رفيق لي، سألني قبل أيام: ((ماذا يعني لك مهدي، الآن؟)).
قبل ان أفكر بالإجابة، تحوّل السؤال هذا ليصير: ((ماذا يقول لك مهدي، الآن؟)).
فمهدي عامل، الذي يعني لي، دائما: عقلا محتدما، وفكرا مبدعا صارم التنظيم، معا...
مهدي الماركسي، الحزبي، القلق، يأبى الآن الا ان.. ((يقول))!
وكلما حدث ان كنت أكتب عن مهدي (بعد غيابه يوم 19 أيار 1987) أشعر بحضوره القوي، حضوره الفعلي، والفاعل... أشعر بأنه يسمع ما أهجس به، وانه يقرأ ما أكتبه جملة جملة، وانه يهمس بأذني، مدققا، مصححا، محاورا!
مهدي كان مرحا دائما، على صعيد الحياة، ومتفائلا باستمرار، على صعيد الفكر واستشراف الآتي.. صحيح انه كان، بين حين وحين، يعبّر عن قلق داخلي عميق، وكان يعاني مآزق حياتية وفكرية ينوء تحتها الانسان العادي.. ولكنه ابدا لم ييأس، لم يتخلّ عن مرحه الحياتي ولا عن تفاؤله الفكري العقلاني.. كانت ارادته في التجاوز هائلة القوة، نضرة في تفاؤلها الأخضر...
.. فلماذا تعلو وجهك معالم من اليأس يا مهدي؟
تردّد مهدي في القول!
قلت في نفسي: من زمان، منذ ذلك الانهيار المدوّي لذلك النظام الاشتراكي، وأنا اسائل نفسي: ((لو كان مهدي بيننا الآن، فماذا كان يمكن ان يقول؟..)).
أذكر انه كان ينتقد، بخفر وتهيّب، ولكن بعمق، مظاهر الخلل البنيوي في ذلك البناء الشامخ، وكان يشير الى ذلك ويقول بخفوت، وبما يؤكد النقمة ويشبه اليأس: ((ذلك البنيان الهائل ينخره السوس من الداخل)).. كان يرى الخلل في بنيان الدولة وجهازها القامع... ويرى الخلل في بنيان الحزب الذي حوّل وظيفته الأساس من رقابته على الدولة والحد من بيروقراطيتها، الى مراقبة الناس، وتحوّل الحزب نفسه الى بنيان بيروقراطي فكيف ستواصل المسيرة، المسير؟!
فماذا تقول في هذا، الآن، يا مهدي؟..
لا تسألني، الآن، عن سرّ انهيار ذلك البنيان!.. طبعا، لا بد لنا من القيام بمحاولات ومحاولات ميدانية وفكرية ونظرية لتحديد بعض ما هو رئيسي من الاسباب والمسبّبات، الداخلية أساسا، والخارجية تاليا، للتوصّل الى سرّ ذلك السوس، الذي نخر البنيان، جوّفه من الداخل فتهاوى على ذاته، وكان دوي انهياره عظيما هائلا في كل أنحاء الدنيا...
ما يهمني (يتابع مهدي) ان ذلك الانهيار ليس بالقطع شأنا سوفياتيا/ روسيا، يخصّ أهل تلك البلاد وحدهم... بل هو يطال بشكل من الاشكال، وبالتأكيد، البنيان الداخلي لكل حزب وكل فصيل تحرري او ماركسي وشيوعي في عالمنا.. يطاله واقعيا وسياسيا وفكريا، ويطاله كذلك في صلب النظرية على السواء.
وكأني سمعت مهدي يتساءل بأسى: ولكن هل في مقدور الجهاز الحزبي عندنا أن يولى بعض اهتمام فكري لهذه المسألة الكبرى؟...
وإذا كان الكثيرون، كما أظن وأعرف، لا يضعون هذه المسألة في دائرة الاهتمام الفكري الفعلي، متوهمين انها مسألة تخص الآخرين أساساً، وأن ليس لنا ان نُتعب الفكر في البحث فيها.. واذا كانوا ايضا لا يولون اهتماما جديا، وجداليا، بما كتب ونُشر عندنا من دراسات ومقالات وتحليلات في هذا المجال للتعرف على جوانب الخطأ في التجربة الاشتراكية المنهارة، وهي كتابات جديرة بالتفكير والتأمل والنقاش والجدال والاضافة ومواصلة البحث.. اذا كان ذلك كذلك، ومع الركون الى الاستمرار هكذا.. فهل يظل في مقدور الحزب ان يبحث جديا، على صُعد الفكر والنظرية في اخص قضاياه الداخلية والاشكاليات النظرية التي تطاله هو كبنيان قابل للتطور والفاعلية والتأثير؟
كأني سمعت مهدي يقول هذا كله، بكثير من الأسى.
وأحسست كأنه يذكّرني، أيام كنا في مقر مجلة ((الطريق))، وفي الندوات الفكرية الداخلية والعامة، التي تعقدها منظمات الحزب او تدعو إليها.. كنا نكوّن شبه ((ورشة فكرية)) طالما نادى مهدي بترسيخها وتطويرها لتصير فعلا ((ورشة فكرية عربية للبحث الماركسي المشترك))، ومركز أبحاث، ولو بأقلّ القليل، فيكون من شأن هذا ان ((تتوسع ((قاعدة المعرفة النظرية)) في صفوف المناضلين من أجل التغيير، وأن تظل النظرية نضرة، خضراء، اي: متجددة وتنفتح على كل جديد.
ذلك ان مهدي كان يؤكد، دائما، على القول بأن الحركة الثورية لا تستقيم ولا تنتصر، من دون نظرية ثورية.
.. فهل الحزب، الآن، كجهاز او كبنيان حي، يرى فعلا: ان الحركة الثورية لا تستقيم من دون نظرية ثورية؟.. وهل هو، في سبيل هذا، يعمل فعلا عبر الكتابة والتثقيف والنشر، وعبر الاهتمام الفعلي بما يُكتب ويُنشر هل يعمل على ((توسيع قاعدة المعرفة النظرية))، كما كان مهدي يرى، وكما تقضي مصلحة تماسك الحزب وتطويره وانتشاره في الناس، وكما يقضي المنطق السليم؟
أخشى ان يكون الجواب موجعا، يا مهدي!
أيام كان مهدي في حومة الكتابة والتأسيس لعمارته الفكرية، بدءا بكتابه الاول ((مقدّمات نظرية...))، كان البعض منا يعيب عليه التعقيد والغموض والجمل الطويلة وصعوبة القراءة!.. فكان هو يعيب على هذا البعض ((كسل القراءة الآتي من كسل الفكر)).
(تريدون التوصل الى القراءة ((السهلة))؟.. اذن، شاركوا في التفكير الصعب!) يقول مهدي، ويمضي في الكتابة.
ومع الايام، واحتدام الجدال، والاندهاش أمام جديد يحمله فكر مهدي، كانت القراءة تلين، والفكر يتوضّح.. والنقاش يدور...
كان هذا أيام زمان.. ايام بدايات التأسيس ((للورشة الفكرية))، وتكاثر المشاركة في الكتابة في الفكر والنظرية، وفي تمييز مفاهيم النظرية.. والممارسة السياسية، والنشاط العملي.
وكان مهدي لا يزال بيننا.
ولكن، مع مضي السنوات، وتتالي الانهيارات والهزائم، وهي تتطلب منا في الحزب خاصة تزايدا استثنائيا في تشغيل الفكر، شهدنا ونشهد منحنيات معاكسة: فقد تزايد الانشغال بالأشياء الصغيرة، بالمكاسب التي ليست بمكاسب، بالتنافس على المنصب الحزبي بديلا من التنافس والتباري في احراز الانجاز الفكري!
الفكر يصير الى التكاسل.. فاذا أمعن يصل ليستقر في الكسل!
اما القراءة فتصير، غالبا، من ذكريات الماضي (قرأت منذ سنوات...).. ويسرد عليك المتباهي بعض ما ((يتذكره)) من قراءاته... أيام زمان!
فماذا تريد ان تقول، أيها الشاكي؟
يهمس مهدي بضيق!
أريد ان أقول: ان الكثيرين من رفاقنا، سواء الذين منهم في القمة، أو الذين منهم في المراتب الوسطى، أو الذين منهم في القاعدة (التي عقدت عليها دائما آمالك الخضراء يا مهدي).. هؤلاء وهؤلاء ليس انهم فقط يحجمون عن الكتابة (بعد ان كانوا، قديما، يكتبون) بل ان الاكثرين منهم يحجمون حتى عن القراءة ايضا... او حتى عن قول رأي ما بما يقرأون!.. وتكاد حتى مجلتك ((الطريق)) التي دخلت عامها الواحد والستين ان تتوقف عن الصدور، ليس لفقر في المادة الفكرية الثقافية التي تنشرها، بل لتكاسل في القراءة، عندنا، في صفوف الحزب بالاخص!.. ف((الطريق)) تنتشر بشكل معقول ومقبول، في مختلف البلدان العربية، وتجذب إليها العديدين من أبرز الكتاب والباحثين العرب.. أما في لبنان، فإنني أتمنّى ان أسمع من اعضاء الحزب خاصة ومن قياداته، رجع الصدى!
سبق ان أطلقت الصرخة في المؤتمر الثامن للحزب: (مجلة ((الطريق)) الفكرية مهددة بالتوقف!).. ذكرت الأسباب، اقترحت وأساليب لإنقاذها، و((تعويمها)).. صفّقوا طويلا، ففرحت!.. ولكن يبدو ان الاكثرين اكتفوا، حتى الآن، بذلك التصفيق الطويل!!
ولا ادري، يا مهدي، كيف ان هذا الحوار الذي أردته معك، وعنك، قد مال بي الى الحديث عن حال الفكر في الحزب، وحال ((الطريق)) مع منظماته وأعضائه.
لم ينحرف بك الحديث يا محمد (قال مهدي) فالكلام عن الفكر وعن ((الطريق)) هو كلام عنّي وعن فكري وعن طموحي الى ((توسيع قاعدة المعرفة النظرية في الحزب)).. وما أعرفه يا صديقي: ان ((الطريق)) كانت دائما على جدول أعمال القيادة في الحزب.
.. وأرجو لها، يا مهدي، ان تعود الى جدول الأعمال هذا، أمام القيادة وأمام المنظمات.. فإذا أريد ل((الطريق)) ان تستمر في الصدور، والاستمرار في ذلك الجهد لتوسيع قاعدة المعرفة النظرية هذه، فالمسألة تحتاج فقط: الى توسيع قاعدة الاشتراكات في ((الطريق)) والتوصل الى زيادة عدد المناصرين.. ثم الاسهام، أساساً، في تحرير ((الطريق))، كتابة وتحاورا وانتقادا وإبداء رأي.
وبدون ((الطريق)) (وهي الوسيلة الاعلامية الفكرية المكتوبة الوحيدة الباقية، في اطار هذا التيار..) فكيف يمكن، بالله عليك وعليكم، ان نعمل على ((توسيع قاعدة المعرفة النظرية))؟
((ماذا يعني لك مهدي عامل، الآن؟)).
هكذا صاغ رفيقي سؤاله، أساسا، وهكذا أحاول صوغ الجواب، من خلال ما أرى وما أعرف وما أعاني: لو كان مهدي بيننا لما سمح للهزائم وللخيبات وللانهيارات بأن تدفع بفكره الى التكاسل او الكسل، بل العكس تماما كان سيحدث، لأن العكس تماما هو المطلوب للحزب وللشعب وللبلاد، وللفكر ان يواصل جهده وتحركه.
مهدي أصاب كثيرا، وأخطأ كثيرا، ولكنه اجتهد وأبدع.. شغّل فكره وعقله في أحلك الظروف وأعقدها.
ومهدي يعني لي الآن: الشعور بالفقدان.. فقدان ان يكوّن الحزب، وسائر حركات الاستنارة والتغيير، ((ورشة فكرية)) هي الضرورية، الآن تحديدا، ولكنني أشعر كأن هذه ((الورشة الفكرية)) المطلوبة تتباعد وتتباعد، عن البؤرة حيث الصراع يدور لا على المواقف والاجتهادات الفكرية/ السياسية، بل على المواقف والنزعات الشخصية، والنزعات الموقوتة، وبعض المناصب!
.. فما هو موقفك أنت، أيها الرفيق مهدي؟
لأول مرة أرى الأسى في وجه مهدي يتمازج بالتشاؤم!
أما أنا فليس بمقدوري ان أتشاءم تماما.
وأعرف من مهدي وعن مهدي: ان تشاؤم العقل محكوم بالأمل، ولعله ان يكون محكوما، عند المناضلين، بتفاؤل الارادة.
أمتشائم أنت أم متفائل؟... أم أنك، حسب صياغة صاحبنا العتيق اميل حبيبي: ((متشائل))؟..
ولكن مهدي كان قد ذهب، دون ان أسمع منه جوابا...
©2002 جريدة السفير