إذا كان مقال حمزة الحسن في ( الحوار المتمدن ) 3 – 1 – 2004 يحمل عنوان ( المثقف المختلف، سعدي يوسف نموذجاً ). أقول مقدماً، أن مناقشتي هذه لا علاقة لها بسعدي تحديداً، إذ أوضحت رأيي في نتاجه الشعري والفكري من خلال دراسة ظاهرة ( الشاعر الكبير ) التي كرستها الصحافة العربية دون تأمل وتدقيق، وهي نُشرت قبل أيام في (الحوار المتمدن ) والمعنونة ( أزمة الثقافة العراقية في سياقها العربي، سعدي يوسف نموذجاً )، وهي مكتوبة قبل أكثر من ثلاث سنوات، حيث نشرت فقرات منها آنذاك في مجلة ( أبواب ) اللبنانية الفصلية، وفي ( جريدة الاتحاد ) الظبيانية. أي أن دراستي لم تكن رداً على مواقف سعدي الأخيرة مما يدور في العراق بعد الاحتلال كما قد يتصور البعض، إنما أضفت سطوراً قليلة في نهاية الدراسة للترابط الموضوعي بين طبيعة سعدي يوسف الثقافية وبين مواقفه الأخيرة، فهو لا يملك أن يفعل إلا ما يفعله الآن بحكم المصلحة والنمط الثقافي السائد الذي يعيش في كنفه.
أن مقالات حمزة الحسن السابقة تتشابه وتكرر نفسها، بما فيها مقاله المذكور الذي سنحاول أن نناقشه هنا :
إن الأساس العلمي والشرط الأول في أي حوار أو موقف معرفي، هو أنك عندما تفترض شيئاً أو رأياً أو تسبغ صفة ما على شخص أو ظاهرة، يتوجب عليك أن تبرهن على ما تقول كي يحترمك القارىء ويأخذ رأيك على محمل الجد. وهذا ما لم يفعله حمزة الحسن الذي أفترض أن سعدي يوسف ( مثقف مختلف )، دون أن يقول لنا كيف وبماذا هو مختلف !! ومختلف عن من ؟! وعلى أي أساس ؟! وما هو الدليل ؟!
عدم وجود أجوبة على هذه الأسئلة في مقال حمزة الحسن، يجعل المقال دون قيمة تذكر، إلا إذا كان الحوار يدور في مقاهي ( علاوي الحلة ) أو في أحد الحمامات العامة.
لا أهمية في الواقع لآراء حمزة الحسن بسعدي يوسف بسبب اعتباطيتها، ولا أعتقد بأن سعدي نفسه يصدق ما قاله عنه حمزة، فهو يعرف نفسه وإمكانياته أكثر من حمزة، ويستطيع أي شخص أن يسأله عن ذلك.
لكن أهمية ما كتبه حمزة تكمن في المقال ذاته، أي في أسلوبه ومحتواه والدلالات التي ينطوي عليها. فهو أغدق على سعدي صفات قدسية، هي نفس الصفات التي كان يغدقها كتاب عراقيون وعرب على صدام حسين، وهم فعلوا ذلك ليس من أجل المال فقط، كما قد يتصور البعض، بل وأيضاً لإرضاء نزعة الدونية القابعة في أعماقهم. دونية الضحية التي تشتاق لجلادها وتبحث عنه ولا تستقر إلا في ظلاله لتبدأ التغريد !! علماً أن حمزة هو أحد ضحايا سعدي الذي يقول في إحدى مقابلاته ( الثقافة العراقية في تدهور شامل ولا فرق بين ما يكتب في الداخل أو في السويد .. يوجد كذب كبير لا يصدق ) !!
فحمزة الذي يمجد الاختلاف وشخصية المثقف المختلف من خلال تمجيده لسعدي يوسف، لا يعي ولا يعرف بأنه يمارس التشابه والتطابق والتكرار مع الأشباه والمتطابقين والمكررين من الكتاب العراقيين والعرب الذي مجدوا جلاد العراق !!
وإليك الأمثلة : لم يجد حمزة الحسن من بين الكتاب العرب من يستشهد به لتدعيم موقفه غير مطاع صفدي، وهذا الصفدي هو أحد تجار الثقافة العربية ودونييها، الذين مجدوا صدام حسين أيما تمجيد وساهموا بدفعه للإيغال في دمائنا وتدمير بلادنا. وسنرى عبر المطابقة كيف يكرر حمزة ما قاله صفدي. ففي العدد الحادي عشر من مجلة ( آفاق عربية) 1989 نشر صفدي مقالاً عن صدام عنوانه ( مدخل في قراءة القائد التاريخي ) يقول فيه ( من هنا تاريخية القائد. أنه يدخل وشعبه مغامرة الاختلاف – قائد مختلف !! – والاستثناء من أوسع أبوابها. أنه محكوم بالخلق والتجديد والتأسيس وإعادة التأسيس. إنه مستنفر حتى خارج الإيقاع لكي ينسج اللحن الذي يتجاوز إيقاعه دائماً ويستبقيه. أنه محترف انتصارات تتجاوز بعضها ) بدء من الأنفال إلى حلبجة إلى المقابر الجماعية. وكل هذا التمجيد الرخيص يكرره حمزة بمفردات شبيهة أو مرادفات لا تختلف من حيث الجوهر ليسقطها على سعدي يوسف !!
يقول صفدي ( ليس هو سوى لحظة القطيعة بين الركون إلى الأمان، والاندفاع إلى عنف التكوين ليس كرد على التهديد بل كفعل اختراق ) ويكرر حمزة ( لكنه يمارس القطيعة مع كل الأشياء بدءاً من ذاته : لذلك فهو غريب ومدهش .. )
ويقول صفدي ( يبدو كما لو أنه يجلس خارج القاعدة، لكنه ليس شذوذاً بل اختراقاً. والاختراق يعني إمكانية التحليق خارج الشبكة المعتادة ) فيكرر حمزة ( هذا المنفصم ليس شاذاً، لكنه النادر والمدهش .. ) أو ( أنه استثناء وليس فائضاً عن الحاجة في المؤسسة ودخيل وطارئ وغريب غربيتين : غربة النوع وغربة الشكل لكنه الاستثناء الذي ينـتصب )
وبعد هذه العبارات المفعمة بمفردات مثل ( ينتصب. اندفاع. اختراق ) يختتم كل من الكاتبين مقاليهما بغزل مثير للاستغراب، يقول صفدي مخاطباً نفسه ( أنت إذن. أنت لا تدخل في قصيد القائد. لا تفردنه. لا تشخصنه. لا تسبح في يـمّه، لا تموج في خضمه. لكنك قد تتصل بموجته. قد تعلق بمرساته فتكتشف فضة الخضم في لؤلؤته. واللؤلؤة صدفة الخضم العظيم ) ويقول حمزة ( يختار العزلة، شقة مدهشة وجميلة ورائعة تليق بملك طفل منذور لزمن في نار الصاعقة، أو في مغارة يحولها إلى عش للفرح المخبوء في السحاب : إذن دعوه لأحلامه ) مبروك !!
وفي افتتاحية نفس العدد من ( آفاق عربية ) المعنونة ( إطلالة المجد التي زهوها صدام ) يقول رئيس التحرير وأحد معسكري الثقافة العراقية خلال الحرب ضد إيران، محسن جاسم الموسوي : ( إن هذه الارادات لا تظهر إلا عندما يأتي ذلك الشوق الذي تتفجر عنده شرارة الخلق والإبداع، تماماً كما هو شأن الأرض الصالحة عندما يتدفق النبع منها وتوجد في رحابـها البذرة المنتجة الخيرة، والنبع والبذرة هما اللذان يأتيان للعراق بالخير والمجد، ما داما ينبعثان من ابنه البار وقائده الملهم صدام حسين )
ويردد حمزة صدى هذا الكلام : ( هو منذور للغيب ولأمطار لا تزال في البحر، ولأيام ترقد في لحاء الشجر : إنه دليل الريح إلى السحاب. هو نبي تركه أهله في صحراء وتركوا له موقداً، إنه أيوب العصر ينوح في ضواحي مدن الحجر والثلج، منتظراً الثلج الأول والأمطار الأولى، نحو رحلة أخرى صوب مدن الملح : إنه سعدي يوسف )
إن هذه الطريقة العبودية في التفكير الهادفة لأسطرة البشر تنطوي على فضيحة أخلاقية وفقاً لأعراف الثقافة الحقوقية المعاصرة. فهذا التمجيد الذي يأتي من ذات دنيا إلى ذات عليا تُسبغ عليها القدرات الكلية والصفات الأسطورية. هو ذاته من حيث شكل الخطاب ودوافع القول. وهو متكرر ومتشابه ومنسوخ بنفس الصيغ والمترادفات ( القائد الملهم = النبي ) ( النبع = الأمطار) ( يتدفق النبع منها وتوجد في رحابها البذرة المنتجة = إنه دليل الريح إلى السحاب ) حيث يتطابق ويتشابه دور الموسوي أمام صدام مع دور حمزة أمام سعدي. وإذ تفضح الضحية شوقها المخذول أمام الجلاد أو شبيه الجلاد، حيث شخصية سعدي بالنسبة لحمزة هنا، هي رمز واستعاضة شبحية تنـتجها عوالم اللاشعور دون إرادة الضحية، ولكنها تصبح مقبولة ومرغوبة لأنـها تهدّأ العقدة وتتلاءم معها.
إن من يدافع عن ( المثقف المختلف ) ينبغي أن يكون هو بدوره مثقفاً ومختلفاً، لكن ما يفعله حمزة الحسن هو ترديد أفكار الآخرين ومفرداتهم. وبسبب هذه الركاكة الثقافية فهو يتناقض من سطر إلى آخر، فمرة يقول ( لا يشبه القمر وليس نبياً ) وبعد قليل يقول ( هو نبي تركه أهله في الصحراء ) !!
ومرة يقول ( لم يعرف تاريخ المنطقة نموذج المثقف المختلف إلا في حالات لا يحتفل بـها .. ) وبعد قليل يقول ( وعرف فقهاء المسلمون – الصحيح فقهاء المسلمين – هذه الظاهرة قديماً وشرعوا للاختلافات الفكرية والمذهبية والدينية والفردية والعقائدية في إطار نخبوي فقط، بل كان الفقهاء في مراحل من التاريخ قد حاورا حتى أصحاب الملل والأديان غير السماوية ) !! وهذه التناقضات هي دليل التعيّش المعلوماتي والثقافة الشفوية، لأن تاريخ المنطقة في الحقيقة هو تاريخ الاختلاف الثقافي والمثقفين المختلفين حقيقةً، كالخوارج والمعتزلة والمتصوفة والقرامطة .. الخ.
ومن جهة أخرى، وحيث ناقش العديد من الكتاب العراقيين سعدي يوسف على آرائه خاصة في الفترة الأخيرة، وهذا حقهم الطبيعي بغض النظر عن الخطأ والصواب، لكن حمزة الحسن الذي طالما شكا وهاجم وأدان وشتم الأحزاب والمثقفين والثقافة العراقية، لأنها ثقافة إقصاء وتهميش واختزال كما يقول، تبنى خلال مقاله هذا كل تلك السلبيات والعاهات الثقافية وأسقطها على كل من أعطى نفسه حق مناقشة صدام عفواً سعدي يوسف، بوصفهم مجرد قطيع !! لأنه لا يحق لهم مناقشة السيد الرئيس أو المثقف المختلف. وهذا الموقف في الواقع لا يليق إلا بجندي نازي خارج من تحت معطف غوبلز.
وبخصوص ترديد حمزة لأفكار الآخرين دون أن يشير لمصدرها، يقول في مقاله اللاحق في ( الحوار المتمدن ) 5 – 1 –2004 ( إن الذي يجعل الإنسان جميلاً ويميزه عن الوحش البشري أو الأسطوري ليس الشكل، بل وضوح حس العدالة ) وأنا أدعوه ليتذكر أين ولمن قرأ أفكاراً مثل ( العدالة هي الوجه الآخر للجمال، بمعنى أنت جميل بقدر ما أنت عادل ) أو ( إن صراع الخير والشر هو ذاته صراع الجميل ونقيضه، صراع الفطنة والبلادة، هو بالتالي حالة الإنسان وأشواقه العميقة في مواجهة كل ما يناقضها من غطرسة وغرور واضطراب) عليه أن يعود لبعض الكتب والجرائد التي كان ينشر مقالاته فيها، ليتأكد كم استفاد من الآخرين وردد أفكارهم قبل أن يتحدث عن ( المثقف المختلف ) ويتمرجل عليهم ثقافياً !!
إن حمزة الحسن ضحية تدعو للحزن حقاً، فهو إنسان حساس على ما يبدو، وله كفاءة أدبية مهما كان مستواها، إلا أن مأساته تكمن في كونه من تلك الأجيال العراقية سيئة الحظ، التي فتحت عيونها على هذه الدنيا ولم تجد أمامها سوى تكشيرة صدام حسين الكريهة وبسطال برزان التكريتي ومقالات محسن الموسوي ومطاع صفدي والأشباه الآخرين، لتعاني الملاحقة والتهديد على أرض ترقد تحتها السجون والمقابر الجماعية بينما دخان الحروب يتصاعد منها لأكثر من عقدين !! إنها مأساتنا جميعاً، لكن على الثقافة العراقية، كما حدث في ثقافات أخرى، أن تواجه قدرها معرفياً، وبشجاعة المجتمع المتشبث بحريته وكرامته الإنسانية، لتشرع في إنشاء ثقافة علمية وديمقراطية بديلة، لا أن تخضع لطواطم الماضي وتكرر لغة التقديس والأساطير وما قاله عبيد صدام الثقافيين أو تلك الشخصيات المخذولة التي ما أن واجهتها الحقيقة حتى اختلط عليها حابل بيوض التميمي بنابل مطاع صفدي !!
**********************************
أوهام القبض على الدكتاتور 11 المثققف المختلف، سعدي يوسف نموذجا
http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?aid=13266