سؤال ملح يطرح نفسه دوما في المحافل الكردستانية والعربية والدولية فيما إذا تعلم الكرد درسا من التاريخ.
لكن السؤال الأكثر إلحاحا هو لماذا بالذات الكرد؟
حين سُئل موشي دايان بعد نكسة حرب الأيام الستة في حزيران المشؤومة عام 1967، لماذا هُزم العرب؟ قال: "العرب لايقرؤون".
ماذا كان دايان يعني من ذلك الجواب الساخر؟ هل أن العرب حقا لايقرؤون؟ هل يقرأ الكرد أكثر من العرب؟
المعروف عن الكرد، على مر التاريخ، أنهم أحد أكثر الشعوب عداوة لبعضهم البعض. فهل سبب ذلك أنهم لايقرؤون التاريخ كثيرا أو أنهم لايقرؤون التاريخ البتة؟
أعتقد جازما بأن الكرد يقرؤون التاريخ كثيرا، ولكن ماذا تعلم الكرد من قراءة التاريخ؟هذا هو السؤال الكبير الذي يردد أسماعنا. وأنا حين أتساءل، أو قل حين ألح على السؤال، أشعر بأن آلاما تسير في عروقي، ولكني أحاول أن أسيطر على نفسي، وأتمرد على الدموع، لأن الرجل الكردي لايعرف البكاء كثيرا. هكذا تقول الأساطير الكردية.
سُئل أحد المستشرقين الألمان، تخونني الذاكرة أن أتذكر إسمه، عن الأهمية التي تكمن في قراءة التاريخ، فقال: "الأهمية الوحيدة لقراءة التاريخ هي أنه لا أهمية لها".
يبدو للمرء أنه يفهم، بسذاجة، إن صح التعبير، من ذلك الجواب، بعدم جدوى قراءة التاريخ. ولكن مع هذا فالكرد قد يبدو أكثر الأقوام والشعوب قراءة للتاريخ، لأن الشعب الكردي كالشعب الفلسطيني أحد أكثر الشعوب معاناة للأزمات والنكسات. فالشعب الكردي يريد الحرية لنفسه ولغيره، ولكنه نادرا مايعلن دعوته للإستقلال وتشكيل دولته على أرض وطنه كردستان، على عكس الشعب الفلسطيني الواعي لذاته والذي لايرضى بديلا عن الدولة والعودة. فهل يعني ذلك أن الكرد يريد أن يكون في خدمة الأسياد راضيا بالقليل مقابل الكثير لغيرهم؟ أو أنه شعب تواق للحرية يحب السلام والوئام مع الجيران؟ أو أنه مبتلي بقيادات ذات عقلية تجارية لاتفكر بالإستقلال؟
هل الكرد عاجزون عن صنع التاريخ لأن كل مايقرؤونه هو تاريخ النجاح؟ ماهو هذا النجاح الذي تحقق وكيف تحقق؟ أو أنه تاريخ الفشل، ولماذا؟
قال الجنرال ديغول في أعقاب إحتلال النازية لوطنه فرنسا، وهو يقود نضال الحرية لتحرير الوطن من الإحتلال والعدوان: "الجغرافيا هي العامل الحاسم والثابت في صنع التاريخ". فهل للأكراد جغرافيا ليصنعوا التاريخ؟ وإذا كان لهم جغرافيا فأين هي؟ هل يمكن صنع التاريخ بدون جغرافيا؟ وهل أن الجغرافيا هي أرض محررة مستقلة أو هي مجرد سهول وجبال وأنهار لاتدخل المشاعر الكردية، أو ترفض مشاعر وعواطف القيادات الكردية أن تستوعبها.
هل يفهم الكرد ماذا كان يعني الجنرال ديغول حين كان يناضل حرا أبيا ليصنع التاريخ الفرنسي المعاصر في جغرافيا يحكمها الشعب الفرنسي وليست النازية؟ هل هناك شعب في التاريخ القديم والوسيط والحديث والمعاصر إستطاع أن يصنع التاريخ بدون جغرافيا؟ أي شعب من شعوب الأرض يتمتع بإرادة مستقلة بمعزل عن الجغرافيا؟ هل يتمتع الكرد في كردستان بكل أجزائها، وفي دول الجوار، وفي المهجر، وحتى في العالم الحر بإرادة حرة ويفهم التاريخ بدون جغرافيا؟
عجيب أمر الكرد، وغريب أمر الكرد، والأغرب من كل ذلك قيادات الكرد. فالقيادات الكردية هي إحدى أكثر القيادات الحزبية في العالم الثالث والعالم المتمدن على السواء تمسكا بالتحزب السياسي المتعنت المتزمت إلى درجة عسكرة الحزب. إنها أكثر القيادات قدرة على تصفية بعضها البعض ، بل وتصفية نفسها بنفسها. إنها إحدى أكثر القيادات إساءة للسلطة في إجبار الكرد بالعمل في الأحزاب السياسية، لأن الحزب هو رب العمل للفقير الكردي، وهو الجهاز السياسي الذي يدرب أعضاءه على العمل البوليسي والأمني. فماذا يقول الكردي الذي هرب من هذا الوضع ويعيش في المهجر ليعمل حرا حسب قدرته الفكرية والتعليمية دون أن يجبره أحد بالعمل الحزبي في بلد ديمقراطي غريب يفهم شعبه معنى الحرية والديمقراطية؟
إذا قرأنا التاريخ الكردي، من الإنتفاضات والثورات إلى الحروب والعداوات، نجد بأن عناصر قيادية كردية خانت إخوتها، وقامت بتصفية نفسها بنفسها. فعلى سبيل المثال نقول، لو تآمرت قوة كردية بتصفية ثورة أيلول (1961-1975) بقيادة الراحل مصطفى البارزاني، لما إنهارت الثورة بسرعة، بل كانت على الأرجح تتحول إلى تصفيات كردية كردية، ولسالت شلالات من الدماء الكردية في حرب إقتتال الكرد للكرد، وأكراد ضد أكراد، وإتهامات بالخيانة من كل جانب للجانب الآخر. لكن الذي قام بتصفية الثورة الكردية، هو صدام حسين وشاه إيران الذي إستقبله الكرد في إيران الشاه بعد إتفاقية 6 آذار 1975. بينما نجد أن إنشقاق الطالباني عن البارزاني عام 1964، نعم مجرد إنشقاق، أدى إلى حروب طاحنة لم تتوقف إلا عام 1970 نسبيا، ثم عادت بعد ذلك، واستمر الصراع، وتحول إلى حرب طاحنة عام 1994 ، حتى أن منظمة العفو الدولية، أمنستي إنترناسيونال أشارت في تقريرها السنوي لعام 1994، إلى خرق حقوق الإنسان من قبل التنظيمين الكرديين ، الحزب الديمقراطي الكردستاني والإتحاد الوطني الكردستاني في الحرب الدائرة بينهما. واستمرت الحرب، ودعى الطالباني القوات الإيرانية لتصفية خصمه البارزاني، بينما دعى البارزاني القوات العراقية لطرد قوات الطالباني من مدينة أربيل عام 1996، واستمرت الحرب إلى أن تدخلت الولايات المتحدة الأمريكية، وتوجت بالتوقيع على إتفاقية واشنطن عام 1998، ولازال الحبل على الجرار، حيث إدارتين كرديتين، إحداهما في أربيل، والثانية في السليمانية، وحكومتين كرديتين ، وبرلمانين كرديين وجيشين وحزبين وقائدين ورئيسين وميزانيتين وأقليمين وقومين ينتميان لشعب بائس فقير واحد تحت الحماية الأمريكية في المنطقة الحرة، جنوب كردستان المسمى كردستان العراق.
السؤال الكبير الذي يطرح نفسه، هو مدى القناعة التي تتجلى لدى الإنسان الكردي في لاوعي هذه القيادات في حل تناقضاتها. ماالذي يمنعها أن توحد الإدارتين الكرديتين في أربيل والسليمانية، وهذا هو مطلب الجماهير الكردستانية، والزعيمين الكرديين البارزاني والطالباني يتبادلان القبلات كل يوم أمام شاشات التلفاز؟
لو أعتقل عبد الله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني من قبل قوة كردية أو حزب كردستاني، لنشبت حربا طاحنة بينهما يمكن أن تدوم سنين طويلة، ولهدمت قرى ومدن كردستانية عديدة ، ولقتلت آلاف الابرياء، ولكن الذي إعتقله كان النظام التركي بالتعاون مع الموساد الإسرائيلي، والكرد باركهما، وأصبح أقرب إليهما من أي وقت مضى، وأصبح أوجلان أسير العدو الصديق معا، كما أصبح حزبه شبه مستسلم. بينما كان هو وحزبه في معارك طاحنة ضد البارزاني وقوات الحزب الديمقراطي الكردستاني أعواما، وضد الطالباني وقوات الإتحاد الوطني الكردستاني أعواما أخرى، على شئ، إسمه السلطان بمعنى الكبير للكلمة، ولازال الحقد والكراهية تأكل كل الجوانب. والشعب المضطَهد المشرد يستعد مرة تلو المرة لتنظيم نفسه من أجل الحرية.
السؤال الذي طرحناه، يلح علينا أن نجاوبه عليه. هل يقرأ الكرد وخاصة قيادات الكرد التاريخ بعد كل هذا وذاك؟ وإذا قرأ الكرد، وخاصة الأحزاب الكردية وقياداتها هذا التاريخ، فما تعلم منه؟
الأهمية الكبيرة التي تكمن في قراءة التاريخ هي أنه ليس لها أهمية. هذه المقولة التي سبق وأن نقلناها من ذلك المستشرق الأوربي، صحيحة فيما يتعلق الأمر بالكرد، وخاصة قيادة وأحزابا، لسبب بسيط وهو أن الكرد فيما يتعلق بقراءة التاريخ متخلفون، وهذا التخلف يكمن بعدم وعيهم بالتاريخ.
إذن كيف يفهم الكرد التاريخ ويتعلموا منه حتى يصنعوا التاريخ؟ الجواب بسيط وسهل، ولكنه مهم وحاسم، وهو ضرورة الوعي بالتاريخ. فالأهمية القصوى التي تكمن في علم التاريخ العظيم هي الوعي بالتاريخ وليس مجرد قراءة التاريخ. فكم قيادي كردستاني، إستوعب حقيقة الوعي بالتاريخ، وأهمية هذا الوعي في صنع التاريخ؟ وكم كردي تجرأ أن ينقد ذاته، وينقد القيادة، وينقد الحزب، وينقد الواقع، ويدعو إلى صنع التاريخ على أرض وطنه كردستان.
الجواب عندنا جميعا، بدون إستثناء بضرورة مراجعة التاريخ ودراسته لا مجرد قراءته بل إستيعابه، ولامجرد إستيعابه بل الوعي به. إنه الوعي بالتاريخ، لا الوعي بالولاء الذي يُباع ويُشتَرى، فالمشكلة هي الخوف من الذات، والخوف من الآخر، والخوف من النقد ، وخاصة الخوف من نقد القائد واعتباره مُنَزها، ولهذا فلم يتعلم الكرد أهمية الوعي بالتاريخ ليفهم الجغرافيا، كعامل حاسم وثابت في صنع التاريخ.