إن الضغط الذي مارسته التحولات العميقة التي كانت تجري في المجتمعات الأوربية ولا تزال على المشتغلين في الحقل الثقافي والفكري من داخل المنظومة الفكرية الإسلامية دفعتهم للتفتيش في المرجعية التراثية الإسلامية عن أدوات مفهومية تصلح لقراءة ما يجري في أوربا. وأمام الانبهار والتأثر بالحركة النهضوية الأوربية وفكرها التنويري وليبراليتها السياسية حاول النهضويون الإسلاميون في القرن التاسع عشر قراءتها من موقع الفكر التراثي الإسلامي وبأدواته وقد حققوا نجاحات جيدة على هذا الصعيد. فمقابل كل مصطلح أساسي في الفكر الليبرالي حاولوا أن يجدوا ما يقابله في الفكر التراثي الإسلامي، فمقابل الديمقراطية والعقد الاجتماعي والتمدن والمنفعة وغيرها أصبح لديهم الشورى والتضامن الاجتماعي والعمران والصالح العام(1) . ومع أن النزعات الإصلاحية كانت واضحة لدى الجيل الأول من المفكرين النهضويين الإسلاميين إلا أنهم أخفقوا في تأصيل و تبيئة الفكر النهضوي الليبرالي في البلدان الإسلامية. من جهة لأنهم قرءوه بغير أدواته فجاءت قراءتهم انتقائية، ومن جهة ثانية لعمق واستقرار المرجعية التراثية الإسلامية في الوعي العام. مع ذلك فقد قدموا في الحقل السياسي مساهمات هامة جاءت متقدمة كثيراً على مساهمات العديد من المفكرين الإسلاميين النهضويين التاليين وبشكل خاص مساهمات العاملين منهم في الحقل السياسي. ومن بين أعلام تلك المرحلة يعتبر الطهطاوي بحق أول من وضع أسس التفكير السياسي الحديث بالديمقراطية في كتابه " تخليص الإبريز في تلخيص باريز " الذي صدر في عام 1834. وقد تطور فكر الطهطاوي لاحقا بحيث أخذ ينظر إلى الديمقراطية نظرة شاملة أوسع شملت الحقل الاجتماعي والاقتصادي إلى جانب الحقل السياسي (2).
ومن يتفحص كتاب خير الدين التونسي " أقوم المسالك في معرفة أصول الممالك " الصادر في عام 1867 يكتشف عمق وشمولية حضور الفكر الديمقراطي لديه والذي عبر عنه من خلال منظومته الفكرية الإسلامية. ففي موضوعات الكتاب وتحت عناوين فرعية نقرأ: "مطلب اقتضاء الظلم لخراب العمران " و " مطلب وجود المشورة وتغيير المنكر ونتائجها" و " مطلب أن استقامة سيرة الوزير لا تفي بمصالح المملكة إذا لم يكن لإدارتها
قوانين ضابطة " و" مطلب عواقب الاستبداد والعمل بالرأي الواحد " وغيرها كثير مما يتلاقى مع الفكر التنويري الديمقراطي (3).
وفي سياق انشغال جمال الدين الأفغاني في البحث عن أسباب تخلف المسلمين بالمقارنة مع نهضة وتقدم أوربا وجد من بين الأسباب سبب يتعلق بـ "غياب العدل والشورى" وتفرد الحكام المسلمين بالسلطة وممارستها من خلال تحكيم القوة القاهرة في رقاب العباد حتى تأصل في نفوسهم "الذل والاستكانة والخلود للرقاد". ولم يجد الأفغاني بديلا للخروج من هذه الحالة المستحكمة التي وصلت إليها الشعوب الإسلامية غير إشراك " الأمة في حكم البلاد عن طريق الشورى وانتخاب نواب الأمة"(4).
وتتطرق الكواكبي أيضا إلى أسباب تخلف العرب والمسلمين فوجدها عديدة من بينها أسباب دينية وأخرى أخلاقية وثالثة سياسية وقد شرح ذلك في كتابيه : أم القرى أو طبائع الاستبداد. فحسب الكواكبي فإن " أعظم فائدة استفادها أهل الشرق من الأوربيين معرفة ما ينبغي أن تكون عليه الحكومة واصطباغ نفوسهم بها "(5) . ويزيد عبد الرحمن الكواكبي فيعتبر أن أولئك الساسة والحكام الذين يحاولون الخلط بين السياسة والدين لا يتمسكون بالدين إلا بقدر تمكينهم من البسطاء وإن " موقفهم هذا لا أصل له في الإسلام كدين "(6).
وفي كتابه " الإسلام وأصول الحكم" دعا الشيخ علي عبد الرازق إلى فصل الشريعة عن النظام السياسي، وحسب رأيه "لا شيء في الدين يمنع المسلمين أن يسابقوا الأمم الأخرى في علوم الاجتماع والسياسة كلها وأن يهدموا ذلك النظام العتيق الذي ذلوا له واستكانوا إليه وأن يبنوا قواعد ملكهم ونظام حكومتهم على أحدث ما أنتجته العقول البشرية وأمتن ما دلت تجارب
الأمم على انه خير أصول الحكم "(7). وأضاف أن الخلافة ليست من أصول الدين وليس في الإسلام شكل محدد إسلامي للسلطة (8). وأكد ذلك محمد عبده في قوله " ليس في الإسلام سلطة دينية سوى سلطة الموعظة الحسنة للدعوة إلى الخير والتنفير من الشر" (9).
وقد ربط الكثيرون منهم بين التقدم والشورى وبين التخلف والاستبداد ورسموا حدودا واضحة بين مجال الدولة ومجال الدين دون أن يصلوا إلى حد القطيعة. بل وبسبب الموقف الانتقائي فقد جعلوا على الفكر النهضوي الأوربي قيوداً ليست من طبيعته، بحيث يأتي متوافقا مع الشريعة، مما قاد العديد منهم إلى التناقض والتلفيق. فعلى سبيل المثال اعتبر الطهطاوي الملك خليفة الله في الأرض، حسابه على ربه وبالتالي ليس في فعله مسؤولية لأحد من رعاياه(10) . لكن بعض المفكرين النهضويين من الجيل الثاني من ذهب شوطا بعيدا باتجاه العلمانية والديمقراطية وخير مثال على ذلك علي عبد الرازق وبن باديس .
المراجع
1-التيزيني ، الطيب " إشكالية الأصالة والمعاصرة في الوطن العربي". ورقة قدمت إلى الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية تحت عنوان (( التراث وتحديات العصر في الوطن العربي)) ط2،(بيروت ، المركز،1987 ) ص91
2-عوض، لويس ،" تاريخ الفكر المصري الحديث "،ج2،(القاهرة،دار الهلال،1969) ص95.
3-التونسي ، خير الدين ، " أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك "، تقديم وتحقيق المنصف المشنوفي(تونس،الدار التونسية للنشر ،1972) ص 32.
4-الأفغاني ،جمال الدين ،" خاطرات :مصر والحكم النيابي" في الأعمال الكاملة ، تحقيق ودراسة محمد عمارة ( القاهرة ، دار الكتاب العربي ،1968) ص473.
5-الكواكبي،عبد الرحمن ، الأعمال الكاملة ، تحقيق محمد عمارة ( القاهرة ، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، 1970) ص 151.
6-عمارة ، محمد " نظرة جديدة إلى التراث"، ( بيروت والقاهرة ،المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1979) ص 186.
7- الدجاني ،أحمد صدقي،"تطور مفاهيم الديمقراطية في الفكر العربي الحديث " في "أزمة الديمقراطية في الوطن العربي "، بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية (بيروت ، المركز،1987) ص 138.
8-بشارة،عزمي،" مدخل إلى معالجة الديمقراطية وأنماط التدين"،في" حول الخيار الديمقراطي"،مجموعة من المؤلفين( بيروت،مركز دراسات الوحدة العربية،1994)، ص 70
9-العيسمي ، شبلي، " العلمانية والدولة الدينية "، (بغداد ،دار الشؤون الثقافية،1989 ) ص32.
10- التواني ، مصطفى(1991)،" أثر الثورة الفرنسية في فكر النهضة" ص 36 ،تونس