|
لو كان اقتصادنا الحُرُّ.. حُرَّاً!
جواد البشيتي
الحوار المتمدن-العدد: 2274 - 2008 / 5 / 7 - 11:03
المحور:
الادارة و الاقتصاد
لو كان اقتصادنا الحر حُرَّاً، فهل من المنطق في شيء أن ندعو الدولة إلى أن تتسلَّح، وتشهر سلاحها على الغلاء؟ إنَّ لنظام السوق الحرة قوانينه الموضوعية، التي إنْ عملت في حرية هيأت الأسباب والظروف لمكافحة ناجعة للغلاء، ولتحويل مساره من صاعد إلى هابط، ففي نظام السوق الحرة نرى دائماً قانون العرض والطلب يعمل بما يسمح لرؤوس الأموال المتساوية بأن تعطي أرباحاً متساوية.
في منشآت تنتمي إلى فرع ما من فروع الاقتصاد الرأسمالي، أو في فروعه كافة، نرى دائماً اختلافاً وتفاوتاً وتبايناً في "التركيب العضوي" لرأس المال، فبعض المنشآت أو الفروع يَعْظُم في رأسمالها الحجم النسبي للآلات والأجهزة والمعدات المتطوِّرة تكنولوجياً، فيترتَّب على ذلك؛ ولكن من الوجهة النظرية الصرف، أن يعطي الرأسمال فيها ربحاً أقل من الربح الذي يعطيه الرأسمال نفسه، لجهة مقداره، في المنشآت والفروع التي يَعْظُم في رأسمالها الحجم النسبي للأيدي العاملة. ولو تحوَّل هذا "النظري" إلى "عملي" لترتَّب على ذلك أن تخسر رؤوس الأموال المتطوِّرة تكنولوجياً، وأن تربح رؤوس الأموال المتخلِّفة تكنولوجياً.
قوَّة واحدة فحسب هي التي تمنع هذه الكارثة (النظرية) من أن تغدو حقيقة واقعة، هي قانون العرض والطلب، الذي، في سوق حرَّة تماماً، ينتهي عمله دائماً إلى جَعْل رؤوس الأموال المتساوية، وإنْ اختلفت في تراكيبها العضوية، تعطي أرباحاً متساوية.
ولكن، ثمَّة قوَّة مضادة يمكن أن تتغلَّب على تلك القوَّة، وتُفْسِد عمل قانون العرض والطلب، وتجعل الغلاء على هيئة ظاهرة قدرية. إنَّها قوَّة "الاحتكار"؛ وإنَّها، على وجه الخصوص، قوَّة "الاحتكار الذي عقد قرانه مع سلطة الدولة".
لو كانت السوق الغذائية عندنا حرَّة من الاحتكار، ومن هذا التداخل والتمازج بين السلطة الاقتصادية لكبار المحتكِرين وسلطة الدولة، لما رأينا أسعار السلع والمواد الغذائية الأساسية ترتفع وكأنَّها صاروخ منطلق بسرعة تكفيه للإفلات من الجاذبية الأرضية فلا يعود أبداً إلى سطح الأرض.
إنَّ زمرة ضئيلة من العائلات التجارية الكبرى، أي من تجار الجملة في السوق الغذائية، هي التي تتحكَّم في حجم المعروض في الأسواق من السلع والمواد الغذائية، وفي أسعاره، وكأنَّ حرية وديمقراطية السوق الحرة أصبحت أثراً بعد عين، وإنْ استمر نَظْمُ القصائد في امتداحها وتمجيدها والثناء عليها.
لو كُسِر هذا الاحتكار (وثمة طرائق ووسائل عدة لكسره) الذي تحوَّل إلى جريمة كبرى يومية تُرتكب في حق الغالبية العظمى من المستهلكين، لرأينا غلاء سلعة غذائية ما يهيئ من تلقاء نفسه الأسباب والظروف (الاقتصادية والاستثمارية في المقام الأول) لزيادة الإنتاج والمعروض من تلك السلعة، وصولاً إلى تحويل غلائها إلى رخص، فالغلاء في نظام السوق الحُرَّة الحُرَّة لا يمكنه أن ينمو من غير أن ينمِّي، في الوقت نفسه، أسباب وظروف وقوى الرخص؛ وكذلك الرخص.
وهذا هو ما لا يحدث عندنا؛ أمَّا السبب فهو هذا الزواج اللعين بين سلطتي الاحتكار والدولة. وكثيراً ما رأينا الاندماج بين السلطتين "اندماجاً شخصياً"، فالشخص نفسه (أو العائلة نفسها) تَجْتَمِع فيه وتنصهر "التجارة" و"السياسة"، أي السلطة الاقتصادية الاحتكارية وسلطة الدولة، كما يجتمع وينصهر في الشخص نفسه "الخصم" و"الحَكَم"!
ولو لم يكن بعض الظن إثم لظننتُ أنَّ "لوبي كبار التجار" هو الذي حَمَل الحكومة على زيادة رواتب موظفيها، فالموظَّف الذي زيد راتبه لم يكن لجهة علاقته بهذه الزيادة سوى ناقل ووسيط؛ فلقد أخذها من الحكومة بيده اليمنى ليعطيها (مضاعَفَةً) إلى تاجر الجملة بيده اليسرى.
التاجر، ولو كان صغيراً، يستطيع بما يملك من سلطة على ماله ومتجره وبضائعه، أن يدرأ عن دخله وربحه مخاطر الغلاء العام، فهو يفهم هذا الغلاء على أنَّه تشجيع له على زيادة أسعار البضائع التي يمتلك، فيظل معدَّل الربح، بالتالي، في الحفظ والصون، إنْ لم يزدد. أمَّا الموظَّف، أو العامل، فلا يملك سلاحاً مماثلاً أو مشابهاً، فحقه المشروع في الدفاع عن النفس، أي عن لقمة عيشه، إنَّما هو حق لا وزن له بميزان الحياة الواقعية.
إنَّه لا يملك نقابة يمكن أن يستخدمها سلاحاً في الدفاع عن حقه في العيش عيشة آدمية، فربُّ العمل لا يتورَّع عن الاستمرار في أكل لحمه من خلال حرمانه اللحم والخبز.. ؛ والدولة لا تفعل إلاَّ بما يؤكِّد أنَّ أقوالها أقل وزناً من صلوات كاهن، وأنَّها في انحياز، ضِمْني تارةً، وظاهر طوراً، إلى منتجي وموزِّعي الغلاء، وكأنَّ علاقتها بهم علاقة الرأس برقبتها.
بالأمس تأكَّدتُ بنفسي أنَّ المتحدِّثين باسم مصانع السجائر وكبار المتَّجرين بها يكذبون عبر الصحافة ووسائل الإعلام، فلا وجود إلاَّ لكميات ضئيلة من عُلَب السجائر في الدكاكين والمتاجر الصغيرة. لقد قصدتُ ما يزيد عن عشرة محال تجارية، فاشتريتُ من أربعة منها فحسب عشر عُلَب سجائر. ولمَّا سألتُ عن سبب هذه الأزمة أجمع أصحاب تلك المحال على القول إنَّ الحكومة قرَّرت زيادة الضرائب على السجائر، فما كان من منتجيها وكبار موزِّعيها إلاَّ أن حجبوا القسم الأكبر منها عن الأسواق. وتنتظر الحكومة الآن رؤية "الأثر السيكولوجي"، فالمدخنون يعانون الآن أزمة النقص في المعروض، ولسوف تغمرهم السعادة ما أن يروا حلاًّ لهذه الأزمة (المصطنعة) ولو اقترن برفع الأسعار!
حتى "الفلفل الحار" أفسدته الروح التجارية، فنادراً ما تعثر في السوق على هذا الفلفل. "الفلفل الحار" الذي نجده في السوق معظمه "حلو" حتى تشتري منه كمية أكبر، وتزيد، بالتالي، ربح التاجر أكثر!
لقد كتبوا علينا رأسمالية؛ ولكن ليس من نمطها الأصيل الذي عرفته المجتمعات الغربية، فهي رأسمالية خلقوها لنا في أسوأ تقويم، فعاثت فينا، وفي مجتمعنا، فساداً، يمكن أن يُؤخذ منه التعريف الجامع المانع للفساد.
لقد رأيتُ بعينيَّ طفلاً صدمته سيارة، فنُقِل، في ساعة متأخرة من الليل، إلى إحدى المستشفيات الخاصة الكبيرة، فرفضت إدارة المستشفى استقباله قبل أن تحصل على 2500 دينار (في تلك الساعة المتأخرة من الليل). ولولا مساعٍ حميدة بُذِلت لدى إدارة مدينة الحسين الطبية، ولولا إنسانية وحُسن أخلاق تلك الإدارة والمدينة، لظل هذا الطفل الضحية بلا علاج!
حتى تلك المهنة الأولى في إنسانيتها أفسدتها الروح التجارية، فهل بقي من عذر للإبقاء على تلك الوحوش البشرية بلا ترويض؟!
#جواد_البشيتي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
-المسخ عبر التعريف- في مفاوضات سرية!
-
حرب حكومية على -أفيون الفقراء-!
-
فوضى الكلام عن السلام!
-
أما حان لعمال العالم أن يتَّحِدوا؟!
-
تعريف جديد ل -المرأة الزانية-!
-
-حماس- تتحدَّث بلسانين!
-
من بروكسل جاء الجواب!
-
طوفان التصويب وأحزاب سفينة نوح!
-
الكامن في شروط إسرائيل -غير التعجيزية-!
-
-أحكام عرفية- ضدَّ -الغلاء-!
-
مأساة تَحْبَل بانفجار!
-
-عالم شايلوك يهوه- أم -عالم شكسبير-؟!
-
هل تَعْرِف مَنْ أنتَ؟!
-
بن اليعازر يتكلَّم ب -لسان نووي-!
-
الغلاء يُولِّد الإضراب!
-
-قرارٌ-.. أسأنا فهمه كثيراً!
-
الجوع يَحْكُم العالَم!
-
أهو حلٌّ قيد الطبخ؟!
-
-نجاح- لم يُبْقِ من معنى ل -الفشل-!
-
أذِلُّوهم بتجاهلهم!
المزيد.....
-
قناة السويس: مؤشرات على عودة الاستقرار للبحر الأحمر
-
سوريا تلجأ لوسطاء لاستيراد النفط
-
مركز قطر للمال سجل أعلى نمو بعدد الشركات في 2024
-
كندا والمكسيك على موعد مع تعريفات ترامب غدا
-
سعر الغاز في أوروبا يتجاوز الـ 570 دولارا لكل ألف متر مكعب ل
...
-
تعزيز التعاون الاقتصادي بين سوريا وتركيا: من المستفيد؟
-
مسؤول في وزارة الخزانة الأمريكية يترك منصبه بعد خلاف مع حلفا
...
-
الأردن.. الحكومة ترفع أسعار المحروقات
-
مصر تعلن عن فرص عمل لمواطنيها في الإمارات
-
هل ينجح ترامب بتحويل ولايته إلى -عصر ذهبي-؟
المزيد.....
-
دولة المستثمرين ورجال الأعمال في مصر
/ إلهامي الميرغني
-
الاقتصاد الاسلامي في ضوء القران والعقل
/ دجاسم الفارس
-
الاقتصاد الاسلامي في ضوء القران والعقل
/ د. جاسم الفارس
-
الاقتصاد الاسلامي في ضوء القران والعقل
/ دجاسم الفارس
-
الاقتصاد المصري في نصف قرن.. منذ ثورة يوليو حتى نهاية الألفي
...
/ مجدى عبد الهادى
-
الاقتصاد الإفريقي في سياق التنافس الدولي.. الواقع والآفاق
/ مجدى عبد الهادى
-
الإشكالات التكوينية في برامج صندوق النقد المصرية.. قراءة اقت
...
/ مجدى عبد الهادى
-
ثمن الاستبداد.. في الاقتصاد السياسي لانهيار الجنيه المصري
/ مجدى عبد الهادى
-
تنمية الوعى الاقتصادى لطلاب مدارس التعليم الثانوى الفنى بمصر
...
/ محمد امين حسن عثمان
-
إشكالات الضريبة العقارية في مصر.. بين حاجات التمويل والتنمية
...
/ مجدى عبد الهادى
المزيد.....
|