لا تخرج مسرحية ( ليلة زواج ) عن إطار البنية التقليدية في التأليف المسرحي، وهذا ليس عيباً في النص أو قصوراً لدى مؤلفيه. ففكرة هذا النص تعود للفنان رسول الصغير، مخرج هذا النص أيضاً. وقد كتبته ( Vera Aikens ) كتابة أولية، ثم أعاد كتابته الكاتب المسرحي الهولندي المحترف ( Ton Theo Smit وزوجته المخرجة Lucienne Amelsfort ) ومع ذلك فإن المكونات الأساسية لبنية النص لم تتغيّر. أعني أن الفكرة الدرامية التي تنطلق منها الأحداث، وتنمو، وتتطور هي فكرة رسول الصغير التي تشظت منها كل التفاصيل الصغيرة للعمل المسرحي برمته. ومفاد هذه الفكرة ( أن شخصاً يختفي ليلة زواجه ويعود بعد أربعين عاماً ليجد زوجته بانتظاره بعد هذا الغياب الطويل ). إن فكرة الاختطاف أو الغياب القسري أو الاختفاء لها ما يبررها على الصعيد الواقعي في العراق، لهذا فإن المخرج لا يجازف بموضوع الصدق الفني عندما يطرح فكرة (غرائبية ) من هذا النوع. فهناك الكثير من الناس العُزّل الذين غادروا بيوتهم وعادوا إليها بعد عقدين أو ثلاثة عقود من الزمان، وهم أوفر حظاً من الناس الذين غيّبهم الموت. ثمة توصيفات عراقية، وحس عراقي لم تطمس نبضه الكتابة الأخيرة للنص الذي ظل يحتفي بلغة بصرية، شاعرية، عميقة، ودالة. ومما زاد النص عمقاً هو تلاقح، واندماج، وتفاعل شخصيات العمل المسرحي الذين ينتمون إلى ثلاث ثقافات ومرجعيات فكرية مختلفة وهي العربية التي يمثلها مخرج النص رسول الصغير، والكردية ويمثلها شمال عبه رش الذي أدى شخصية البطل، والهولندية التي تمثلها الفنانة ( Auk Oosterhof )، فضلاً عن اللمسات التي أضفاها كل من ( Ton Theo و Lucienne Amelsfort )، ولكن تظل الإحالة الدينية لدُعاء ( أم علي الأكبر ) الذي تتوجه به إلى الله ( سبحانه وتعالى ) لأن يُرجع لها ولدها، ويُريها إياه قبل أن تموت،هي الأقوى لما تنطوي عليه من بُعد ميثولوجي له علاقة بالذاكرة الشعبية للناس. فمن خلف الكواليس نسمع صوت رسول الصغير متهدجاً يقول: ( بالحسين وشما بيه مصيبة/ يا رادْ يوسف من مغيبه/ ليعقوب ومسجّر نحيبه/ أريدك علي سالم تجيبه ) إن الجمهور الهولندي لم يفهم مغزى الدعاء الذي تردد على لسان رسول الصغير باللغة العربية، ولكنه يُدرك جيداً أن له علاقة ما بالغياب القسري للزوج الذي اختفى في ليلة زواجه، بينما تتضح دلالة ( تنويمة الأطفال ) التي أداها الفنان شمال عبه رش باللغة الكردية لأن الفحوى الدلالي معروف عالمياً ولا يحتاج إلى تأويل أو إحالة. أما المرجعيات الهولندية فإنها كانت مفهومة ومنسجمة مع مناخ النص الذي لم يخرج عن المزاج الهولندي والعادات والتقاليد الحياتية الشائعة.
• تشظيات الفكرة ومحمولات الشخصية
إن فكرة الانتظار ليست جديدة في المسرح بعامة، وربما تدهمنا بسرعة مسرحية ( في انتظار غودو ) لصموئيل بيكيت التي تتمحور حول ( انتظار ) الشخصيتين الرئيسيتين ( أستراغون وفلاديمير ) والشخصيتين الثانويتين ( بوزو ولكي ) ل ( غودو ) الذي لا يأتي أبداً. ويمكن اختصار النص بأربع جُملٍ قصيرة وهي ( لا شيء يحدث. لا أحد يأتي. لا أحد يذهب. إنه لأمر فظيع. ). بينما في مسرحية ( ليلة زواج ) تفاجئنا الشخصية الأولى التي لا تحمل اسماً محدداً، وإنما استترت خلف ضمير المؤنّث الغائب ( هي )، وكناية التأنيث من الممكن أن تتشظى لتضّم بين جوانحها مدلولات أعمق، وإشارات أوسع بحيث تشمل شريحة واسعة من النساء المنتظرات لأكثر من سبب. وهنا تأخذ الشخصية بُعداً درامياً لأنها تخلصت من توصيف ( الأنا ) أو القالب الفردي، وأخذت شكلاً عاماً يحمل طابع ( الكل ). ثمة سؤال ملحاح ينهض في هذه المسرحية وهو. لماذا اختفى ( هو ) ؟ و ( هو ) بالمناسبة الشخصية الثانية في العرض المسرحي والموازية للشخصية الأولى ( هي ). ومن الممكن ترحيل الدلالة لكناية التذكير ( هو ) إلى ( هُم ) مثلما رحّلنا كناية التأنيث من ( هي ) إلى ( هنَّ ). إذاً، ثمة توازن بين الشخصيتين، ولكنه توازن قلق لأن الرجل يحمل معه سر غيابه المجهول، بينما نشعر نحن بانتظار المرأة، ونحس بمرارته، وندركه لأنه يتجسد أمامنا بوصفه همّاً إنسانياً معروفاً لنا كمتلقين. فالمرأة تتحرك بين الجمهور المحتشد أمام صالة العرض، وتدعوهم إلى الدخول، وكأنها تقول إلى المشاهدين ( لم أعد أتحمل أكثر من هذه السنوات الأربعين، فشاركوني انتظاري الذي هرس أعصابي، وطحن عظامي، ومزّق مسامات جلدي. ) ولهذا تتوجه إلى الجمهور مباشرة ( قبل أن يدخل الصالة ) وهي تقول بيقين ثابت لا يخالطه الشك: ( سيأتي، سيأتي، أنا متأكدة من أنه سيأتي. هذه المرة سيأتي. يجب أن يأتي. ) ترى من أين جاء هذا اليقين؟ وما هي معطياته؟ ولماذا هذا التأكيد على مجيئه هذه المرة بالذات؟ ثم تدخل مع الجمهور إلى صالة العرض لتحكي قصة انتظارها وفق متخيل سردي عربي يمور بالصور العاطفية، ويجيش بالإنهماكات الوجدانية، ويغلي بالمشاعر الحسية التي تطغى على المرأة المنتظرة: ( سيأتي، لأنه يحبني. يحبني كثيراً. يحب عينيّ، ويحب شعري، ويديّ. كان رجلاً رومانسياً حساساً. كانت كلماته كلمات شعرية مثل قصيدة. إنه يحب عيني كثيراً، ولم يُطق نفسه إذا بكيت. لم يكن يتحمل دموعي المدرارة. وإذا كان يتوجب عليَّ أن أبكي يصبح هو مثل طير حزين ينوء تحت مطر ثقيل. كان يقول: ( دموعك ممزوجة بكحل أسود ترسم الوحدة على وجنتي ). كان فرحاً، ويحب الضحك كثيراً، لكنه إذا ما أراد الغناء، فإنه يغني أغانٍ حزينة. نعم، يجب أن يأتي! لا أدري لماذا؟ ولكن لديّ الإحساس ( . . . ) لقد انتظرت طويلاً. وفي هذا الانتظار القاسي كنت أشعر بالوحدة- أنا، وهذه الجدران- أتعرفون أن هذه الجدران كانت تمنحني الشعور بالحميمية؟ أنا أتحدث معها. وسنة بعد سنة أخذت هذه الجدران تتحدث معي. إنها تعرف عني كل شيء. لقد أصبحت جزءاً من تاريخي الشخصي. )
وبعد هذا اليقين الثابت وإصرارها على أنه يجب أن يأتي ( لأنه كان يحبها كثيراً، ويهيم بها عشقاً ) يداخلها الشك من جديد، فترتبك، وتتشوّش رؤيتها ثانية، فتقول: ( نعم، لكم أن تتخيلوا صبري وانتظاري الذي جعل الحجر يتكلم، لكنه لم يأتِ. أستيقظ صباحاً، وأرتدي ملابسي، وأرقص كل يوم على أفضل المقطوعات الموسيقية، لكنه لم يأتِ. انتظرت سنوات طوالاً، وغنيت كل الأغاني التي يحبها، لكنه لم يأتِ. كتبت له أحلى الرسائل، لكنه لم يأتِ. هل تعتقدون أنه هرب من أحلامي؟ لقد صلّيت، وترجيتُ بحرارة أن يعود. طلبتُ من الله العون. دعْهُ يرجع يا الله. دعْهُ يرجع يا الله. دعْهُ يرجع يا الله. أتوسل إليك يا الله أن ترحم امرأة كانت تصلي إليك منذ سنوات طوال. ) إن الشخصيات المستديرة هي شخصيات درامية من دون شك، وكلا الشخصيتين ( هو وهي ) في هذا العرض ينضويان تحت هذا التوصيف. فبالرغم من أنهما محطمان، مصادران، ويشعران بالغصة، وربما ببعض الانكسار الذي لا يظهرانه إلى السطح، إلا أنهما يستعينان بالحلم، ويستجيران بالأمل. ولكن مما يثير الدهشة أنه حينما يعود بعد أربعين عاماً بذاكرة قد تبدو مشوّشة، ومرتبكة، يشدّه ذلك الحنين الغامض للقائها، والارتماء في أحضانها لكنها تبادره بالقول: ( أن حذائك قذر ) فيرد عليها متسائلاً: ( هل تفوح من المكان رائحة غريبة؟ ) وحينما تكرر عليه نفس الملاحظة الغريبة التي لا يعيرها اهتماماً كبيراً على ما يبدو، ينحرف في حديثه صوب تشخيص المكان، ومحاولة التعرف عليه، واكتشاف اللوحة الحمراء التي غطاها الصدأ، ليخبرها أنه من خلال عنوان الشارع استطاع أن يسترجع في ذاكرته كل شيء. المسرح الذي يقع إلى جهة اليسار، ومدخل المتنزّه، ومصنع الورق. وفجأة تتكشف الأمور لديه، ويعرف أين هو بالضبط بالرغم من مرور أربعين عاماً! يركب في الباص من دون أن يخالطه الشك ليجد نفسه في البيت. وهذا يعني أنه قد استعاد جزءاً من الصفاء الذهني الذي تلاشى طوال سنوات الغياب، وكأنه يوحي لنا بأن تقادم السنوات قد محا جزءاً من ذاكرته، أو أن المتغيرات كانت كبيرة بحيث أنه لم يتعرف على المكان القديم بسهولة. والاحتمال الثاني الذي يضعه المتلقي هو أن البطل ربما يكون مصاباً بفقدان الذاكرة نتيجة حادث ما وقد استعاد ذاكرته الآن وبدأ يستعيد تفاصيل المكان شيئاً فشيئاً رغم أن المكان عائم تماماً. وهذا التعويم مقصود لذاته لأنه يعزّز فكرة ( الغياب ) التي أخذت بُعداً تجريدياً، قابلاً للتأويل على مستويات عدة، مثلما تخلصت الشخصيات من مسمياتها لتأخذ أبعاداً دلالية ورمزية شاملة. وربما يكون البطل ( هو ) مغيّب من قبل المرأة نفسها، أو مغيّب من قبل شريحة ما في المجتمع، أو من قبل حزب سياسي كان يؤمن به بطروحاته سابقاً، لكنه تخلى عنها لاحقاً. كل هذه الاحتمالات واردة. وحسناً فعل المؤلف والمخرج عندما تركا فكرة الغياب مفتوحة لاحتمالات عديدة تترك فرصة كبيرة للمشاهد لأن يكون مشاركاً في التفكير والتأويل وصنع الأحداث. فالمتلقي ليس كائناً سلبياً يتلّقى كل ما يُملى علية من حلول ونتائج، بل هو متلقٍ عضوي يشارك في صناعة الأحداث التي تدور أمامه. أما هي فقد انكفأت على نفسها بهدوء، وشرعت بمرحلة البوح لتنفس عن معاناتها، وتوترها، وانفعالاتها المستديمة. وكانت تخشى أن تموت وحيدة، أو بالأحرى كانت تتساءل: ( لماذا يتوجب عليّ أن أُقتل بصمت؟ ). إن اللغة لا تسعف البطلين كوسيلة اتصال أحياناً، بل تتحول إلى وسيلة تشويش وانفصال، وبالذات عندما يكرر لازمته المستفزة: ( هل حقاً تفوح من المكان رائحة غريبة ) فتنفجر ( هي ) صارخة ( وكيف يجب أن تكون الرائحة؟ ) ثم تتصاعد نبرة الانفعال في أسئلتها المتلاحقة التي تكشف عن تناقضها الداخلي. كما توّسع الهوّة فيما بينهما. وعندما يصلان إلى ذروة الاختلاف والتقاطع من وجهة نظرها على الأقل تطرده قائلة ( اغرب عن وجهي أيها الغريب! ) ثم تتراجع في الحال. ويدور بينهما حوار طويل نتوقف عند أهم منعطفاته حينما يتساءل قائلاً ( لقد فقدت شيئاً ما، ولكنني لا أعرف حجم خسارتي ؟) فترد هي عليه: ( أربعون سنة ). ثم يتفقان على أنه قد استرجع سنتين، وعليه أن يبحث عن السنوات الثمانية والثلاثين التي تساقطت من بين أصابع يديه، ولكنها كانت تصر على سؤال شديد الأهمية وهو: ( لماذا قيّدتَ نفسكَ بوعد لم تفِ به حتى الآن؟ ). إن الشخصيتين محملتان بأبعاد رمزية، فضلاً عن المحمولات الواقعية التي تتضح من خلال السياقات العامة للبوح والمكاشفة والحوار. لقد تعمّد المخرج رسول الصغير استنفار الحالات التعبيرية لدى الغائب والمنتظرة. وكان يعتمد على البنيتين الصيانية والتدميرية في بناء مشاهده المسرحية المتلاحقة حيناً، والمتقطعة حيناً آخر بحيث تتخللها فترات صمت مقصودة ومعبّرة إلى الحد الذي يصبح فيه الصمت أكثر بلاغة وتأثيراً من الكلمات المنطوقة. ثمة مساحة مختفية ينبغي على المتلقي أن يظهرها إلى الوجود أو يعيد صياغتها من جديد كي يكتمل المشهد الناقص، وتترسخ قناعة الجميع بأن الزواج الذي تمّ الآن قد عُزز بأكثر من صورة فوتوغرافية التقطها المشاهدون للعروسين الذين دخلا عش الزوجية بيقين ثابت وحضور جمهور العرض المسرحي الذي يشكّل خلفية الصور الفوتوغرافية التي تُعد أدلة دامغة لا تقبل الدحض أو التشكيك. وأنها تحيلنا مباشرة إلى بداية العرض المسرحي عندما التقطا صورة الزواج لوحدهما، ومن دون شهود، ليغيب ( هو ) تاركا إياها تتخبط في وحدتها، وتعاني مأساة انتظارها المرير. وفي الختام لابد من الإشارة إلى أن المؤثرات الصوتية والبصرية التي نفذها ( Marnix Bosman ) وسينوغرافيا العرض التي ساهم فيها الفنان كريم رشيد، والديكور الذي أبدع فيه سيروان جمال قد لعبت بمجملها دوراً مهماً في تعميق الدلالات والإحالات التي يزدان العرض المسرحي الذي تألق فيه كل من الممثلين ( Auk Oosterhof ) وشمال عبه رش والمخرج رسول الصغير الذي بدأ يمتلك بصمته الإخراجية الخاصة ضمن المشهد المسرحي الهولندي.