|
فضائل النقد والمجتمعات الغيبية المقدسة
عاصم بدرالدين
الحوار المتمدن-العدد: 2273 - 2008 / 5 / 6 - 10:55
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
من خصائص المجتمعات الغيبية، رفضها للحساب الدنيوي، على أساس أن الإنسان عندما يخرج من هذه الحياة جسداً متحجراً جامداً وتطير روحه إلى مكان ما يرمز له بالسماء، ينتظر فيها يوم الحساب الأصلي. في الإسلام يسمى "يوم القيامة" حيث يستفيق الأموات من قبورهم ليحاسبوا طبقاً لأعمالهم. وفي المسيحية يسمى "يوم الدينونة" الفاصل بين القيامة (قيامة الأموات) والأبدية. المجتمع الغيبي لا يعترف بالقضاء العادي، لذا نراه يعمل بأفراده وناسه دوماً من أجل أخرته حيث الحساب الذي سيحسم موقعه الأخير المتأرجح بين الجنة والنار. في الحقيقة هذه النظرة قد تستحيل إلى كارثة فعلية على السلطات القائمة. رغم أن الشريعة الإسلامية المطبقة في العديد من الدول العربية، تعاقب المجرم بأشكال جد بدائية ومتخلفة تتراوح بين الجلد والبتر والقطع، لكن هذا العقاب وحسب العرف ليس ذو قيمة، لأن الحساب الحقيقي في ذلك اليوم، حين يلتقي الإنسان وجه ربه، في يوم الحشر. ولئن الحساب الأرضي بهذه القسوة فكيف سيكون حساب الآخرة؟!
هذا الأمر يبرز أيضاً في الخطاب التقليدي اليومي. حينما يموت شخص ما، أي شخص على إختلاف أهميته الإجتماعية، نقول ببداهة وتلقائية "رحمه الله، لا تجوز على الميت سوى الرحمة" ونحيل أعماله إلى الحساب الميتافيزيقي. أو العقاب الديني في يوم الحساب. لكن هذا الأمر خطير، وخاصة أنه ينتشر بشكل كثيف في مجتمعاتنا المصنفة على أنها غيبية. فالميت وخاصة إذا كان رجل ذو شأن سياسي أو إقتصادي أو عسكري، لا بد أن يكون له أخطاء. هذه النزعة "الترحيمية" -إذا جاز التعبير- أو "التسامحية" هي إحدى أكبر الأسباب في بقاءنا في أماكننا دون حراك أو تقدم. لأن عملية الحساب الفكري تنطوي تحت بنود النقد، والنقد هو فعل ضروري لنهوض أي مجتمع وتطوره. لأنه يفتح الباب أمام الكشف عن الأخطاء والهفوات والخطوات الناقصة، وبالتالي السعي إلى تصحيحها وإتخاذ إجراءات وقائية تساعد على الحد من سلبيات هذه الأفعال وتسير بنا قدوماً.. وهذا ما يميزنا كبشر عن باقي الكائنات، حيث أننا الوحيدين القادرين عبر إستعمال العقل على تعديل وتصحيح أفعالنا، عكس الغريزة الحيوانية الثابتة والموجهة. غياب النقد الإجتماعي والسياسي والثقافي، هو الدليل الأبرز على غياب الوعي لدى الناس والطبقة الفكرية المثقفة المخولة القيام بهذا النقد. وهذا الأمر نشهده في لبنان بشكل جلي، كما في كل المجتمعات العربية والعلمثالثية عموماً. فلا يمكن لأي إنسان مر على هذه الدنيا، أن يتركها دون أخطاء وهفوات، بعيداً عن حجم هذه الأخطاء وتأثيراتها، ولكنها ستكون حتماً موجودة. فكيف إذا كان الشخص المتوفى رجل علم أو سياسة أو فكر ورأي؟ وكلما زادت أهمية المتوفى وإرتفع شأنه، صارت أخطاؤه أو أفعاله أكثر فعالية وتأثير. ونقصد هنا الطبقة السياسية تحديداً. أذكر تماماً عندما أغتيل الرئيس رفيق الحريري غاب النقد. طبعاً المصاب جلل والإغتيال حادث خطير وخاصة أنه أصاب رجلاً بحجم وقيمة الرئيس الحريري العربية والدولية، لكن اليوم وبعد مضي ثلاث سنوات ونيف على إستشهاده في تفجير مروع، لا يزال النقد الجدي البناء والعلمي يغيب عن المرحلة الحريرية التي لا يمكننا مهما كنا متطرفين في أرانا أو متعامين أن ننكر أن لها اليد الطولة في الوضع الذي وصلنا إليه ومعها بقية القوى السياسية بالطبع. لم نقرأ -حتى الآن- غير المقالات والكتب الممجدة لمشاريع الشهيد الحريري وأفكاره الإقتصادية ومساعداته الخيرية، رغم أننا نرزح تحت وطأة دين خارجي هائل تخطى الأربعين مليار دولار أميركي وعجز إقتصادي فاجر وفساد يستبيح كل المؤسسات الحكومية والإدارات العامة، كما أن الطائفة السنية التي يمثلها تيار الحريري اليوم، والتي يفتخر اللبنانيين أنها إرتدت إلى لبنانيتها بعد إنتفاضة الإستقلال، تحولت إلى مجموعة طائفية متحجرة مغلقة قابلة للإنفجار في أي وقت، كبقية الملل اللبنانية. ويجب أن نميِّز هنا بين النقد البناء، والمغالاة السياسية التي لا تبغي سوى تسجيل النقاط سلبية على حساب الأخر-الخصم. بينما النقد يهدف إلى تصحيح الأخطاء بهدف الوصول إلى حال أفضل من التي نحن فيها. وعندما توفي الإعلامي المخضرم جوزف سماحة في لندن منذ أكثر من سنة، لم نقرأ أي مقال نقدي، لمسيرة هذا الكاتب الفذ، الذي يصفه سمير قصير في كتابه تاريخ بيروت، أنه أفضل معلق سياسي في التاريخ العربي الحديث. مهما كنا مؤيدين لما يكتبه الراحل سماحة، لا نقدر أن ننفي وجود الأخطاء. وفي حال إنعدامها –وهذا أمر مشكوك فيه- يمكننا تحليل ومناقشة الطريق الفكري التي سلكها الراحل سماحة ومواقفه السياسية، والتي لم يتناولها إلا الأستاذ وسام سعادة من على صفحات السفير وأخرى للأستاذ زياد ماجد في جريدة النهار-على ما أذكر-. أما باقي المقالات فإقتصرت على التأكيد على الخسارة الكبيرة والمبكرة التي منيت بها الصحافة العربية، وهم على حق بأي حال، أو ركزت على الجانب الشخصي الخاص. وعندما أغتيل القيادي العسكري في حزب الله الحاج عماد مغنية (رضوان) بإنفجار أودى بحياته في منطقة كفرسوسة السورية، إنبرت جميع الأقلام لتتحدث عن أمجاد الشهيد مغنية، متناسين النقاط السوداء الموضوعة على مسيرته النضالية المثيرة. فغاب النقد، وكانت النشوة بالشهيد الراحل، مما سيؤثر سلباً وبشكل رئيسي ومباشر على المقاومة التي كان يعمل لصالحها الشهيد مغنية. بمعنى أن هذه المقاومة التي تهرب دائماً من فضائل النقد، ستخسر كثيراً، فالنقد وكما قلنا بوجهه الإيجابي المطلوب، يساعد الأمم كلها على النمو. فكيف، إذاً، بحركات المقاومة؟ فمثلاً، نهج إختطاف الطائرات ومنها الطائرة الكويتية الذي أدى إلى مقتل العديد من المدنيين الأبرياء والتي لم تتطرق لها وسائل الإعلام اللبنانية، بل تم التغاضي عنها بشكل سافر وغريب، وكذلك إختطاف العديد من المفكرين في الضاحية الجنوبية لبيروت وقتلهم لاحقاً ومنهم المفكر الفرنسي ميشال سورا. كل هذا غاب عن النصوص التي تناولت الشهيد عماد مغنية، رغم أنها كانت جد ضرورية وملحة لنقد عمل المقاومة أو حزب الله في السنوات الأولى على بدأ نشاطه. وإمتلأت الصحف بعبارات التمجيد، التي لا طائل منها حقيقة، سوى ملأ الصفحات والوقت الضائع. وعندما توفيت الأديبة مي المر، شقيقة النائب ميشال المر، إنقسم الإعلام اللبناني أو الإعلاميين اللبنانيين إلى قسمين للمرة الأولى حول هكذا موضوع. الأول مجد الراحلة، والأخر تناول سيرتها بطريقة نقدية، تراوحت بين النقد البناء والنقد الفظ. فكتب الأديب الياس خوري في جريدة القدس العربي التالي: "ماتت مي المر، ونشرت الصحف المراثي، لكن لم يتذكر أحد خطابها أمام وزارة الدفاع الاسرائيلية لتشد من أزر بطلها الذي واجه إحتمالات سقوطه النهائي -ويقصد هنا أرييل شارون- (...)هذا التناسي، وهذا الاستنكاف الثقافي عن قول الحقيقة، لا يدل سوي علي موت الثقافة وقبولها بأن تصبح هامشاً ترفيهياً لا علاقة له بالواقع، إنها مجرد أداة تزيينية، لذا لا تؤخذ في شكل جدي(...) هذا المناخ التسامحي الكاذب، هو أحد أسباب تهميش الثقافة، والتوقف عنده اليوم مسألة ضرورية، كي لا تستمر لعبة التكاذب، والدجل، بحيث تجد الثقافة العربية نفسها وقد تلاشت(...)لا تجوز علي الأموات سوي الرحمة، لكن الاحياء الصامتين والمتواطئين يستحقون اللعنة."
مع تأييدي الكامل لما قاله الروائي الياس خوري، إلا أني أختلف معه تماماً في النقطة الأخيرة، بمعناها الوجودي الدنيوي. فالميت مهما كان شأنه يجب أن يدخل في آلة النقد، لنستخلص من تجربته العبر، ونحقق تطوراً منشوداً منذ عشرات السنين في بلداننا. فالنقد أداة تطور ونهوض، وخاصة في المجال الثقافي-الأساس في تحضر أي مجتمع- الذي يشير إليه خوري. لذا لا بد للصحافة العربية، أن تفعِّل جهازها النقدي وتطوره، وأن تستبدل صيغة التقرير الوصفي المعتمد حالياً، بالتقرير النقدي والوصفي في الآن معاً. والأنكى، أن عائلات الضحايا أو الأموات أنفسهم هم الذين يشكلون العائق الأصل أمام إتمام عملية النقد لمسيرة أبنهم الراحل، ومن ثم تدخل كل هذه الأمور، كغيرها، بالتوظيف الطائفي السميك والمقزز. فنقد مسيرة الشهيد الحريري يعتبر إستهدافاً فجاً للطائفة السنية ومن خلفها الطائف، ونقد مسيرة الشهيد مغنية يعتبر إستهدافاً خبيثاً للشيعة والمقاومة. وهنا يقع الناقد، أي ناقد، في حمى الخوف والردع، فينهار مشروعه النقدي، ومعه مشروع الوطن الحديث. فهذه الجدران المنصوبة على جثث الموت، موتاً عادياً أم إغتيالاً، تشكل جداراً عازلاً يفصل بيننا نحن الأمم المتخلفة، وبين الأمم المتحضرة المحدثة.
هل تنتهي حياة الفرد عندما يموت؟ لا أبداً، وخاصة أولئك أصحاب الشأن من رجال سياسة وفكر، حيث أن تداعيات أقوالهم وأفكارهم وأعمالهم تظل مؤثرة حتى بعد فنائهم، لذلك يجب أن تنقد وتدرس بشكل جيد. حتى أفكار الأحياء يجب أن تنقد، فالنقد فعل حداثي وقيمة حضارية. الدعوة للنقد هنا لا تقتصر على الأموات فقط، بل تتعداها للأحياء أيضاً، فالنقد ضرورة في كل مكان وكل زمان وفي كل الأحوال. لكن كيف يحصل هذا النقد ونحن نعيش تحت مظلة أنظمة ومجتمعات تقدس الأب وشمولية؟ تتلاشى وتترهل قيمة النقد في هذا النوع من المجتمعات. نقول تتلاشى إن وجدت، ولكنها في الحقيقة تنعدم. فالأب هنا هو الأب الأسري-الذكر، والأب الحزبي والأب الفكري والروحي-الديني والأب المالي وما شابه ذلك. كما أن للنقد شروط أساسية وحتمية تكون مفقودة في المجتمعات التوتاليتارية، أولها إحترام الرأي الأخر-المتخلف وتقبل النقاش والحوار، و ثانيها ضرورة تأمين أمن وطمأنينة للناقد، كي يصيغ أفكاره البناءة بشكل مفيد وثالثها إيجاد الوسائل والأدوات المناسبة لتحقيق هذا النقد وتحريرها من كل سلطة أو رقابة: وسائل الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب... كل هذه العناصر-وللأسف- مفقودة خلف قضبان الديكتاتورية العربية مثلها مثل المثقفين التنويريين. لم ننتهِ بعد من عرض واقعنا المتداعي، فزد على تقدسينا للأحياء أصبح علينا تقديس الأموات أيضاً كالمجتمعات المتخلفة ورفعهم فوق كل نقد أو جدال. حتى الآن لا زال البعض منا –وخاصة في صفوف الطبقة الثقافية والفكرية- يقدس المرحلة الناصرية وزعميها جمال عبد الناصر، ويحجب عنه وعنها وعنا النقد. والأمر نفسه بالنسبة لحكم صدام حسين في العراق وحافظ الأسد في سوريا وغيرهم. فالإيمان بالغيب غالباً ما يترافق مع التقديس والتأليه، وفي الحالين، وبناءاً عليهما، ندرك تماماً سبب غرقنا الأبدي في حلقة التخلف البائدة.
#عاصم_بدرالدين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كابوس
-
الكذبة الحقيقية
-
في شؤون -المحادل- والديمقراطية
-
ساقطة.. ساقطة.. ساقطة
-
شهداء مجانين
-
بل بحبل مشنقة
-
-الحسبة- والمواطن السعودي
-
الله إلكترونياً: تسعيرات واضحة!
-
تضامناً مع وفاء سلطان:ماذا عن الرأي الآخر؟
-
هي لحظة
-
ماذا عن ميشال سورا؟
-
لا أريد أن أموت
-
الزواج المدني: الخطوة الأولى
-
بيروت،أدب وفن
-
حالة حب (قصة قصيرة)
-
بيروت:-مملكة الغرباء-
-
غزة فوق الحصار
-
ثقافة -حرق الإطارات-
-
أسئلة وقبلة
-
القتل العادي!
المزيد.....
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|