مدخلات اساسية :
قرأت قبل ايام كتاب ممتاز كتبه الصديق الدكتور ايان شابيرو استاذ العلوم السياسية في جامعة ييل وعنوانه : " الحالة الراهنة للنظرية الديمقراطية " واعتقد انه من أهم كتبه السابقة ، ومنها : الأسس الاخلاقية للسياسة، والعدالة الديمقراطية، ومكانة الديمقراطية. وعندما كنت اقرأ حجم التطورات الهائلة التي اصابت النظرية الديمقراطية لدى مجتمعات عدة في العالم ، كنت افكر باوضاعنا العربية الراهنة واتجاهات الرأي العام العربي في كل البلدان العربية سواء تلك التي لها تجربتها المزيفة لهذه اللعبة ، ام تلك التي بينها وبين الديمقراطية اشواط طويلة ومسافات بعيدة عنها ! كنت افكر بالعرب المعاصرين وهم يجتازون سنة جديدة نحو رابعة من القرن الواحد والعشرين وهم في طور تاريخي مهزوم سياسيا واجتماعيا .. بفعل حجم تردي الوعي السياسي والابتعاد عن فن التعامل مع هذا النظام العالمي الذي يندفع بكل قوته لادانة كل منطقتنا ليس بالتخلف والتحجر ، بل بالارهاب ضد الانسانية والحضارة البشرية ! وفي دواخلنا العربية ، خواء في المؤسسات وتكلس في المفاهيم لا نعرف حتى يومنا هذا اي سبيل للمشاركة في الدفاع عن المصالح المشتركة العليا .. ليس لدينا اساليب لا في التجمعات ولا في التشاورات ولا في تبادل المصالح على مستوى مؤسسات المجتمع المدني ولم ندرك قيمة حقوق الانسان ! هذا في حين ان شعوبا ومجتمعات اخرى في العالم اجمع تعمل اليوم بتطوير جملة هائلة من الاليات والاساليب من اجل التشاور والتكتل ضد الهيمنة اولا .. ثم انها تتفاعل في دواخلها بتطوير الوعي بما سيصيب العالم من هزات اقتصادية وسياسية كتلك التي افرزتها حالات الانفصام بين عالمي الشمال والجنوب ، ناهيكم عن السلطة والتنافس الديمقراطي. ولعل اهم ما يمكن التفكير فيه عند العرب يكمن في كيفية التوصل الى الديمقراطية في ظل الظروف التي يعيشونها اليوم ثم كيفية الحفاظ عليها في وحدات اجتماعية لا تدرك معانيها بعد ، فكيف بممارستها ! ؟ فالمسألة ليست في رفع شعاراتها ، بل بكيفية ادارتها والتعامل معها في التوصل الى الديمقراطية وهذا لعمري هو وحده الامر الصعب. وعليه فالديمقراطية بالمعنى اليوناني مشتقة - كما هو معلوم - من كلمة ديموس: اي الشعب، وكراتوس اي السلطة، وبالتالي فهي تعني سلطة الشعب.
المدركات قبل الشعارات
عاش العرب في منظوماتهم السياسية الصعبة داخليا والهشة خارجيا في القرن العشرين وقد خسروا زمنا ثمينا من تاريخهم وخلقوا لهم اليوم واقعا لا يمكن ابدا الحفاظ عليه وسط عالم من تكتلات الحيتان في العالم .. وان تفكيك مثل هذا الواقع وتحديثه لا يقل صعوبة عن اي تغيير تاريخي لم يمر به العرب حتى يومنا هذا ونرى نموذجه واضحا في العراق اليوم والذي استعصى نظامه السابق عن اي حالة من الاصلاح والتغيير فجاء الاحتلال ليكنسه من الوجود . من جانب آخر ، ليس كل البلدان العربية لها ظروف العراق السياسية والاقتصادية فبعضها – مثلا – بحاجة حقيقية الى الديمقراطية والتوزيع العادل للثروة بعد ان مرت بتجارب بائسة في الممارسات الاشتراكية .. او تلك التي يستشري فيها الفساد الاداري والاقتصادي . ان كيفية النظر من قبل العرب الى موضوع الديمقراطية اليوم بحاجة الى ثقافة من الاولويات في كيفية توفير المستجدات الفلسفية بالنسبة للنظرية الديمقراطية.
ولكن لابد من اجابات عربية حقيقية على السؤال البسيط التالي : ما معنى الديمقراطية يا ترى؟ لابد ان يدرك العرب بأن الديمقراطية هي غير الشورى وان الانتخابات وصناديق الاقتراع هي غير المبايعة وارادة اهل الحل والعقد .. عليهم ان يدركوا منذ البداية بأن الاكثريات لا يمكنها ان تأكل الاقليات في عالمهم المتنوع بشتى صنوف البشر والاديان والطوائف والنزعات .. عليهم ان يدركوا – ايضا – بأن الدين بكل تجلياته وسمو قيمه ومبادئه لا يمكنه ان يستخدم سياسيا في مستنقعات اي ممكنات ومتغيرات سياسية ! وعليهم ان يدركوا بأن تاريخنا العربي والاسلامي كله لم يكن ابدا نقيا وزاهرا وطاهرا من الناحية السياسية فالتقاطع كبير بين تراثنا السياسي وتراثنا الحضاري .. وعليه ، لابد ان يدرك العرب وخصوصا الاجيال الجديدة بأن الفصل بين السلطات ومؤسسات المجتمع الاهلي والمدني وكل الحياة المدنية والاحزاب السياسية هي من الضرورة عندما تتوفر شريطة الحفاظ على تجليات الدين وابعاده عن كل المشكلات الصعبة والمعضلات المعقدة .
على العرب ان يدركوا بأن الاستفادة من تجارب وافكار العالم كله ومرجعياته السياسية والفكرية والفلسفية ليس من المحرمات .. عليهم ان يعرفوا بأن الاغريق كانوا يعتبرون " الديمقراطية " بمثابة حكم الشعب للشعب. ولكن مفاهيمها وممارستها قد تطورت كثيرا منذ زمن الاغريق وحتى اليوم ، اذ غدت المجتمعات البشرية معقدة كثيرا واحتاجت بالتالي الى أشكال متجددة من الحكم الديمقراطي لكل تمارس كل فئات الشعب ادوارها . نعم ، لقد تطورت النظرية الديمقراطية على يد الفيلسوف الانكليزي جون لوك في القرن السابع عشر، ومتغيرات ثورة كرمويل في انكلترا ، ثم على يد فولتير ومونتسكيو وجان جاك روسو في القرن الثامن عشر والتي توجتها الثورة الفرنسية ، ثم على يد هيغل في ديالكتيكه في القرن التاسع عشر ومتغيرات المانيا ، ثم على يد ريمون آرون وسواه في القرن العشرين متوجة تجاربها في مجتمعات غربية وشرقية بدءا بامريكا الشمالية ووصولا الى اليابان واستراليا . ان التجربة الاميريكية هي احدث تجربة برلمانية في الديمقراطية البرلمانية .
مفهوم " الديمقراطية " بحاجة الى الوعي العربي
ان الديمقراطية مفهوم ديناميكي للحياة في كل جوانبها بالتعامل مع كل الاطراف وبصورة متجددة باستمرار. وعليه ، لا يوجد أي تحديد قاطع مانع لها ، فكل التاريخ في الذي مضى من العهود السياسية وتجاربها الحديثة يبرهن على أن الديمقراطية المنجزة في بلد ما ليست إلا مرحلة مؤقتة أو تجسيدا مؤقتا للديمقراطية، وانها سوف تليها مراحل اخرى متتالية تتغلغل في كل الاجزاء لكل مجتمع حتى نهاية الزمن. وان يعلم العرب بأن الليبرالية هي الممارسة السياسية للديمقراطية ، في حين ان مؤسسات اجتماعية واجهزة ثقافية وحتى التعاملات الفردية في البيت الواحد يمكنها ممارسة الديمقراطية بكل ممتعاتها ضمن جملة مبادىء تضمن الحقوق والواجبات لكل انسان . وعليه ، فالديمقراطية هي الخير بالنسبة للبشر والخير لا ينتهي. وعليه يمكننا ان نستنتج بأن الديمقراطية ليست فقط صيغة سياسية او طريقة لتنظيم الروابط والعلاقات الاجتماعية ، وانما هي ايضا صيغة متقدمة جدا في الحياة العامة وانها قيمة لا تقدر بأي ثمن. انها تعني حكم البشر لأنفسهم بأنفسهم وبطريقة حرة ومنظمة في آن معا. انها تعني استشارة الكبير والصغير قبل اتخاذ اي قرار يهم المجتمع ككل .. وينبغي ان تكون الدولة في رعاية المجتمع لا ان يغدو المجتمع في خدمة الدولة .. بل وتزداد في ظل الدكتاتوريات العربية سلطة الدكتاتور كي يلغي كل المؤسسات ويجعل كل المجتمع في قبضته الحديدية .
يمكنني القول أن الفكرة الديمقراطية قد مرّت ابان الازمان الحديثة بثلاث مراحل ، ففي المرحلة الاولى كانت بمثابة وسيلة لنيل الحرية ، فدخلت المؤسسات الاوروبية في صيغتها السياسية. وتطورت في المرحلة الثانية وعدّت بمثابة وسيلة لتحقيق العدالة بتأثير الحركات الاشتراكية الأوروبية . واصبحت في المرحلة الثالثة والاخيرة تعني سيطرة الجماعات والفوريومات على مقدراتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في المجتمعات الاكثر تقدما. والواقع ان التحولات الحضارية والاساليب التربوية والممارسات التنظيمية في دواخل المجتمعات الغربية هي التي أغنت الفكرة الديمقراطية وليس الفكر النظري والتجريدي للمثقفين والمنظرين والمفذلكين . وعليه ، فان الفكر النظري الديمقراطي هو الذي استمد من الواقع الحي تلك التجارب السياسية المعاشة يوميا وليس الشعارات البائسة الكاذبة او ذلك التأمل التجريدي كالذي يتغنى به العرب ساسة واحزاب ومثقفين وهم الأبراج العاجية.
الديمقراطي نقيض الاستبدادي :
تعني الديمقراطية في الحقيقة تنظيما معينا للسلطة وصل الى اعلى درجاته اليوم في كل من أوروبا واميركا الشمالية .. اما النظام الديمقراطي ، فانه يعني – هنا - عكس النظام الطغياني والاستبدادي كونه يقوم على مبدأ التنافس الاقتصادي والسياسي وتعددية الاحزاب والجماعات وحرية الاعلام المرئي والصحفي وسيادة الشعب من خلال الممارسة عن طريق التصويت الحر والاقتراع وصناديق الانتخاب .. اما النظام الاستبدادي فهو نظام جائر يقوم على اساس دكتاتورية الفرد او وثنية الحزب الواحد وهيمنة الرأي الواحد وبلادة الصحافة الواحدة. وبالتالي فالفرق واضح جلي بين النظام الحر والنظام القمعي. والديمقراطية بالمعنى الحديث للكلمة تعني : المساواة بين جميع المواطنين مهما كانت الوانهم ام طبيعتهم ام اديانهم ام اثنياتهم ام ثقافاتهم ام اجناسهم ام طوائفهم ام افكارهم ام ايديولوجياتهم .. الخ ما داموا يشتركون في مؤسسات دولة واحدة ويرتبطون بدستور او قانون عام . وان ارادة الشعب لا تعبر في ذاتها ، الا من خلال انتخاب ممثلين للشعب او نواب عنه. وعلى هذا النحو تأسست المجالس النيابية وان النواب المنتخبون هم الذين يشرعون القوانين ويصوتون عليها في مجلس النواب ويرفعونها لمجلس الشيوخ او الاعيان في الدولة لاقرارها ، ومن ثم ترفع للسلطة العليا ملكا ام رئيسا للمصادقة عليها وتصدر مشرعة ومنشورة في الجريدة الرسمية .. وبعدئذ يطلبون من السلطة التنفيذية، اي الحكومة، وضعها موضع التطبيق. فاذا اخفقت اي وزارة في التنفيذ ، يحاسب الوزير او رئيس الحكومة امام سلطة الشعب .
وأخيرا : هل من ثورة ديمقراطية عند العرب ؟
لابد من القول بأن ما اسمي بالثورة العربية في القرن العشرين كانت مجرد مشروعات لتكبيل التفكير والارادة والحريات عند العرب ، وهم اليوم احوج ما يكونوا الى اول ثورة ديمقراطية في التاريخ، وبالتالي فهي تستحق اوضاعا خاصة من اجل بناء خصوصية تجربة او اكثر بالقياس الى التجارب العالمية المؤثرة .. فليس من العقل ان نستهلك كل ما ينتجه الغرب بكل بلادة وصفاقة ووقاحة من تشيؤات مادية والكترونية وطبية وصيدلانية وطائرات وسيارات وقطارات واجهزة دقيقة ومختبرية وعلمية .. لا يمكننا الحياة اليوم بدونها ، ونتغافل او نتجاهل بعمد وتقصد عن اسمى تجربة انسانية في الحكم والممارسة والتفكير والحياة نجح بها الغربيون . فهل سيتحقق ذلك عندنا بسهولة ؟ انني اشك في ذلك كثيرا !