لم يخطئ الأخ العقيد معمر القذافي حين قرر التخلي عن خططه لإنتاج اسلحة دمار شامل أو تدمير ما بحوزته منها. فهذه الأسلحة باهظة الكلفة لن تستخدم أبداً، وبدلا من أن تحمي الجماهيرية العظمى من أعدائها فسوف لا تكفي أية جهود عظمى تبذلها الجماهيرية لحماية هذه الأسلحة. هذا ما أثبته الدرس العراقي بجلاء تام.
لكن القيادة الليبية مخطئة كل الخطأ إذا اكتفت بالتخلي عن أسلحة الدمار الشامل ولم تُدرِج هذا التخلي في سياق استراتيجية وطنية لإعادة بناء الدولة والمجتمع الليبيين اللذين دمرتهما 34 سنة من حكم أقدم حاكم عربي.
ولا يمكن لهذه الاستراتيجية إلا أن تكون تحولا في مفهوم الدولة والسياسة والقوة باتجاه التعددية السياسية والحياة الدستورية وإرساء نظام انتخابي حقيقي، رئاسي وبرلماني. إن نزع السلاح دون نزع سياسة القوة في الداخل الليبي والخارج المجاور لن يكون غير استسلام لأقوياء آخرين. وبعد أن تخلت عن أسلحتها لن تستطيع الجماهيرية أن تتخلى عن تطلعاتها الامبراطورية و"عظمتها" بينما تحافظ على نظامها السياسي الموروث دون تغيير.
لكن بلى، هذا ممكن: أن تتحول الجماهيرية إلى "دولة وظيفية"، اي أن تضمن لنفسها عملا في المشروع الأميركي لترتيب "الشرق الأوسط". ونجازف بتصور أن الوظيفة الأرجح للجماهيرية ستكون الضغط على مصر ومحاصرتها من أجل إنهاكها أكثر وإقعادها عن التطلع إلى القيام بدور يتجاوز حدودها.
ليس غير الاستناد إلى قوة عظمى حقيقية يتيح للجماهيرية تمديد "عظمتها"؛ مم تشكو عظمة بالوكالة؟ وليس غير هذا الاستناد يغنيها عن تقديم أي كشف حساب أمام الليبيين. وليس غير هذا الاستناد ايضا يمكن الجماهيرية من أن تحظى بشهادة ديمقراطية دون أي تحظى "الجماهير" بأي مكسب ديمقراطي.
ألم يكن لافتا أن خطاب بوش عن الديمقراطية في الشرق الأوسط لم يأت على ذكر ليبيا رغم أنه استطاع ذكر عمان والبحرين والمغرب والسعودية...من جهة وإيران وسورية من جهة أخرى؟ كانت الجماهيرية في مطهر المفاوضات التي انتهت إلى "الاعتراف" بأسلحة الدمار الشامل والتخلص منها. وربما بدقة أكبر كان ضباط المخابرات الأميركية والبريطانية يجالسون "قائد ثورة الفاتح العظيم" الذي كان "يقوم بواجبه" و"يقدم معلومات عن برامج أسلحة لم تكن الاستخبارات الغربية على علم بها" (السفير، 22/12/2003).
لقد قررت طرابلس "بالاتفاق مع واشنطن ولندن وبإرادتها الحرة" التخلي عن برامجها لأسلحة الدمار الشامل حسب بيان للخارجية الليبية(الجزيرة نت، 27/12/2003). واشنطن ولندن و...إرادة حرة؟! مؤكد أنه "لا صلة لذلك بالقبض على صدام وغزو العراق" من قبل الحليفين ذاتهما!
السلطة مقابل السلاح
في آب من عام 2002 قضى سيف الإسلام القذافي أسبوعين في بريطانيا أقام خلالهما في أفخم فنادق لندن. وتطوع وقتها بالقول إنه ليس صاحب عقلية ملكية رغم أنه يقيم في فندق ملوكي. وهو اليوم يقول إن "العملية (التفاوضية) بدأت قبل حوالي عام حين فاتحه ممثلون أميركيون بأن والده يمكن أن يكون متأكدا من أنه ليس ثمة جدول أعمال ضده". ويوضح أنه حين "تأكد العقيد القذافي أن الأميركيين لا يتآمرون عليه قرر مناقشة جميع المخاوف الأميركية ... وقال لهم الآن يمكننا أن نثق أحدنا بالآخر ويمكننا أن نفتح جميع الملفات، بينها ملف أسلحة الدمار الشامل" (السفير، العدد نفسه). لا يستبعد أن يكون الأخ العقيد قد حظي بضمانات تخص توريث كرسيه إلى سيف الإسلام في ذلك الفندق الملوكي اللندني. ستبدي لنا الأيام ما نجهل.
لكن لنتوقف عند ما نعلم: يربط سيف الإسلام بين "فتح جميع الملفات"، بما فيها أسلحة الدمار الشامل وبين اقتناع القذافي بأن الأميركيين لا يتآمرون عليه وليست لديهم أجندة خفية ضده. بعبارة أخرى، أقر الأميركيون القذافي على سلطته فأقر لهم بأسلحته.
السلطة، تلك هي المسألة!
وتلك هي نقطة الانعكاس أيضا. فأولوية السلطة تقود بمنطقها الطبيعي في هذه الأزمنة المتغيرة إلى الالتحاق بالامبراطورية. ولعله من باب تعميد الولاية الجديدة، وإقرار ولي العهد على ولايته، أعلن سيف الإسلام القذافي أن الرئيس الأمريكي جورج بوش ورئيس وزراء بريطانيا طوني بلير سيقومان بزيارة ليبيا خلال سنة 2004. ولاية في الامبراطورية أبقى من نظام عالمي ثالث! وإنما لحماية هذه الولاية سيثبت الحليفان أفتك اسلحة الدمار الشامل: سيف الإسلام القذافي.
حاجة للحب!
أعلن رئيس مؤسسة القذافي العالمية للجمعيات الخيرية، سيف الإسلام ذاته، أن واشنطن "تعهدت حمايتنا من أي اعتداء". لا يستعجلن أحد بالرجم! فليس هذا أول سيف للإسلام تحميه واشنطن. لكن الرجل كذب "وجود مشاورات حالية لعقد اتفاق دفاع مشترك" مع الولايات المتحدة. الأمر وما فيه أنه "كانت هناك مشاورات سابقة لعقد اتفاقات أمنية وعسكرية متنوعة مع الطرف الأمريكي". هذه المشاورات السابقة "ستؤدي إلى اجراء مناورات عسكرية مشتركة في المستقبل" بين النظام العالمي الثالث والنظام العالمي الأول. سابقا وفي المستقبل فقط؛ حاليا لا شيء!
"ستكون هناك اتفاقيات تعاون مشترك عسكري وأمني مع الولايات المتحدة وعسكريون أمريكيون سيزورون ليبيا قريبا للاطلاع على احتياجاتها من المنظومات العسكرية المتنوعة". ينبغي أن يكون هذا مفهوما: فليبيا التي "تغيرت إلى افضل"، حسب المتكلم نفسه، "بحاجة إلى أن يحبها المجتمع الدولي" (الشرق الأوسط، 26/12/2003). من هو متحجر القلب الذي يمكن ان يفرق بين "لوبيا" و"المجتمع الدولي". عسى لن يتأخر مجلس الأمن الدولي في إصدار قرارا بـ... حب ليبيا!
"طز بأمريكا!"
قال الأب إن القرار الليبي "خطوة حكيمة وشجاعة تستحق التأييد من الشعب الليبي لتلعب ليبيا دورها العملي في بناء عالم خال من أسلحة الدمار الشامل ومن كل أنواع الإرهاب". حكمة القرار وشجاعته مسألة تعريف بحكم كون الجهة المقررة هي من هي. سيان أن يكون القرار بتفجير طائرة مدنية أو إعلان وحدة مع بوركينا فاسو أو هدر مليارات الدولارات على "النهر الصناعي العظيم". قال الأب أيضا إن "غاية ليبيا هي حفظ السلام والأمن والتقدم بالبشرية إلى الأمام".
أما الابن فقال: "أعتقد أننا في حاجة أكبر إلى هذه الصفقة من الأميركيين أو البريطانيين إذ أننا نسهم في ازدهار وتطوير أمن ليبيا". نزع الأسلحة "يطور أمن ليبيا"؟ ماذا كان هدف الأسلحة إذاً؟ ومن مول شراء السلاح وتخزينه، ومن سيمول الان نزعه؟ وما هي الصفقة؟ هل هناك شيء غير تلبية حاجة ليبيا للحب؟
من جهته أعلن حسونة الشاوش الامين العام الثقافة والاعلام في الخارجية الليبية أن "ليبيا تمهلت (في إعلان قرارها) للظروف العربية المتأزمة والوضع العربي المأساوي". "الظروف العربية" على تأزمها و"الوضع العربي" على مأساويته، فما الذي استجد حتى بارحت ليبيا تمهلها؟ "تلفن بلير"! ماذا قال؟ "أرجوكم الإعلان عن ذلك (التخلي بإرادتكم الحرة عن برامج التسلح..) لأننا متلهفون لعودة العلاقات معكم وبوش ينتظر الإعلان لانطلاق علاقات جديدة وأرحب مع ليبيا". هل لاحظتم أن الجميع، الآب والابن والشاوش، يتحدثون عن ليبيا لا عن الجماهيرية العظمى؟
ومعلوم أنه بلغ من "تلهف بوش لانطلاق علاقات جديدة وأرحب مع ليبيا" أنه قال: "يمكن أن تسترد ليبيا مكانة آمنة ومحترمة بين الدول، ومع الوقت ستتحسن علاقاتها مع الولايات المتحدة". (السنوسي بسبكري: ليبيا وسياسة التكيف غير المشروط. الجزيرة نت. 25/12/2003)
تنسب الجزيرة نت (27/12/2003) إلى صحيفة صنداي تلغراف اللندنية قولها إن التعهد الليبي جاء بعد عملية سرية أميركية كشف خلالها عن أدلة مادية تثبت محاولة طرابلس تطوير أسلحة محظورة. إذا صحت الواقعة فإنها تشبه تحقيقا من النوع الذي لطالما أجرته أجهزة الأمن (في الجماهيرية وغيرها) مع أي بائس يقع في قبضتها. نحن نعرف كل شيء عنك! لديك محظورات! يقول المحقق، فينهار الموقوف ويعترف بكل شيء، وقد "يفرغ جرابه" تماما بالتطوع بتقديم أية معلومات صدف أن عرفها حتى لو لم يسأل عنها. وقد ينصح كوريا الشمالية وسورية وإيران بالإقدام على "خطوات حكيمة وشجاعة... بإرادتها الحرة".
ما السر في ان الأنظمة التي تجعل من الواشي و"كاتب التقارير" المثل الأعلى للمواطن هي ذاتها الأنظمة التي انتهت إلى كتابة التقارير للأميركيين والبريطانيين بمواطنيها وبالقاعدة وبالجيش الجمهوري الإيرلندي؟ ما السر في أن الأنظمة التي لطالما اتهمت نظيراتها بالعمالة انتهت إلى أنظمة عميلة ومأجورة؟
السلطة، البقاء في السلطة، توريث السلطة؛ تلك هي المسألة!
دمشق 18/12/2003