تـَعَالـَتْ في المدةِ الأخيرةِ أصوات كثيرة دافعَتْ غالبية منها عن العراقِ والعراقيين في الأوضاعِ المستجدةِ المعقدة؛ فيما كانَ بعضُها الآخر واقعاَ َ في مصيدةِ التهجّماتِ التي تصلُ حدَّ التخريبِ والعداء, عبرَ التحريضِ على الاقتتالِ أوالحضِّ عليهِ بشكلِ ِ مباشرِ ِ وغير مباشر. وفي كلا الطرفين وُجـِدتْ حالات من التطرّفِ في التناولِ والمعالجةِ, مثلما وُجـِدتْ حالات من الاعتدالِ والموضوعية.. وإنَّما نجدُ كلّ تلك الأخلاط لأسبابِ ِ عدة كان من أبرزِها وأوسعِها تأثيراَ َ حالةُ انتفاءِ البعد الستراتيجي أو افتقاد بُعـْدِ النظر والتباسِ الأهداف المحورية البعيدة...
وقد احتدمت المواقف في بعض الأحايين لأسباب الالتباس وانقطاع التواصل بين أطراف الحوار [بل السجال المحتدم شدة أو عنفا] ومن ثمَّ انعدام لغة اللقاء والتفاهم حتى تصل ما يُمكـِّنـُنا من وصفها بحوار الطرشان! بسبب روح التجافي حيث صدق [محمول] قول الشاعر فينا:
أضحى التنائي بديلا عن تدانينا
وناب عن طيب لقيانا تجافينا
وفي ظلِّ هذه الأوضاع يضيعُ جـَهـْدُ المفكرين الموضوعيين عندما يعالجون القضية واضعين تصوراتهم المبدئية التي تنمُّ عن روح بنـَّاء يعالج القصور والمثالب ويقوّم مجريات الأمور وتوجهاتها الإجرائية وآثارها السلبية؛ كما يحاول تصحيح الوضع بما يخدم مصالح جميع الأطراف من غير تعادي و تقاطع أو احتدام و اصطدام. ومردّ ذاك التضييع هو الخلط والالتباس وحشر الحابل مع النابل حيث يُنظر إلى تلك الأعمال النقدية التقويمية التصحيحية نظرة معاداة وكأنَّها جزء من تقاطعات المتحمسين أصحاب الردود الانفعالية عن طيب نية أو عن مغالاة تدخل في التضاد والتناقض..
فنحن نقرأ لعدد واسع ممّن أتاحت لهم التكنولوجيا الحديثة واستسهال ضوابط النشر.. وممّا نقرأه لهم ما يدخل في الشتيمة والتجريح والسجال الانفعالي القاسي واحتدام المشاعر ولا غرو في خروج الحوار عن المألوف الذي نعرفه في لغة المفكرين والساسة والأكاديميين, إذ أنَّه ينطلق ممّن أشرنا إليهم. فإذا كان من الصحيح أنْ نتقبّل دخول الجموع لإبداء الرأي فإنَّ من الأصحّ أنْ نلتجئ إلى عقول علمائنا ومَرَاجعِنا الأكاديمية المتخصصة لحلِّ المعضلات التي تتطلب الجدية وتحكيم العقل ومنطق الروح العلمي الموضوعي ...
ومن تلك المعضلات التي لايصح التساهل في أمرها تحديد ستراتيجيات السياسات والرؤى الجوهرية أو المحورية, وهي معضلات تفترض وجود قراءات تحتاج لتراكم معرفي وتخصّص ودراسة أكاديميين. والإعلام إشكالية لا تشذ عن القاعدة العامة لكلِّ الإشكاليات أو المعضلات في الحاجة لرسم الستراتيجيات الضرورية. . فإذا نظرنا إلى فضائياتنا العربية [الجزء الأهم من جهازنا الإعلامي] في تعاملها مع الوقائع فسنجدها في غالب الحال أمّا مجرد ردّ فعل أو قاصرة عن رؤية التفسير الحقيقي بسبب من الرؤية المحدودة بالحدث نفسه وعدم البحث في خلفياته الماضوية (جذوره التاريخية) ومستهدفاته المستقبلية؛ ومثل هذه الحال أوقعتنا في مطبات أخطاء عميقة..
أذكـِّر هنا فقط في تلك المقولات الإعلامية المتسرّعة حول إلقاء (اليهود) في البحر أيام حرب حزيران 67 وما جرَّته تلك المقولات من مقالب للدول العربية ومن محامد استغلتها الدعاية (أو ستراتيجية الإعلام) الصهيونية مثلا.. وغير هذه الأمثلة كثير ولكنَّهُ اليوم في واقع انتشار الفضائيات واتساع مساحتها الكمية ومن ثمّ تأثيراتها مشهود في مثال خطير يخصّ العراق والعراقيين..
إذ وقفت بعض الفضائيات عن قصر نظر وعن انعدام البعد الستراتيجي في الرؤية الإعلامية (السياسية), وقفت موقف العداء ومرّرت عددا من البرامج والقراءات التي لا تقف في ضررها عند التخريب أو التحريض السلبي على العراقيين ومحاولة صبّ زيت تلك الفضائيات في نار الأزمة العراقية بل كما يلاحظ النابهون أنَّ الزيت نفسه (أي الإعلام وأصحابه) هم جزء من الحريق المستهدف في العراق ولكنَّه الراجع إليهم والمنتشر فينا جميعا فالنار لا يوقفها مصدّ إداري أو حدود سياسية مفترضة..
ولكن ما مصلحة فضائية عربية في معاداة العراقيين؟ وما ربحها من محاولة الإيقاع فيما بينهم؟ وما أرباحها في خسائرهم وفي افتقادهم الاستقرار والسلم وفي بدء مرحلة جديدة من التعاون الصادق مع محيطهم العربي أولا والإقليمي ثانيا؟ أسئلة كثيرة في مفرداتها وتنوعاتها ولكنَّ جوهرها يظلّ واحدا يكمن في أمرين لا ثالث لهما: فأما تلك الفضائية تفتقد النظرة الستراتيجية الصائبة وأما أنّها تدرك ما تفعل وتضع نفسها في خدمة قوى لا تعادي العراق حسب بل ومجموع دول المنطقة وشعوبها...
إذ أنّه لامصلحة على المدى البعيد لدولة أو مجموعة دول في معاداة أخرى أوعزلها أو وضعها في دائرة عدم الاستقرار واستمرار حالة الاحتراب والاقتتال.. ومنعها من عملية إعادة الإعمار بعد عقود من التدمير بقوى الدكتاتورية من الداخل وقوى الحصار والحروب من الداخل والخارج. وعليه كان على تلك الفضائيات مراجعة فلسفتها في التعاطي مع القضية العراقية من جهة والاستفادة من القراءات الموضوعية الناقدة لبرامجها ومفرداتها الإعلامية بغية تصويب المسار من منطلق التفاعل الإيجابي لا السلبي.
ويتطلب هذا التوجـّه وضوح الأهداف بما يمنع الالتباس والخلط السلبيين ومن ثمَّ منع التأثيرات السلبية على أطراف الحوار وعلى العلاقات فيما بينها.. أما التشكي وادّعاء التظلّم من قرار يتخذه العراقيون في ظروفهم الراهنة تجاه هذه الفضائية أو تلك فهو ليس إلا حلقة أخرى من حلقات الخلط والاستعداء والتجافي [وكثرما عولج هذا من المتخصصين] ومن المؤكَّد أنَّ أمور الدول والشعوب ستظل بيد أصحابها هم الأدرى بشعاب [(مكـَّـةِ)ـهم] ومنهم تنطلق القراءات أو إليهم ينبغي أنْ يكون الاحتكام فيها..
ومثالنا العراقي نراه في كون التعاطي مع السلطة العراقية الجديدة من منظور الحكم بلا شرعيتها من إسقاطات خاصة محدودة تنطلق من الاختلاف مع القوى الممثلة فيه فكريا أو سياسيا بينما في العلاقات الإنسانية الدولية منها والشعبية يرشح الوضع الراهن حال التنوّع والتعددية وقبول الآخر المختلِف والدخول معه في حوار سلمي موضوعي بدلا من التقاطع والاحتراب الذي لايتضمن جوهره إلا خسارة كل الأطراف..
أفلم نقرأ في النصّ القرآني الآية الكريمة: "يا أيّها الذين آمنوا إذا ضربتُم في سبيلِ اللهِ فتبيَّنوا [وفي قراءة: فتثبَّتوا] ولا تقولوا لِمَنْ أَلْقى إليكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤمِناَ َ" وفي أخرى "اُدْعُ إلى سبيلِ ربِّك بالحكمةِ والموعظةِ الحسنةِ وجادلْهم بالتي هي أحسنُ" ومن(العهد القديم) أفلم نقرأ ما ورد في الإصحاح العاشر (13,12): "فمُ الصديق ينبوع حياة وفم الأشرار يغشاه ظلم. والبغضة تهيّج خصومات والمحبة تسترُ كلَّ الذنوب." ومن الإنجيل [لوقا43]"لماذا تنظر القذى في عين أخيك. وأما الخشبة التي في عينك فلا تفطن لها... يامرائي أخرج أولا الخشبة من عينك..." فإذا كان الأمر في الكلام المقدس يفرض بل يوجبُ ويُلْزِمُ بالحوار الإيجابي والسلمي الموضوعي حتى مع الأعداء فما بالك إذا كان الأمر مع الأخ والجار والشقيق والصديق؟ ولـِمَ لا نتعامل بما يستر الذنب ويمحو الخطيئة ويجنّبنا إياها؟ ولِمَ لانرى الخطأ أو النقص فينا قبل أنْ نراه في غيرنا؟
فلـْنتّخِذ ْ من التسامح والتفاعل مع الآخر ما يجعلنا في مسار البناء والخير والبعد عن خطايا التسرّع والاحتكاك وتخطِئة الآخر واتهامه والتحامل عليه.. لنقدّمَ الخير وننتظر الخير بدلا من الانفعال سلفا والاصطدام وافتراض العداء. أليس من ستراتيج حياتنا المعاصرة روح التعايش السلمي؟ أليس منها روح التبصّر والتفكير في البعيد القادم؟ أما أنْ ترى فضائية سطوتها الإعلامية اليوم وغلبتها التقنية وإمكان وصولها وتأثيرها فتنحو باتجاه ما تراه كسبا لها في يومها .. إنَّه في الحق إذا صحَّ اليوم فلن يكون كذلك في الغد.. فما بالنا نرى الصواب في اجتهادنا مطلقا والخطايا في الآخر مطلقا ونحن أدرى بأنَّ كمال الإنسان في تكافله وتعاضده وتعاونه وليس في ضدها..
أعود كابحا جماح العظة اليقينية لأتحدث بالحقيقة البرهانية وهي الأقرب إلى دروس حياتنا البشرية الفانية ولكنها الخالدة في خيرها واستقامتها والزائلة في شرها وخطيئتها. الإعلام تخصص يحتاج إلى التكامل مع السياسة والفكر والفلسفة بما يجعله ينظر إلى محدِّداته وشروطه بعيدا فإذا تلمَّس الجوهري والمحوري كان سهلا عليه التعامل مع المفردات الجزئية من منظور الكلي وصحَّ منطقه وتعاظمت دقة رؤيته وصواب معالجاته..
ففي البعيد يكون استقرار بلد من المنطقة كالعراق بكل ثقله المعروف يعود على بقية البلدان بالخير وإذا استغلت جهة حال عدم الاستقرار اليوم لمنفعة قصيرة النظر كان ذاك مؤذِ ِ في مداه البعيد بل حتى في القريب لا تكون تلك الجهة إلا تابعة لقوى, محصلةُ إرادتها تكمن في تشطير بلدان الإقليم بما يُضعِفُها في النهاية جميعا.. ومن ثمَّ ينجمُ عنه سطوة قوى بعينها لمدى زمني جديد ونكون تخلّصنا من عدوانية طاغية لنقع في شرّ بلية أخرى ..
ولأنَّنا أعرف بما للإعلام من تأثير كان علينا تناوله بهذه الأهمية والتقدمة .. ولأنَّنا أدرى بما للهدم من سهولة وسرعته كسرعة انتشار النار في الهشيم كان عملنا من أجل البناء أكثر تأكيدا ولا نقول تكرارا, وأكثر تشديدا من أجل الدفع بالتي هي أحسن. وأمامنا كشف الخطأ والالتباس وفضح الخطيئة والعدوان وإنْ كانا كلاهما في سلةِ نتيجةِ ِ واحدةِ ِ ولكنَّنا نميِّز بينهما لأنَّ تقويم الخطأ والمخطئ يكسبنا صديقا فيما إزالة العدوان مفروضة علينا بقوة المعتدي وليس لنا في ردِّه غير وقفِهِ وإنهاء تأثيره.
وفي الإعلام اليوم جار يخطئ بحق جارِهِ (العراق), عن تصور وتسابق لتعزيز مكانة هذه الدولة أو تلك في عراق اليوم من جهة التأثير في سياساته وأوضاعه الراهنة لمصلحة تقتضيها عمليات الصراع بين قوى إقليمية ودولية في [ميدان العراق] وتصفية حسابات تلك القوى فيما بينها بعيدا عن ميادينها. وعلى حساب ميدان العراقيين ومصالحهم! وتساهم الأجهزة الإعلامية في اختلاق الأرضيات المناسبة لنقل جبهات الصراع..
وتساهم أيضا في قراءات قاصرة تصبّ في إحراق العراق وإيذائه معتقدين أنَّ ذلك جزء من ثأر لجهة أو هو جزء من مصلحة جهة أخرى أو جزء من خطة تطمين حاجات ومستهدفات قوى بعينها.. لكنَّ القراءة بعيدة النظر سترينا حقيقة انقسام العالم وتوجهاته وكذا طبيعة مصالحه في العلاقة مع هذه القوة أو تلك وهي مصالح عادة ما تنمّ عن مستهدفات مضرة بتلك القوة التي يستغلّها بشكل تحالفي مؤقت سرعان ما ينقلب عليه ويضعه موضع المستهدف الأول الذي تمَّ إنهاؤه لينتقل إلى التالي..
إلى متى تظل هذه الحال قائمة؟ نحن ندري ذلك عبر قراءة ستراتيجية تداخل الأوضاع اليوم في ظلال العولمة ومفرداتها وفي ظلال تحول العالم إلى قرية متفاعلة ومتبادلة التأثير ولكنَّنا بحاجة لضمّ القوى السليمة ومنع ابتعادها ووقوعها في مصيدة الآخر.. وبحاجة لخلق التحالفات الصحية الصحيحة وإلى منع تأثير ضلال الإعلام وتضليله وتصويب مساراته بما يعود على جميع الأطراف بالخير وبتطمين مصالحهم المشتركة..
ومن أجل ذلك فإنَّ أجهزة الإعلام بحاجة للدراسات الستراتيجية ولمراجعة مفرداتها في ضوء تلك الستراتيجيات الدقيقة. وإلا فــلات ساعة مندم! حين تفقد الحليف الأمين لتجد تلك القوى حلفاء اليوم يأتون عليها في الغد! ولن ينفعها يومها سياسة التكتيكات والبرغماتية التي تتعاطى مع الآني ومع قول: "انسَ دهرك واكتفِ بيومِك".. ولنا قراءة في معطيات الستراتيج الإعلامي العربي والإقليمي والوضع الراهن..