يُقال بان السياسة هي فن الممكن . أي انها فن استخدام الموارد المتوفرة , والعلاقات القائمة بين القوى السياسية , والأقتصادية , والأجتماعية , المختلفة والمتخالفة , داخلياً وخارجياً , في زمن محدد , للحصول على النتائج المرجوة بشكلها الأفضل .
وفي هذا المعنى يأخذ التنافس والصراع السياسي بين الأحزاب والفرقاء المختلفين , معناه . فهم يجتهدون ليثبت كلٍ منهم على انه قادر على تحقيق الأفضل , من خلال الواقع المعاش والمعطيات المتوفرة .
اما مردود هذا الأفضل , فيعود على الشعب عندما يكون الحاكم مكلفاً منه , او يعود على الحاكم وبطانته , عندما يكون الحاكم سالباً للسلطة و متسلبطاً عليها , بالقوة الزجرية . كما هو الحال في واقع البلدان العربية كلها دون استثناء .
فمن خلال الفهم السابق للسياسة ووظيفتها , نرى ان النهج السياسي لأي حكومة في العالم , هو بناء مؤلف من جزئين مكونين متكاملين هما : السياسة الداخلية , والسياسة الخارجية . حيث تلعب السياسة الداخلية فيه الدور الأساس القاعدي , وتلعب السياسة الخارجية فيه الدور المتمم والمعزز لمشروعات الداخل .
فالسياسات الخارجية للأمبراطوريات المختلفة , وعلى مر الزمن , وبغض النظر عن شكل البناء الداخلي لمجتمعاتها , كانت ومازالت وستبقى , تعمل على جلب المنافع من الخارج لأشباع حاجة مجتمعاتها المرفهة , وحاجة مؤسساتها الأقتصادية العملاقة للنمو والتوسع وتحقيق المرابح الهائلة , ( في العصر الحالي الصناعي ) تلك الأهداف التي لم تعد مجتمعاتها قادرة على تحقيقها لها . ويكون ذلك سلمياً , عن طريق ايجاد حكام مطواعين في دول العالم الأخرى المستهدفة والأقل نمواً , والغنية بمواردها, أولئك الحكام المستعدين لتقديم المطلوب من شعوبهم وبلدانهم , بمقابل حصول اولئك الخدّام على فتات مائدة الأمبراطور , وحمايته لهم من شعوبهم . وان لم تنجح الطرق السلمية في تحقيق الأهداف المرجوة , فلتكن الحروب والغزوات بصفتها امتداداً للسياسة الخارجية الأمبراطورية .
بمقابل تلك السياسات الأمبراطورية , تنهج الدول الأخرى في الحقل الخارجي سياستها الخاصة والتي تنسجم بها مع طبيعة الحكم في تلك البلدان . فالأنظمة الفاسدة الأستبدادية والتي استولت على الحكم عن طريق العنف بعد حصولها على مباركة القوى الدولية الفاعلة , تتحول الى اجرام تدور في فلك قوة امبراطورية , تستظل بها , متنازلة عن سيادة الأمة التي تحكمها , تنتقص من حقوق مواطنيها لأشباع رغبات سادتها .
اما الأنظمة المنتخبة فتعمل على بناء علاقات خارجية متوازنة مع القوى العالمية , تنشد من خلالها المنفعة المتبادلة ومستندة بالأساس الى تفويض شعوبها , وثقتها , وحمايتها .
ان شكل العلاقة القائمة بين الحاكم والمحكوم , هي التي تحدد مدى وطنية وتقدمية الحاكم , وبالتالي فان النهج السياسي الذي يّتبعه الحاكم في الداخل تحدد مدى وطنية وتقدمية سياسته الخارجية وليس العكس . فالوطنية والتقدمية ليست مجموعة من الأقوال والشعارات الجوفاء والخطب الحماسية الرنانة وايام عمل " وطني طوعي " جوفاء يساق له العاملون بالتهديد والوعيد , يكتسبها من له القدرة الأكبر على ملئ الفضاء الخارجي بضجيج ترديدها صباح مساء . بل هما التزام اولاً , وممارسة ثانياً, ووصول الى الغايات ثالثاً , لقضايا الوطن والأنسان .
فالوطنية لا بد لها ان تؤدي الى استقلال الوطن , وتحرير كل أراضيه , و الى بناء الوحدة القومية بحالتنا نحن كعرب , والى منح الأقليات القومية التي تعيش معنا كل حقوقها القومية دون انتقاص .
كما ان التقدمية لا بد لها ان تعني ازالة الفوارق الطبقية الهائلة بين افراد الشعب , والقضاء على الفقر والأمراض والجهل , كما انها تعني التطوير الأجتماعي وازالة الحواجز بين الناس وتعميق الروابط الأجتماعية بين الجماعات والأفراد , ذاك كله ليشكل أرضية مواتية لتوحد الناس وانصهارهم في بوتقة وطنية واحدة .
لقد سار نظام البعث بانظمته وروؤسه المتعددة منذ عام 1963 وحتى الآن , مسيرة متعاكسة تماماً مع ما اعلنوه من اهداف لنظامهم عبروا عنه بالوحدة والحرية والأشتراكية . فالوحدة التي سعوا ليها اوصلتنا الى مزيد من التجزئة والعزلة والتقوقع على الذات والرفض من الآخرين , كما أدت الى مزيد من الشروخ العمودية في داخل المجتمع السوري , مازالت السلطة حتى الآن تكابر باعطاء نفسها الحق بأن تفعل ما فعلته بحجة انها كانت تصارع أحتياطي الأمبريالية في الداخل , كما قال السيد فايز عز الدين, عضو اتحادي الكتّاب والصحفيين العرب , في كتاب ( حوارات في الوطنية السورية ) ( أعداد وحوار لؤي حسين ) بالوقت نفسه الذي يُقر فيه السيد رئيس الجمهورية بان الولايات المتحدة ( وهي الأمبريالية المقصودة بكلام السيد فايز عز الدين ) ليست عدوة لسوريا , وان التعاون مع وكالة المخابرات المركزية الأمريكية تعاون واسع وسيمتد لمدة طويلة ( مقابلة الأسد مع نيويورك تايمز في 31 تشرين الثاني 2003 ) . وقادت حريتهم التي سعوا اليها الى اقتطاع جزء غالي من ارضنا وتم الحاقها بكيان العدو بعد هزيمة نكراء مُنيت فيها سورية اثناء حكم البعث لها . وطالت هذه الحرية علاقاتنا في داخل الوطن فاصبح المواطن لا يملك حرية انتخاب رئيس بلديته ناهيك عن رئيس جمهوريته , كما لايملك حريته في حضور محاضرة ثقافية والا أصبح متهماً بشتى أنواع التهم التي تشكك بوطنيته ونواياه . وقادت اشتراكيتهم أكثر من 60% من الشعب السوري ليعيش تحت خط الفقر , و ليتشاركوا بالفقر والعوز والحرمان . كما قادت 5% من أهل النظام ليحوزوا على 85% من الدخل القومي .
لقد ترافقت هذه السياسة الداخلية المزرية خلال الثلاثين عاماً الممتدة من عام 1963 الى مرحلة انهيار الأتحاد السوفيتي , بعلاقات تنائية مع السوفيت تناوب عليها كما يُقال هبة ساخنة وأخرى باردة , سعى الأتحاد السوفيتي وقتها على اضعاف النفوذ الأمريكي في منطقتنا , وسعى النظام من خلال ذلك على الحصول على كل صنوف الدعم العسكري والأمني بهدف تعزيز قوة النظام , فهل كان لنا ان نصف النظام يومها بانه تقدمي لمجرد انه كان يلهث لتأمين حماية له عن طريق السوفييت ؟ وان لانرى كل تلك الخرابات التي خلقها النظام في كل جوانب الحياة ؟
واليوم , وبعد الهزائم العسكرية المتكررة , الصريح منها والمستور , التي ُمني بها النظام البعثي اعوام 1967 – 1973 – 1982 . ناهيك عن هزائم وجرائم توأمه في العراق . وبعد رفضه أو عجزه عن تحرير الأراضي المحتلة بعد توقيعه على اتفاقيات فصل القوات مع العدو الصهيوني , على يد كيسنجر في عام 1974 , والتي لا يعلم الا الله وموقعي الأتفاقية مضمونها , وبعد تدميره للمقاومة الفلسطينية , والحركة الوطنية اللبنانية , وخلق بدائل لها تأتمر بأوامر أجهزة الأمن السورية , و بعد ان أغلق أذنيه عن كل الدعوات المخلصة للأنفتاح وتقوية البلد وتحصينه بشعبه ,و بالوقت الذي يذل نفسه بدعوته شارون للتفاوض , وهذا يتمنع ويتهمهم بالكذب . وبعد ان قدم النظام خدماته الأمنية للمخابرات الأمريكية , باعلان علني واضح وصريح من رأس النظام , ولهاثه لعرض خدمات أكثر واكبر استرضاءً لهم ليحافظوا لهم على سلطتهم , هل يجوز لنا ان نصف هذا النظام بانه وطني
ان كلام البعض , وكتابات البعض الآخر , سواء ان كان ذلك صادراً عن طيب نية أم مقصودة , على أن هناك موقف موحد للمعارضة السورية والنظام السوري من التهديدات الخارجية , هو كلام وكتابات ظالمة ومجحفة بحق المعارضة , لأن التباين في موقفيهما واضح وجلي لكل من يريد ان يرى . فالمعارضة تعمل بامكانياتها المحدودة لتوحيد الصف الداخلي ضد الأستبداد الداخلي والأستعمار الخارجي . بينما تعمل السلطة على استرضاء الخارج للحفاظ على غنيمة السلطة ولاستمرار نهبها وتدميرها للبلاد , مقامرة من اجل ذلك باستقلال البلاد مقابل مصالحها الأنانية الضيقة .
ان البادرة العملية التي اتخذها شباب مدينة داريا في اوائل عام 2003 , والتي تلخصت في مقاطعة الفاسدين من موظفي الدولة ان لم يرتدعوا عن أفعالهم بالموعظة والنصح , ومقاطعة بضاعة الأعداء بالتوقف عن تدخين سجائرهم , وبدء الأستغناء عن السلطة وخدماتها تمهيداً لألغائها , عن طريق البدء بالأهتمام ببيئة المدينة وتنظيفها وتنظيمها . هي بادرة رائدة يجب ان تتكرر في كل المدن السورية , كجزء من تحرك شعبي واسع , يفرض التغيير على النظام ويضع اللبنات الأولى على طريق حماية الأستقلال الوطني الذي يُفرط فيه النظام .
لقد وصل الى مسامع النظام , مواقف القوى المعارضة الديمقراطية بشقيها الداخلي والخارجي من مسألة التدخل الأمريكي في شوؤننا الداخلية . وعمل النظام كعادته على استغلال مواقف المعارضة تلك لتحسين مواقعه التفاوضية مع الأمريكان للحفاظ على نظامهم وليس للحفاظ على الوطن . اتى ذلك في مفاخرة السيد رئيس الجمهورية امام مراسل نيويورك تايمز عندما تحدث عن موقف المعارضة حيث قال " سأقدم لك وجهة نظر المعارضة السورية الموجودة في كل مكان، سواء كان داخل سورية او خارجها. هم لايؤيدون النظام السوري، ولا الدستور ولا الحكومة، ولكنهم ضد ما يقوله الاميركيون بخصوص نشر الديمقراطية في العراق. اقصد انهم ضد تصدير الديمقراطية بالقوة او بأي وسيلة اخرى. هذا هو رأيهم، وهو في غاية الوضوح ويمكنك العثور عليه في التلفزيون والصحف. يمكنك سؤالهم. "
وعلى الرغم من ان " هذا هو رأيهم وهو في غاية الوضوح " بالنسبة للسيد رئيس الجمهورية , الا انه مازال " غير واضحاً " حتى الآن بالنسبة له هو مطالبة تلك القوى بتحصين مناعة البلاد عن طريق الأنفتاح والغاء قانون الطوارئ والأفراج عن المعتقلين وغيره وغيره .
ان الأستمرار بالمطالبة بالغاء قانون الطوارئ وغيره من المطالب الديمقراطية بعد ثلاث سنوات ونيف على استلام سيادته لمقاليد الأمور , لم يعد له الا معنى واحد وهو ان هذه القوى المطالبة عاجزة عن تحقيق مطالبها وهي تنتقل الى مواقع الأستجداء بدلاً من النضال الوطني والديمقراطي . والا فان الأنتقال الى ما فعله شباب داريا وارعب النظام هو البديل الصحيح .
27122003