون.
وبعد تكشفت حقيقية ما يسمى (بقيادة اليسار) وتدني مستوى سلوكها وثقافتها، انسحب أغلب المثقفون الشرفاء من الجسد السياسي ولأول مرة يحدث في تاريخ الوسط الثقافي العراقي بأن يكون عدد المثقفين المستقلين يفوق عدد (المثقفين) الحزبين.
هذا الأمر سبب حرجاً كبيراً للقيادة السياسية من الجهلة والأمين وتكشفت عوراتهم، لكنهم لم يفقدو سطوتهم وأجهزتهم القمعية التي مارست كل أساليب التهديد والإسقاط والتشويه والإساءة ضد اللذين عبروا عن رأيهم بتلك القيادة السياسية.
وهكذا تراجع العديد من المثقفين مُفضلاً عدم المواجهة أو أصابته الخيبة والذهول من هذه الحملة الشرسة التي لا تقل بشراستها عن شراسة سلطة البعث ضد المثقفين، وفضل القسم الأخر العزلة لكن عدداً قليلاً منهم أخذ على عاتقه المواجهة مع قيادة الجهلة والأميين!!.
ومع هزيمة الاتحاد السوفيتي ومنظومته الفكرية، هُزمت تلك القيادة (التي كان تستمد قوتها من ذاك الجبروت) تجر وراءها الخيبة والذل والتواطىء مع السلطة المبادة، وسعت القيادة الجديدة لجسر الهوة بينها وبين المثقف لكنها فشلت كونها لم تكن طليقة اليدين تماماً كما تهيأ لها؟.
وجرت محاولات عديدة من المثقفين لإيجاد مرجعية خاصة بهم، وكاد البعض من تلك المحاولات أن يُكتب لها النجاح لكن القيادة الديناصورية عادت إلى عادتها القديمة في الهيمنة والتسلط مما أدى إلى انسحاب أغلب المثقفين وبالتالي فشل تلك المحاولات، وتلك التدخلات السياسية الفضّة في الشان الثقافي أدت إلى انعدام الثقة بأي مشروع ثقافي يُشم منه رائحة تدخل السياسي.
لذا شكلت الأحزاب الديناصورية منظمات (ثقافية) عديدة ادعت تمثيلها للمثقفين العراقيين، ومارست تلك الواجهات (الثقافية) كل أساليب الترغيب والتهديد من أجل احتواء المثقفين لكن محاولاتها البائسة تلك بائت بالفشل.
ولم يبقَ لديها سوى الأسلحة القذرة: التهديد والتهميش والإساءة للمثقف الذي يقاطع ويتندر بتلك الواجهات الحزبية التي لا هَّم لها سوى سرقة المال العام باسم الثقافة العراقية.
وبعد كل مجريات الخراب السابق الذي مارسه السياسي ضد المثقف. هل يمكننا القول: هناك غياب لخطاب ورؤية للمثقف العراقي من الأحداث والمستقبل الثقافي في العراق؟.
رؤية المثقف للمستقبل:
إذا كان يُعنى بالخطاب الثقافي التعبير عن رؤية لمرجعية ثقافية تمثل العراقيين، يمكن القول ليس هناك خطاباً بهذا المعنى!! لكن يمكن القول أيضاً هناك مجموعة من الخطابات للمثقفين العراقيين تنهل من نفس المرجل وتعبر (إلى حد ما) عن آراء المجموع.
فالخطاب الثقافي الفردي من الأحداث والمستقبل يتم تداوله بين المثقفين، حيث يتبرع أحد (الفدائيين من المثقفين) لإصداره وبذلك يتحدى بمفرده سلطة السياسي التي ستنهال عليه فيما بعد بالإساءة والتهميش والتهديد، وبهذا فأن الخطاب يُعبر بشكل أو أخر عن رغبات العديد من المثقفين اللذين لا يفضلون المواجهة مع السياسي الجاهل والأمي!!.
وأغلب مفردات خطاب المثقف هي مطالبات: باستقلالية الثقافة عن السياسة؛ ورفض سيادة الهيمنة والتسلط للسياسي على النشاط الثقافي؛ وتشجيع المثقف على للتخلص من هيمنة السياسي وأن يكون له صوتاً أعلى من صوت السياسي؛ والسلطة الرابعة..وغيرها.
ويجد ((كريم الأسدي)) كم هو ضروري أن يتعاون المثقفون العراقيون جميعاً وبصدق لأجل ثقافة فوق السياسة، صافية وإنسانية تجنب بلدهم مأزق الانهيار والضياع وتعيد إليه روحه.
وهناك خطاب لمثقف أخر يشترط فيه بناء العراق الجديد بضرورة إزاحة الديناصورات الحزبية من المسرح السياسي والعمل على كنس العقلية الديناصورية للعجائز الحزبية لأنهم سبب الانهيار وسوس الخراب للوطن. فإرساء مبدأ الرأي والرأي الأخر، يحتاج إلى جيل يؤمن بالديمقراطية وله القدرة على التواءم مع الأحداث العالمية، فهذه الكائنات الديناصورية يتوجب استئصالها من المجتمع قبل البدء العملية الديمقراطية.
ويعتقد ((أمير الدراجي)) "أن عراق الغد من محاور القوى النقدية الجديدة لا تفهمه العجائز الحزبية، وهو عراق لن تتشكل حياته السياسية على جبهات الأحزاب المعادة والمكررة، وإنما يتشكل على أساس التكتلات الكبرى تلك التي تستوعب حدود الاختلاف المعتقدي داخلها وتتفق على المصائر العليا، كما هو حاصل في دول متحضرة.
إنه عراق المجموعات السياسية العديدة التي ينظر لها الموميائيون نظرة متشائمة ويسوقون لها مصطلح الانشقاق، كما كانت تجري إعداماتهم الحزبية لأنهم يخافون التعدد ويخافون مشاركة الأخر للقرار، لذا يتحدثون بطهرانية التوحيد وهم اكبر مخربيه ذلك لأن الدكتاتور لا يقبل إلا عقل القائد الأول والأمام المشرع، والخليفة والبطل وولاية الفقيه والأمين العام وكل هذه الألقاب المتخفية الموميائية، أنه يمارس الحق المكتسب لعصا القطعان ولا يستوعب أن القطيع من الممكن أن يمضي من دون عصا.
ناهيك عن أن السلطة ليست قيم الراعي، والقطيع، وإنما قيم الخادم والمخدوم التي انقلبت، وبدل أن يكون القائد خادماً صار مخدوماً!! هناك ثورة اجتماعية تنمو بحراكها كي تهدم سلطة الأموات".
ويجد المثقف أن دوره لا يقتصر على النظر للمشكلات السياسية التي تشكل مقومات بناء الدولة الجديدة، بل إعادة بناء الإنسان العراقي الذي خربته آلة العنف البعثية فبدون بناء الإنسان لا يمكن الشروع ببناء مجتمع جديد يسعى نحو التنمية والرفاهية.
وبناء الإنسان يعد الأصعب في سلسلة إعادة البناء للدولة والمجتمع، ويجد المثقف أنه الأقرب إلى الإنسان من السياسي لأنه يعبر عن حاجاته ويعي متطلباته.
ويعتقد ((فوزي كريم)) أن من مهمات الشاعر الحقيقي هو السعي إلى الأخذ بيد الكائن الإنساني إلى مراتب أنبل وأعمق وأجمل في وجوده المتحقق. وهذا المسعى جوهر سياسي وفعل سياسي، لا يتولد من نشاط حزبي أو نشاط في السلك الرسمي، بل من أفكار ومشاعر ورؤى هي عدة الشاعر، في حين ينصرف للأولى الآخرون جميعاً.
فالعلاقة بين المثقف والمجتمع، علاقة غير نفعية كما هي لدى السياسي الذي يسعى لاستغلال الإنسان لأغراضه الشخصية، فالمثقف هو أداة التعبير عن المجتمع ووظيفته هي الدفاع عن القيم الإنسانية لذلك هناك وشائج حسية بين المثقف والمجتمع، وبالضد من ذلك هناك خشية للمواطن من السياسي لأنه سوط السلطة ضد المجتمع.
ويعتقد ((عبد الكريم كَاصد)) أنه على يقين أن شعبنا سيصفق لمثقفيه وأدبائه، لا لأنهم يدافعون عن القيم الإنسانية والأخلاقية السامية، بل لأنهم سيعرفون كيف يفضحون من تشدقوا بهذه القيم وتاجروا بها طويلاً وإذا كنا الآن بلا منابر فسيأتي اليوم الذي ستكون لنا فيه منابرنا.
لقد مارس السياسي دور (قذر) مع المثقف حين عمد إلى تهميشه والحط من مكانته الاجتماعية مستعنياً بجمل فارغة ومتحجرة من نظريته المهزومة بغية إعطاء الشرعية لهيمنة الجهلة والأميين على مقدرات الدولة والمجتمع.
وقد أثبتت الوقائع عدم صدقية تلك الآراء وهزيمة الجهلة والأميين أما متغيرات العالم الجديد.
ويجد ((ياسين النصير)) لم يفت الوقت بعد لجعل المثقف في المقدمة ولنترك النغمة القديمة في جعله ملحقاً بالطبقة العاملة أو من فئة البرجوازية الوطنية؟!! فالمثقف اليوم إذ يتحرر حتى من نظرة غرامشي ودوره، بدأ يبني كيانه الوجودي إلى جوار كيانه المعرفي (الكلي) لعالم الغد.
وهذا الأمر لا يمكن أن يتنازل عنه الديناصورات بسهولة، وإن تراخت أصواتهم في الوقت الحاضر لكن حفيفهم مازال يطالب بعودة تلك الأفكار المتحجرة.
وعليه يتطلب أن يكون للمثقف صوت أعلى ومطالبة أكبر للحفاظ على ما تبقى من الذات العراقية الجريحة، بعد أن فرط السياسي بالزرع والضرع.
ويجد ((إبراهيم أحمد)) أن المثقف العراقي مطالب بجرأة أكبر وصراحة أكثر في مواجهة قضايا ستكون غداً أكثر تعقيداً وخطورة، وإذا كان الساسة قد فرطوا بالبشر والأرض وثرواتها فإن عليه الحفاظ على الروح العراقية بأقل قدر من الجراح لكي تنهض وتواصل حياتها في لجة هذا العصر لا على هوامشه المظلمة.
مما سبق نجد أن (كمشة لا على التعين) من الخطابات الثقافية الفردية تصلح بمفردتها ومحاورها أن تكون خطاباً ورؤية للمثقفين العراقيين في الشأن السياسي والثقافي، وهذا يدلل مرة أخرى على أن صوت المثقف العراقي رغم محاولات السياسي لتكتيمه كان واضحاً وجريئاً ومعبراً عن الواقع والمستقبل، لكن يؤخذ عليه عدم انبثاقه عن مرجعية ثقافية تمثل المثقفين العراقيين.
فالسنوات القادمة ستكون حُبلى بأدوار للمثقفين العراقيين في الساحتين السياسية والثقافية ، ويمكننا (الجزم) بأن عهد التسلط والهيمنة للسياسي الجاهل والأمي ولى بغير رجعة.
فلقد شهد العام 2003 استخدم سلاح جديد ابتكره العراقيون وهو (الحذاء) مع السياسي، وكان طاغية العراق المهزوم أول من دشن به هذا السلاح وجاء بعده ((أحمد ماهر)) وزير خارجية مصر في القدس.
وستشهد الساحة العراقية سقوط الكثير من الجماجم العفنة للديناصورات بالأحذية ما لم تخلِ الساحة السياسية للجيل الجديد وتكف عن سياسة التدخل في الشأن الثقافي، ولا تحمي باروكات الشعر المزيف تلك الجماجم من التهشيم!!.
ستوكهولم بتاريخ 9/1/2004.