خلال قرون من تطور الفكر الفلسفي والاجتماعي المتمحور حول العقل ، بقيت النظريات التي ساهمت في تقديم تفسير للعقل مستنبطة من بدائيات التفكير البشري وخاصة الأساطير والميتافيزيقيا والبدايات الأولى للفلسفة المتأثرة جدا بالمثالية الأفلاطونية. ومع تطور الفكر البشري علميا من خلال الفلسفة العربية الأندلسية التي ركزت على العقل ومن ثم دخول عصر النهضة الأوروبي وسيادة فكر التنوير انقلبت المفاهيم بشدة لصالح العلم فكان المنطق ومنه الرياضيات ومن الأخيرة تم اشتقاق الفيزياء وقوانين الحركة النيوتونية التي ربطت بين المادة والطاقة. وقامت الفيزياء بفتوحات هائلة في التعرف على طبيعة الكون وتركيبه والقوانين المادية السائدة فيه. وكانت القوانين النيوتونية أساسا لا يستهان به في استخلاص النظرية الماركسية والمادية الجدلية. ومع تطور الفيزياء تطورت الكيمياء لاحقا وربطت بين قوانين الحركة المادية الفيزيائية والمركبات الكيميائية العضوية واللا عضوية وأعطت أول أسس البيولوجيا الجزيئية التي امتلكت زمام الأمور لاحقا وبدأت بصياغة مفاهيم الحياة من جديد بإعطاء تفسيرات وراثية تتعاظم قوتها ومصداقيتها يوما إثر يوم وتغطي باكتشافاتها العديد من الميادين غير المفسرة وخصولها مؤخرا على الخريطة الوراثية الكاملة للإنسان ( الجينوم البشري) ودخول عصر الاستنسال Cloning وما يترتب عليه من تغيرات غير مسبوقة في حدتها وجوهريتها هلى الهوية الإنسانية. وبناء عليه بات علم البيولوجيا الاجتماعية Sociobiology من أسرع العلوم نموا وتطورا وتهديدا لكل النظريات الشمولية المعتمدة على التجريد والمثالية بالتغيير والتبديل.
في البدء كانت… الغريزة:
يكمن أساس الحياة في المورثات ( الجينات) Genes التي تحمل في تركيبها الكيميائي والبيولوجي جميع الصفات المميزة لكل الكائنات الحية ابتداء من الفيروسات ومرورا بالديدان وانتهاء بالإنسان… أكثرها تعقيدا.
والخاصية التي تمتاز بها جميع الكائنات الحية هي الغريزة Instinct والتي تعرف بأنها " ردود أفعال سلوكية مبرمجة وراثيا ( غير مكتسبة) تكون دافعا للكائن الحي على البقاء والتكاثر". والغريزة قد تكون للتغذية أو الجنس أو الدفاع عن النفس أو رعاية الوليد وهي موجودة لدى أكثر الكائنات الحية بدائية. وعند ارتقائنا للسلم التطوري نجد تقدما وتعقيدا في الغريزة تساهم في القيام بنشاطات معقدة ذات برمجة دقيقة للسلوك الدفاعي أو التكاثري يحدد بوضوح أن الغريزة ميزة لا يمكن فصلها عن الكائنات الحية منذ بدايات النشوء. فالغريزة اذا سابقة على الوعي وعلى العقل وهي المركب الجوهري للحياة، ولا مهرب منه ومن تأثيره.
ثم كان الدماغ:
شهدت السلسلة التطورية للحياة نموا متواصلا للأجهزة العصبية البسيطة للخلايا الانعكاسية في الكائنات الدقيقة وتكونت تجمعات للخلايا العصبية في الجهة الأمامية من بعض الكائنات اللافقارية مع تقادم مسيرة التطور حيث أدى هذا التركز والتعقيد التدريجي للأجهزة العصبية الى تكون الدماغ Brain كعضو مركزي يسيطر على كل النشاطات التي يقوم بها الكائن الحي. وكان الدماغ البدائي ( في اللافقاريات والفقاريات البدائية) بمثابة " تجميع" للخلايا العصبية المتعلقة بتنظيم الحواس الرئيسية كالرؤية والسمع والشم وغيرها. وكانت الوظائف الدماغية لا تتجاوز إلا نادرا ردود الفعل المباشرة تجاه المؤثرات الحسية البيئية وان كانت ملكة التعلم Learning والذاكرة Memory تواجدت بشكل بسيط لدى هذه الكائنات.
باتت المسألة الآن تتمحور حول تطور وتعقيد مطردين للدماغ حتى الوصول الى الدماغ الإنساني العادي الذي يضم بلايين الخلايا العصبية والتشابكات وتخصصية في الوظائف مقرونة بآليات توافق شاملة لكل أجزاء الدماغ حتى أصبح هذا العضو مكمن كل المفاهيم والعمليات التي جعلت الإنسان يطلق أسئلته الكبرى من عقالها: من أنا؟ ما هو العالم؟ ما هو مصيري؟ ما هي الحياة؟ وغيرها من التساؤلات التي جعلت الإنسان يكتشف كل ما هو حوله بحثا عن الإجابة، ولما لم يقتنع بما وجد عاد الى ذاته ليكتشف عقله من جديد وبأدلة مادية ملموسة هذه المرة.
ولكن… ما هو العقل؟
اذا كان " الدماغ" عبارة عن كتلة تشريحية مادية معرفة تحتل موقعا وحيزا مكانيا وتخضع للقوانين الزمانية فان " العقل" كما أسلفنا يبقى مفهوما مراوغا عصيا على التعريف المكاني والكياني. فلا يمكن أن نعتبر أن " العقل" هو " الدماغ" فالفوارق بينهما من الصعب التغاضي عنها وتصل عند بعض الباحثين الى الفصل الكلي من خلال نظرية ثنائية العقل والجسد Mind- body Dualism .
وبالإضافة الى مفهوم " العقل" تبقى مفاهيم أخرى أيضا غير محددة مثل " النفس" Psyche و" الروح" Spirit كما يبدو من المهم تحديد تعريف بيولوجي للوعي والذكاء والإدراك والفكر وكل هذا لا يتم إلا بتعريف العقل أولا.
والعقل، بالتعريف البيوسايكولوجي العام هو " الوعي الذي ينتج في الدماغ ويظهر من خلال الفكر والإرادة والإدراك والذاكرة والعواطف والأحلام". وكل هذه الملكات العقلية لها تركيبها البيوسايكولوجي الواضح والمتميز والذي يمكن دراسته وتقييمه مخبريا وفق قواعد علمية صارمة ومجموع وظائفها التراكمية يشكل العقل، ويمكن أن يتم تقسيمها على النحو التالي:
أولا: الفكر:
يعرف الفكر Thought بأنه الآلية التي يتم من خلالها التفكير والذي يحتاج الى إلى الحواس Senses والتي تستقبل الإشارات والمؤثرات البيئية المحيطة بطريقة كيميائية أو فيزيائية وتنتج عنها سيالات عصبية كهربائية تنقل إشارات الحواس الى المناطق المختصة بمعالجتها في الدماغ حتى يتم التعامل معها أو يتم تخزينها في الدماغ كذاكرة. والعنصر الثاني في الفكر هو قدرة التعلم Learning والتي تعني " تنظيم المعرفة الواردة من الحواس الى الدماغ بأساليب تصنيفية تكفل استخدامها آنيا أو لاحقا في السلوك". والتعلم يتضمن حفظ المعلومات والخبرات في أماكن ومواقع و / أو جزيئات خاصة في الدماغ. ويحصل التعلم عن طريق تحوير Modification بعض الارتباطات والتشابكات العصبية في الدماغ أو تغيير في ميزات وخصائص بعض المركبات داخل الخلية العصبية الدماغية. وهذه التغيرات تتسبب بها المرونة الفسيولوجية في مجموعات الخلايا العصبية، فالمعلومات الجديدة تضاف الى المعلومات السابقة. ويزداد عدد الارتباطات العصبية بين الخلايا كما يزداد حجم نهايات الخلايا العصبية المرتبطة بعملية نقل المعلومات من خلية الى أخرى. ومعظم هذه التحويرات والتعديلات تحصل عادة في القشرة الدماغية وهي الجزء الأكثر تطورا في الدماغ.
ثانيا : الإدراك Cognition
يمكن تعريف الإدراك بأنه " العملية التي تنظم بواسطتها المستقبلات الحسية وتتشكل في خبرات ذات معنى". والإدراك يتضمن اليقظة والتحري نحو المؤثر، أي توجيه أداة الاستقبال الحسية تجاهه، والتمييز بين منبهين مختلفين وبتصفية المعلومات القادمة الى القشرة الدماغية والتعرف على هذه المستقبلات وتفسير الرسائل الواردة منها ومن ثم بناء المفهوم الصحيح عنها. ويتضمن الإدراك في ثناياه الذكاء Intelligence والمشاعر Feelings وبناء الأفكار Ideas التي هي نواتج النشاط العقلي المخزونة داخل تركيبه البيوسايكولوجي.
ثالثا: الذاكرة والأحلام Memory and Dreams
تتكون الذاكرة كما حسب النظرية العلمية الأكثر قبولا، من خلال تخزين المعلومات الواردة الى الدماغ في النظام الطرفي Limbic System في القشرة الدماغية حيث دلت الأبحاث على أن تخريب بعض الأجزاء في هذا النظام يؤدي الى فقدان جزئي أو كلي للذاكرة. والذاكرة تخزن، كما يعتقد باحثو فيزيولوجيا الدماغ حاليا، عن طريق تفاعلات كيميائية إلا أن هذه الذاكرة تبقى مشتتة وغير منظمة في تركيبها ولا بد لها من إعادة ترتيب. وهذا يحدث عادة أثناء الأحلام والتي دلت الأبحاث الحديثة أنها مفيدة لترتيب المعلومات الواردة حسيا أثناء النهار. فأثناء النوم لا ترد أية مؤثرات حسية جديدة الى الدماغ من البيئة المحيطة، الأمر الذي يساعد على تنظيم المعلومات الموجودة في الدماغ أصلا وترتيبها وتبويبها من خلال الموجات الدماغية " ثيتا" والتي ترافق عمل الشبكة بين القشرة الدماغية والنظام الطرفي. كما يعتقد أن للأحلام وظيفة في " نسيان" الأجزاء غير الهامة أو الهامشية من المعلومات الواردة للدماغ.
رابعا: الإرادة Will
يتميز الإنسان دائما عن بقية المخلوقات بإرادة واضحة المعالم وقدرة على الاختيار بين البدائل ودراستها والطموح وراء تحقيق المفيد منها.وهذا يتطلب بطبيعة الحال تعاون وامتزاج جميع الملكات العقلية التي سبق ذكرها كالوعي والفكر والتعلم والذاكرة والذكاء والعواطف والأحلام والخيال. وقد تكون لبعض الحيوانات إرادة " آنية" ظاهريا لكنها قصيرة الأمد ومبرمجة بالغريزة أساسا لا بالاختيار الواعي.
والإرادة، قد لا تتجاوز حكم الغريزة والجينات في الباطن، ولكنها تتحقق ضمن مجال من الوعي بالذات يجعل الإنسان " يحس" بأنه يمتلك حرية الاختيار على المدى البعيد. إلا أن التحليل الدقيق لدوافع الاختيارات في الغالب لا يتجاوز غريزة البقاء والمصلحة الذاتية. وحتى سلوك الغيرية أو الإيثار أو التضحية فإنه يهدف الى بقاء النوع أو الجنس أو العائلة أو الخط الوراثي الجيني.
مثل هذا التحليل الببولوجي المتين لنظريات الفكر وتركيب العقل بات يشكل تحديا كبيرا أمام الفلاسفة والمفكرين المثاليين وأصحاب النظريات الشمولية في محاولتهم لفهم العقل وطريقة، والانعكاسات الاجتماعية والسياسية لهذا الفهم والتي سيتم تناولها في المقال التالي.