النهج الديمقراطي العمالي
الحوار المتمدن-العدد: 704 - 2004 / 1 / 5 - 08:02
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي
أقصى اليسار في المغرب عبد الله الحريف الكاتب الوطني للنهج الديمقراطي في استجواب له مع جريدة الصباح الأعداد1133-1136 (السبت 29 نونبر – الأربعاء 3 دجنبر 2003
لا يمكن تناول تجربة أقصى اليسار في المغرب, دون الحديث عن "إلى الأمام" فقد مثلت إحدى منظماته الكبرى, وبذلك ظلت تشغل بال المتتبعين والمهتمين بعنادها ودفاعها المستميت عن أفكارها.. إن لم يكن يتعز يدها خارج السرب على الدوام...
"إلى الأمام" في تقديري ملمح من ملامح المغرب المعاصر.. وفي انخراطها النهائي في النضال الديمقراطي كسب للوطن والشعب.. للاقتراب من هذه التجربة ارتأينا محاورة عبد الله لحريف الكاتب الوطني لحركة النهج الديمقراطي.
· بين لحظة اعتقالك في بداية 1975, ولحظة استضافتك في القناة الأولى, عشية انتخابات 27 شتمبر 2002, ككاتب وطني لحركة النهج الديمقراطي التي تمثل الامتداد التاريخي لمنظمة إلى الأمام, يبدو أن مياها غزيرة قد تدفقت تحت الجسر!
· يبدو لي أن تغيرات أساسية قد طالت المجتمع المغربي بمختلف طبقاته, وهكذا فإن الطبقات السائدة قد قطعت أشواطا في ما يتصل بهيكلتها وامتلاكها القوة الاقتصادية, كما أن أزمة الطبقات الوسطى قد تفاقمت, فهي تطمح وبقوة إلى تحسين أوضاعها, لكن الواقع الموضوعي يؤدي إلى اندحارها, وهو ما يفسر بروز عدد من الظواهر الخاصة بهذه الطبقات, كما يمكن اعتبارها عاملا مشجعا إلى حد ما لتنامي بعض القوى السياسية المرتبطة بهذه الطبقات الاجتماعية... أما في ما يتعلق بالطبقات الكادحة والطبقة العاملة تحديدا, فهناك تنام ملحوظ لهذه الطبقة إن على المستوى العددي وإن على مستوى البنية الاجتماعية, إذ يسجل التحاق أعداد واسعة من الشباب المتمدرس بها.. وهو ما يعطي إمكانات للعمل النضالي, لكن مع وجود مشاكل وأزمات تعاني منها النقابات بفعل التشتت وطبيعة القيادات النقابية في أهم المركزيات العمالية.. ظاهرة أخرى تستحق الاهتمام وتتمثل في تضخم المدن, إذ خلال سبع عشرة سنة التي قضيتها في السجن اتسعت المدن بشكل كبير... واتسعت معها بالخصوص الأحياء الشعبية وأحزمة الفقر, وهو ما يرتبط في جانب منه بالتحولات الديمغرافية... وهذا بدوره قد يسهم في تفسير بعض الظواهر السياسية التي نلاحظها الآن...
أما على المستوى السياسي فيبرز أن هناك تراجعا قويا للفكر الماركسي والجذري بشكل عام, كما أن هناك تراجعا للقوى السياسية التقليدية في مواجهة المخزن, هذا الأخير الذي تقوى بعد أن استطاع تجاوز المشاكل التي واجهته في بداية السبعينات, وهو ما يتجلى في تقوية جهاز الدولة في مختلف مرافقه ومستوياته... ويلاحظ أن تضخم جهاز الدولة قد قاد إلى بداية احتلال مساحات من المجتمع وهو ربما ما تؤكده هيمنة إدريس البصري الذي كان يتدخل في كل شيء ويسعى إلى إخضاع مختلف المرافق لهيمنة الداخلية...
ورغم الحركة النضالية القوية لنهاية الثمانينات وبداية التسعينات, والمناخ الدولي الذي كانت تستفيد منه هذه الحركة, فإن القوى السياسية التقليدية قد أسهمت في إجهاض هذا المد ولم تعمل على إنتزاع مكتسبات جدية للشعب المغربي...
ثم هناك سمة أخرى وهو أنه بفعل نضالات الشعب المغربي وقواه الديمقراطية ومناضليه في السجون والمنافي, يلمس الإنسان أن هناك فرقا بين مرحلة القمع الأسود التي اعتقلت في إطارها اليوم, إذ الخوف أصبح أقل... وهناك حرية أكثر لطرح أفكار ومواقف... وربما الانتقاد الواضح للدولة ولمختلف مؤسساتها...
وقد استفاد المناضلون من هذا الوضع لخلق مجموعة من الإطارات المدنية التي تهتم بمختلف قضايا الشعب من حقوق الإنسان إلى الأمازيغية, المسألة النسائية...
س * تبدو في استضافتكم في القناة الأولى إشارة سياسية قوية, كيف قرأتم أنتم في النهج الديمقراطي هذه الإشارة؟
ج * اعتبرنا ربما أن الدولة ترغب في التعرف على آرائنا من مختلف القضايا المطروحة... وقد حاولنا أن نعبر وبكل صراحة عن تقييمنا للديمقراطية الموجودة, إذ تبدو لنا في جانبها الأساسي ديمقراطية الواجهة, فرغم المكتسبات التي تم تحقيقها على المستوى الحقوقي, إلا أنه حين يتعلق الأمر بما هو جوهري أي بنية النظام نرى أن التغيير الأساسي لم يحدث بعد, وهو ما يظهر في طبيعة الدستور, إذ نعتبره دستورا ممنوحا, كما يظهر في الانتخابات التي ظلت على الدوام تجري تحت مراقبة شديدة, أي بمراعاة لما يريده المخزن بل وربما باتفاقات مسبقة لا نعرفها نحن!... وهو ما يقود إلى تردي الأوضاع, كما نلاحظ أن الانشقاقات التي تتم في صفوف القوى السياسية التقليدية هي انشقاقات تتجه نحو اليمين وليست مبادرات تسعى إلى ترسيخ عمل سياسي نزيه ومرتبط بمصالح الطبقات الكادحة وبمواجهة الاستبداد, بل هي انشقاقات للتقرب أكثر من المخزن والتودد له...
س * ألا يمكن أن نقرأ في استضافتكم في قناة عمومية انفتاحا أكبر على القوى السياسية الجذرية وتحديدا النهج الديمقراطي؟
ج * أسجل أنه لم تمارس على تدخلاتي أية رقابة حتى وإن لم يكن البث مباشرا, كما أن هذا الانفتاح يبدو محدودا, إذ في الوقت الذي يسمح للقوى التي تقبل بالمشاركة بالتعبير عن موقفها عبر التلفزيون من خلال مرات متعددة ويمنح لها الدعم وتتمكن من النشاط في الشارع, فإن القوى الجذرية كانت عرضة للمضايقات...
وقد يكون الهدف من استضافتنا ينحصر في التعرف على مواقفنا وإلى أي حد لم نعد النظر في جوانب منها... وإجمالا فهو يبقى في نظري انفتاحا محدودا ومراقبا ولا يعبر عن القبول الفعلي بأن يتم التعامل مع مختلف القوى بشكل ديمقراطي...
س * لنعد للحظة اعتقالك, كيف تستعيد هذه اللحظة في أبعادها الإنسانية والسياسية؟
ج * ربما كنا مهيئين للحظة الاعتقال, إذ أن عددا من رفاقتنا كانوا قد اعتقلوا, فالحملة انطلقت في نونبر 1974 وكادوا يعتقلوني مع بدايتها, إلا أنني لما علمت أن البوليس يبحث عني لجأت لمنزل مكترى من طرف المنظمة, حيث أقمت فيه رفقة رفيقين آخرين, والواقع أنه رغم كوننا كنا مهيئين للاعتقال فقد فوجئنا به من جانب آخر, إذ أن نظرتنا لمسألة الصمود ربما كانت تكتسي طابعا ميتافزيقيا... فنحن وإن أننا كنا مقيمين بذلك المنزل إلا كنا لا نعرف مكانه حيث كان يتولى رفيق آخر إدخالنا وإخراجنا مغمضي الجفون... كنا نخرج بهذه الطريقة للذهاب للمواعيد التي كانت تربطنا بمناضلين آخرين... ولم نكن نتصور أن يتم اعتقال ذلك الرفيق وعن طريقه تعرف الشرطة المنزل, وبالفعل فقد بقي بين أيديهم ومرت على موعدنا معه 48 ساعة دون أن نأخذ الاحتياطات اللازمة, وإذ كنا كما قلت ننطلق من نظرة مثالية لصمود المناضل... وفي تقديري ففكرة الصمود منضمة ليس فقط في مستوى مواجهة القمع المباشر, ولكن أيضا على المستوى السياسي أي الدفاع عن الأفكار الجذرية والارتباط بالطبقة العاملة ومواجهة الاستبداد... لكن جانب المثالية يتمثل في الاعتقاد أن كل المناضلين قادرون على تحمل التعذيب إلى ما لا نهاية... وخاصة حينما لا يكون هناك أمام المناضل مجال للمراوغة, كأن يتم اعتقاله ومعه مفاتيح, ففي هذه الحالة سيعمدون إلى تعذيبه من أجل معرفة عنوان البيت الذي يحمل مفاتيحه... وهذا ما حصل لرفيقنا الذي قاوم على مدى يومين, وقد تعرض بفعل صموده لمحنة قاسية...
س * هل تعرف اليوم مكان هذا المنزل؟
ج * لا أعرف مكانه بالضبط إلى حد الساعة, وإن كنت قد علمت بعد الاعتقال أنه يوجد بحي افريقيا (بالدار البيضاء)... وشخصيا كنت في إطار السرية أطبق تلك الإجراءات الاحترازية بشكل حازم, ولم يكن لدي الفضول لمعرفة الأشياء وهذه أمور تساعد... إذ هم يعذبون للوصول إلى أهداف وحين يقتنعون أنك لا تعرف شيئا ما فالعملية تصبح بلا جدوى بالنسبة إليهم...وكلما كان المناضل فضوليا كلما كان عرضة لتعذيب ربما أكثر وللكشف عن معطيات...
س * هل يمكنك تذكر لحظة الاعتقال؟
ج * في حوالي التاسعة مساء وقد كانت في حوزتهم المفاتيح فتحوا الباب دون أن نشعر بهم وهجموا علينا بشكل مباغت... لا أذكر وجوههم... كانوا ربما حوالي عشرة... وبعد ذلك, أخذونا مباشرة إلى درب مولاي الشريف.
س * اعتقلتم دون أن تقاوموا ؟
ج * لم يكن ذلك ممكنا, إذا كان المنزل دون منافذ تمكن من الهرب... كان منزلا صغيرا مكونا من غرفتين...
س * من اعتقل معك؟
ج * اعتقل معي الرفيقان فؤاد الهلالي وإدريس بنزكري, وكان ذلك في يوم 30 يناير 1975...
س * غداة حركة 3 مارس 1973 يبدو أن التمايز بين 23 مارس وإلى الأمام قد بدأ يبرز بقوة, وفي تقييمكم اليوم ألا يظهر لكم أن 23 مارس بدعوتها إلى التراجع آنذاك والتوجه للطبقة العاملة كانت قد بدأت تميل وإن بشكل نسبي إلى الواقعية؟
ج * أختلف معك بهذا الصدد, فرغم أن إلى الأمام ربما طبقت بعض الأشياء بتهور, حيث كانت تتخذ مواقف هجومية في بعض الأحيان, ضد النظام, والحال أنها معزولة... إلا أن الإيجابي لديها هو أنها لم تتبن ما سمي ب"الخط الداخلي" أي الهروب من الالتحام بالجماهير والعمل معها... خطأ إلى الأمام تمثل آنذاك في نهج المواجهة والقيام بدعاية وتحريضين قويين عبر المناشير ضد النظام وهو أمر في تقديري غير صحيح في ذلك الوقت, لكن في مقابل ذلك فإن ما كانت تقول به 23 مارس من أن النظام قوي وانه قد استعاد المبادرة ومن أجل الحفاظ على الأطر لنكتفي بالعمل الداخلي هذا أيضا غير صحيح... وإذ اعتبر أن التوجه العام لمنظمة إلى الأمام في تلك المرحلة قد كان صحيحا إلا أننا قد مارسناه على مستوى الأساليب بنوع من التهور ومن الإرادوية... وستمكن صحة التوجه العام في ما بعد من التأسيس لصمود سياسي وإيديولوجي داخل السجون والمنافي وفي الساحة في المراحل اللاحقة, كما حال دون ما حصل لعدد من الأطر التي تراجعت بالتدرج حتى اندمجت في اللعبة المخزنية وحال عدد من أحزابنا واضح للجميع...
س * هل يمكن أن نستعيد تفكيك إلى الأمام, والذي امتد من 7 نونبر 1974 إلى مارس 1976, كيف توالت حلقات المواجهة بين أجهزة الأمن وقيادة وأطر إلى الأمام؟
ج * أعرف أكثر ما جرى من نونبر 1974 إلى تاريخ اعتقالي في 30 يناير 1975...وأعتقد أن النظام استعمل أساليب مختلفة, فهناك بعض الاعتقالات التي مكنت من معلومات كما هو الأمر في اعتقال الكرفاتي, ثم هناك اعتقالات واسعة طالت أعدادا من النشطاء كانت الأجهزة تحتمل أن يكون منهم من هو منظم في إلى الأمام أو في 23 مارس, من هؤلاء النشطاء مناضلون في الاتحاد الوطني لطلبة المغرب أو في النقابة الوطنية للتلاميذ, وبعد عملية الاعتقالات الواسعة يقومون بالتصفية, وكلما تمكنوا من الإمساك بخيط يتتبعونه إلى أقصى حد ممكن, وهكذا فقد اعتقلوا في البداية الكرفاتي وهو ما قادهم إلى اعتقال ميمون شيشاح الذي قادهم بدوره إلى اعتقال عبد اللطيف زروال وهكذا... ثم هناك جانب آخر, إذ في إطار التنظيمات السرية قد تحصل انسحابات, وعادة ما يعتبر المنسحبون أنهم لم يعودوا معنيين, وعادة ما يعتبر المنسحبون أنهم لم يعودوا معنيين, لكن إمساكك الأجهزة بخيط من هذا الوسط قد يقود إلى اعتقالات لمناضلين ما زالوا يشتغلون داخل التنظيمات, وهو ما حصل في اعتقال عبد الله زعزاع الذي قاد إليه اعتقال مناضل منسحب... وقد كنا في ذلك الوقت نحاول ما أمكن الاستمرار في النقاش مع المنسحبين مما كان يبقى صلات الاتصال بيننا وبينهم.. وعادة ما يكون المنسحب حلقة ضعيفة في حال اعتقاله بفعل أنه في الغالب يكون قد تراجع عن قناعاته...
أما في المرحلة الثانية فإصرار رفاقنا على الاستمرار في المواجهة والحال أنهم كانوا معزولين, وفي ذلك خطأ سياسي.. بحيث تصرفوا وكان الصراع يدور فقط بينهم وبين الأجهزة, في حين أن الأمر يتعلق بصراع سياسي ولاشك أنهم كانوا يدركون أنهم معزولون سياسيا... وهو ما كان يقتضي أن يوقفوا حملات توزيع المناشر وكل الحركية التي كانوا منخرطين فيها بقوة... إذن ارتكبنا أخطاء سياسية بفعل إصرارنا على المواجهة والحال أن الظروف كانت تبدو في غير صالحنا, وفي ذلك بعض الاندفاع والإرادوية والاعتقاد بالثورة الوشيكة الوقوع وأنه يكفي الصمود لتتغير الأوضاع... لم يكن المطلوب الانغلاق, كما لم يكن مطلوب الاستمرار في المواجهة... كان علينا الانصراف إلى العمل مع الجماهير بكل هدوء من أجل أن نشرح لها أفكارنا وبرامجنا... كان علينا القيام بالدعاية دون تحريض...
س * كنتم ترفعون شعار الصمود وتعاملتم بقسوة مع المناضلين الذين أدلوا بأسماء, عناوين, مواعيد.. تحت التعذيب...
ج * ربما كانت القسوة تجاه المناضلين الذين يتحملون مسؤوليات في القيادة إذ كان يفترض أن يكونوا أكثر اقتناعا وقدرة على الصمود...
س * عند الانتقال من درب مولاي الشريف إلى سجن غبيلة اصدرتم من داخل الزنازن وبطريقة لا تخلو من استعراضية بيانات الطرد والتجميد في حق بعض المناضلين الذين كانوا في حالات نفسية وجسدية صعبة, من اتخذ هذه القرارات؟
ج * من الصعب علي أن أجيب على هذا السؤال, ذلك أني لم أكن في ذلك الوقت ضمن القيادة, وأعتقد في إطار منظمة سرية توجد في مواجهة النظام من الضروري اللجوء إلى بعض القسوة في المحاسبة, فهذا أمر مفروض عليها, لكن دون أن يعني أن في ذلك موقفا نهائيا من المناضلين الذين قد يكونون ارتكبوا بعض الأخطاء أو لم يواجهوا القمع بالشكل المطلوب... وحسبما أذكر فالقرارات كانت تتعلق بالتجميد وليس الطرد, أي تجميد العضوية مع الاستمرار في النقاش... لأن القسوة لا تكفي فالصمود في النهاية سياسي وإيديولوجي فإذا انعدمت القناعات لن يبقى شيء, وقد تجاوزنا هذه المسألة في السجن في ما بعد, حيث دارت نقاشات وتحديد للمسؤوليات في من أعطى من؟ وكيف حصلت الأشياء؟ واعتبرنا أن قدرات الأشخاص تتفاوت وأن البشر قد يكون في لحظات معينة عرضة للضعف.. وبالتالي فلابد من تقييم سياسي.. فلربما كان المناضلون وهم يواجهون التعذيب لا يشعرون أنهم منغرسون وسط الجماهير بما فيه الكفاية...
س * بعد محاكمتكم في بداية 1977 سيتم نقلكم إلى السجن المركزي بالقنيطرة وهنا سيتشكل مجتمع المعتقلين السياسيين الصغير, ماذا تذكر عن هذه التجربة وما سيعتمل في إطارها, إن على المستوى الإنساني أو السياسي؟
ج * لابد من الإشارة إلى مرحلة درب مولاي الشريف, إذ كانت المعاناة شديدة, فقد قضت الأغلبية بهذا المعتقل السري ما بين سنة وسنة وأربعة أشهر في ظروف قاسية حيث التعذيب والمضايقات.. وهناك كتابات كثيرة بهذا الصدد.. وبعد ذلك تم التعامل بشكل مختلف مع المجموعات... إذ تم إلحاق البعض بسجن غبيلة وتحديدا بالحي الأوربي.. ثم بعد مدة سيتم إلحاق المجموعة الثانية بسجن عين البرجة.. وقد تم وضعي شخصيا بزنزانة إنفرادية بحي العزلة بغبيلة والأمر نفسه كان بالنسبة للسرفاتي ونودا وزعزاع, حيث قضينا في هذا الوضع سنة أخرى كنا خلالها مراقبين ليل-نهار.. لكن رغم العزلة المفروضة علينا كان قد أصبح من حق عائلاتنا زيارتنا, وبذلك كنا نتمكن من إيجاد أساليب للتواصل مع المعتقلين الآخرين.. ثم بعد ذلك انطلقت بعض نضالاتنا من داخل السجن, وهكذا قمنا بإضراب لمدة 17 يوما في أواخر 1976 طالبنا فيه بالمحاكمة... وبالفعل تمت الاستجابة لمطلبنا فتم إطلاق سراح مجموعة تتكون من 105 من المعتقلين وتقديم 139 الباقين إلى المحاكمة.. وبعد المحاكمة التي كتب عن أطوارها الكثير صدرت ضدنا الأحكام وتم نقلنا إلى القنيطرة باستثناء السرفاتي... وفي السجن المركزي تم تقسيم المعتقلين من جديد على أحياء "أوب" , مع تخصيص حي العزلة لمن يعتبرون "رؤوسهم قاسحة"...
س * هل يمكن ذكر بعض الأسماء التي تم إيداعها بحي العزلة؟
ج * كنا 26 مناضلا أغلبهم من القياديين من إلى الأمام و 23 مارس, أذكر منهم المشتري بلعباس وحمادي الصافي.. من إلى الأمام وعلال الأزهر, عبد السلام المودن, عبد العالي بنشقرون, صلاح الوديع... من 23 مارس...
س * وكنت ضمن هذه المجموعة؟
ج * نعم, هذا مع الإشارة إلى أنه إلى جانب السرفاتي لم يكن نودا بدوره معنا في تلك المرحلة في المركزي إذ كان يعالج في المستشفى... وبعد أن قضينا حوالي شهر بحي العزلة تم توزيعنا على أوب... إلا أنه قد تم اختطاف محمد السريفي في ماي 77 من داخل السجن تم أخذه إلى الكوميسارية بعد أن وجدوا لديه بعض الوثائق, فأعلنا عن إضراب جديد دام 12 يوما في ظروف قاسية جدا إذ لم نكن نتناول فيه لا ماء ولا سكر... فعمدوا من جيد إلى إرجاعنا إلى حي العزلة... وبعد إطلاق السرفي من الكاشو أوقفنا الإضراب فأرجعونا من جديد إلى أوب, وهكذا بدأنا في التحضير لإضراب أواخر 1977 الذي دام 45 يوما واستشهدت خلاله سعيدة المنبهي...
س * وبعد هذا الإضراب تحسنت الأوضاع ولربما انطلقت حياة مجتمع المعتقلين الذي كانت تصل أصداؤه إلى الخارج؟
ج * كانت تجربة غنية جدا, في البداية كنا في مجتمع شبه شيوعي فقد كانت المؤونة مشتركة وربما كانت هناك بعض المبالغة... وقد استمرت التجربة لكن مع بعض المراجعة, إذ أن أذواق الأكل قد تختلف...
وهكذا استمر التضامن وإلى النهاية كما بقيت بعض المجموعات تعيش حياة مشتركة وخاصة ما يتعلق بالأكل... وقد أعطى عدد من المناضلين وقتهم لهذا الجانب إذ كانوا يشرفون على التوزيع وعلى التتبع... وأذكر الرفيق الصديق الأحرش الذي كان يساهم في هذا العمل... وإن كان الجميع قد شارك في تدبير الحياة المشتركة داخل السجن... إلا أنه كانت تفاوتات حيث هناك رفاق كانت لهم تجربة في المخيمات أو الداخليات...
س * في 1979 كانت الاصطفافات واضحة, كان هناك دعاة الشرعية ودعاة حل التنظيمات والالتحاق بالمنظمات الجماهيرية ودعاة إعادة البناء السياسي والتنظيمي, وكنت ضمن هذا الاتجاه, كيف تستعيد أجواء النقاش الفكري والسياسي الذي دار في المركزي؟
ج * لم يتم جمعنا بشكل كامل إلا سنة 1979 حيث التحق بنا السرفاتي, وسأمر على عدد من المحطات بسرعة, فبعد إضراب أواخر 1977 تم نقلنا إلى المستشفى... والدولة كانت تقول أنها دولة قانون وهو ما يعني أنها لن تستطيع الاعتراف بنا كمعتقلين سياسيين, إذ من شأن ذلك أن يمس مشروعيتها... وبذلك يمكنها أن تتعامل معك كمعتقل سياسي لكن لا يمكنها أن تعترف بك رسميا وإلا سيكون معنى ذلك اعترافها أنها تعتقل الناس من أجل أفكارهم وعملهم السياسي وليس لأنهم حملوا السلاح وقاموا بعمل إجرامي... وقد ارتكبنا خطأ سياسيا بعدم فهمنا لهذه المسألة...
فحين تفاوضوا معنا, فهمنا الأمر على أنه اعتراف بنا كمعتقلين سياسيين... لكن بعد ذلك وفي استجواب صحافي قال المعطي بوعبيد وقد كان وزيرا للعدل أنه لا وجود لمعتقلين سياسيين في المغرب, فاعتبرنا أن في ذلك تراجعا عما التزموا به...
س * من فاوض باسمكم؟
ج * أذكر الرفيق ادريس بنزكري...
س * ومن الجانب الآخر؟
ج * فتح الله ولعلو كبرلماني وربما أحد المحامين ومسؤولين من وزارة العدل...
س* اعتبرتم أن الدولة تنصلت من التزاماتها؟
ج * اعتبر أن الدولة قد تنصلت من مسؤوليتها ومن داخل المستشفى أعلنا عن إضراب عن الطعام غير محدود, فعمدوا إلى تفريقنا على ثلاثة سجون, مجموعة أخذوها إلى سجن شفشاون, وثانية إلى عين علي مومن بسطات وثالثة كنت ضمنها أعادوها إلى المركزي...
ورغم تشتيتنا الذي دام حوالي سنة إلا أن الأوضاع بدأت تتحسن ولو بالتدريج وصولا إلى التجميع وإلحاق السرفاتي بنا, كما أصبح بإمكاننا أن نلتحق بالطابق الخامس بابن سينا بالرباط من أجل العلاج... فهم قد استجابوا لمطالبنا بالتدريج فيما واصلنا نحن الضغط اليومي كرفض الالتحاق بالزنازن... إلى أن أصبحوا في مرحلة ما يكتفون فقط بأغلاق الحي مع ترك الزنازن مفتوحة ثم في ما بعد سيتركون الأبواب المؤدية إلى الساحات مفتوحة... إضافة إلى أنه أصبحت لدينا أجهزة الراديو ونتوصل بالجرائد ونستقبل بشكل مباشر عائلاتنا بل وأصبح في مقدورنا أن نتوجه وقت ما نشاء إلى المستشفى... حصل كل هذا بالتدريج, لكن يبدو أنهم قد قرروا ومنذ إضراب أواخر 1977 أن يعيدوا النظر في طريقة التعامل مع هذه المجموعة...
س * ألا يبدو لكم أن هذا التعامل يندرج ضمن المسلسل الذي دشنته الدولة بعد 1974, أي ما سمي بالمسلسل الديمقراطي بكل تناقضاته...؟
ج * كانت الدولة تدعي أن هناك ديمقراطية واحتراما لحقوق الإنسان, ثم إن المعارضة في البرلمان أيضا كانت محرجة في علاقتها بقوى الأممية الاشتراكية وإلى جانب هذا كنا نحن نمارس الضغط وهكذا فقد تحسنت الأوضاع كما أشرنا إلى ذلك... وأذكر أن آخر تفتيش تعرضنا له كان في أواخر 1979... ورغم القمع الذي أعقب انتفاضتي 1981 و1984 إلا أن مجموعتنا ظلت في منأى عن ذلك ولم يتم المساس بمكتسباتها...
س * بل يبدو للمتتبع أنكم قد أصبحتم تمثلون فاعلا سياسيا من داخل السجن... فدعاة الشرعية كانوا يسهمون بكتابتهم في "أنوال" وفي غيرها في بلورة مشروع منظمة العمل بالخصوص, دعاة العمل الجماهيري كانوا يتعاطون مع مبادرات كجملة "آفاق"التي كانت تصدر في باريس أو "جسور" وما كان يرتبط بهذين المنبرين من تحركات, وأنتم ومناضلي 23 مارس الثورية باشرتم إعادة البناء في إطار السرية من داخل السجن...
ج * عندما توفرت الظروف الملائمة, انطلق نقاش ديمقراطي واسع داخل السجن وبرزت بالفعل التوجهات الثلاثة,مجموعة من 10 مناضلين أصدرت وثيقة تعتبر أن هذه المنظمات تفتقد للمشروعية التاريخية التي تحوزها أحزاب الحركة الوطنية وبالتالي لابد من العودة لهذه الأحزاب وتحديدا الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية, وما كان يعطي لهذا الطرح بعض المصداقية هو أنه قد زامن تأسيس الكونفدرالية الديمقراطية للشغل وانخراطها في العديد من النضالات... وأذكر أن عددا من الرفاق كانوا يميلون وإن بشكل نسبي لهذا الطرح بما في ذلك الرفيق, ابراهام السرفاتي... بل وأذكر أني كنت في المستشفى وكنا نتبادل الرسائل, وكتبت له مرة أقول أنه لا يجب أن نخلط بين المواقف الظرفية لقوة سياسية ما قد تكون متقدمة وبين طبيعتها الطبقية...
وهذه أمور نقولها باستمرار ولكننا في بعض الأحيان ننساها... ننساها في هذا الاتجاه أو ذلك, فقد نعتبرها أحيانا رجعية وقد نعتبرها في أحيان أخرى ثورية...!
نحن اعتبرنا في تقييمنا للتجربة أن هناك أخطاء ولكن دون أن يعني ذلك أن المشروع في جوهره خاطئ... فتحليلنا لطبيعة النظام كان صائبا ولكن الانزلاق تمثل في الانتقال من ضرورة التركيز على الطبقة العاملة والكادحين إلى اعتبار الشبيبة المدرسية مقدمة تاكتيكية... والحال أنه رغم نضالية هذه الفئة فإنه كانت لاتزال لديها على المستوى الطبقي امكانات للترقي...ليس كما هو الحال اليوم إذ يبدو أنها مجبرة على الالتحاق بالطبقات الكادحة...فالدولة وقتذاك كانت تسعى إلى تطوير القطاع العام وهناك القروض الدولية التي كان يتم الحصول عليها بسهولة وهناك الزيادة في أسعار الفوسفاط وهو ما أعطى إمكانية للتوظيف في أسلاك الإدارة العمومية...هذا إضافة إلى سياسة في قطاع السكن ثم المغربة...
وهكذا اعتبرنا في تقييمنا أننا أخطأنا في اعتبار الشبيبة المدرسية مقدمة تاكتيكية وخلصنا لضرورة التركيز على الطبقة العاملة وعلى مناضلينا أن يتوجهوا إلى النقابات وأن يرتبطوا بالعمل الجماهيري... كما اعتبرنا أننا ارتكبنا في السابق كذلك أخطاء بهذا الصدد إذ كنا نركز على الصراع الفوقي مع البيروقراطية في الاتحاد المغربي للشغل وارتأينا القيام بعمل دؤوب طويل النفس من أجل التجدر في العمل النقابي... وقد أعطى التوجه نتائج إيجابية في ما بعد... كما قدمنا نقدا ذاتيا في ما يتعلق بأطروحة أن الثورة على الأبواب وهو ما كان يدفعنا إلى التهور والتسريع والاعتماد على الشبيبة كقنطرة للعبور إلى الطبقات الأساسية...
وفي نقاشنا بصدد المسلسل الديمقراطي اعتبرنا أن النظام قد وفر الشروط ليظل هذا المسلسل تحت مراقبته, وذلك عبر اجتثاث القوى الجذرية في الحركة الاتحادية والحركة الماركسية اللينينية إضافة إلى تأطيره الدستوري وعبر نخبه وأحزابه المصنوعة...
واعتبرنا أن الأمر يتعلق بديمقراطية شكلية يستفيد منها النظام لتقوية أركانه وبذلك كنا نعلن رفضنا للسلم الاجتماعية التي لم تدم طويلا, إذ سرعان ما دخلت ك. د.ش في العديد من المعارك, حيث كانت الأوضاع الاجتماعية تتردى بفعل الزيادات الصاروخية في الأسعار...
وانطلاقا من هذا التحليل اعتبرنا أن القوى المراهنة على هذا المسلسل لن تتمكن من تحقيق ما تطمح إليه من أهداف ديمقراطية وتحرر وطني... وبالتالي يجب إعادة البناء في إطار السرية مادام أن الطابع الغالب يظل هو القمع والاستبداد... وفي مقابل هذا سار رفاق آخرون بالتدريج في اتجاه تأسيس منظمة العمل سنة 1983.
كان هناك نقاش آخر حول المؤتمر 15 للاتحاد الوطني لطلبة المغرب سنة 1972, وإلى أي حد كانت المواقف المتخذة تتجاوز حدود إطار المنظمة الطلابية...
س * ولم نتحدث عن المجموعة التي طرحت حل التنظيمات والالتحاق بالمنتظمات الجماهيرية؟
ج * لربما نحن في إلى الأمام مارسنا العمل الجماهيري أكثر منهم (ضحك)... بل وأحيانا كانت صياغات متشددة لمسألة أن الاعتقالات يكون مصدرها القطاع الطلابي وما يسمه من ليبرالية, لذلك, ارتأينا أن يتم التعامل في حدود السياسي والإيديولوجي وألا يصل إلى المستوى التنظيمي مع حركة الطلبة القاعديين وهو ما سيؤدي إلى مشاكل أخرى في ما بعد... لربما لم تمسك العصا من الوسط وساد التشدد في أن كل شيء يجب أن يتوجه إلى الطبقة العاملة, هناك رفاق تركوا مهنهم والتحقوا بقطاعات استراتيجية كالفوسفاط مثلا... وقد أدى تراكم عملنا في هذه الواجهة إلى نتائج إيجابية نلمسها اليوم.
والرفاق الذين كانوا يطرحون حل التنظيمات والالتحاق بالمنظمات الجماهيرية كانوا يطرحون الالتحاق كافراد وفي تقديري أن ذلك غير ممكن أو على الأقل أنه أمر لا يخلو من صعوبات ولا يمكن من تحقيق التراكم.
س * بشكل موازي لكم كانت توجد 23 مارس الثورية ومناضلون من "لنخدم الشعب ويبدو أنهم كانوا يقاسمونكم قناعات " إعادة البناء، ألم تحصل بينكم نقاشات مشتركة ، سعيا إلى توحيد الجهود؟
ج * كنا نطرح في إطار إلى الأمام وباستمرار ضرورة العمل الوحدوي لكن ربما لأنه كان لدينا خط متماسك نسبيا بغض النظر عن صحته أو خطئه، كما أن حجمنا كان أكبر منهم، إذ كانوا قلة، فقد كنا نجد صعوبات في الوصول إلى عمل مشترك... بل قد تفهم أي مبادرة في هذا الاتجاه على أنها احتواء وهيمنة .. لكن رغم هذه الصعوبات الموضوعية كانت تجمعنا علاقات ونقاش رفاقي.. ودون أن تتجاوز هذه الحدود، بقي المشترك بيننا هو ضرورة النضال ضد الاستبداد من أجل احترام حقوق الإنسان ومن أجل الديمقراطية.
س * وأنتم تشرفون على عملية إعادة بناء منظمة إلى الأمام من داخل السجن، كيف كنتم تتواصلون مع مناضليكم خارج الأسوار...؟
ج * عملنا في المرحلة الأولى كان يتعلق بتهييئ مجموعة الوثائق الأساسية، المتعلقة بتحديد الخط السياسي لإعادة بناء المنظمة، وفي هذا الصدد كنا قد راجعنا مفهوم حرب التحرير الشعبية طويلة الأمد الذي بدا لنا فيه نوع من الاستنساخ لتجارب أخرى، وتبينينا مفهوم أكثر مرونة هو مفهوم العنف الثوري الجماهيري المنظم، مفهوم أي لا يقبل بالعنف الذي تمارسه مجموعات معزولة وألا يكون غير منظم وألا يكون رجعيا ، بحيث يكون يهدف إلى خدمة أوسع مصالح فئات الشعب المغربي. وعلى المستوى التاكتيكي انتقدنا التهور والاندفاعية والارادوية ... وفي مرحلة لاحقة طرح لنا إشكال بصدد القيادة ووجودها هل هو السجن أم الخارج... ذلك أن أغلب المناضلين الذين كانوا يشتغلون في الساحة كانوا من الجدد مع إستثناءات قليلة ممن افلتوا من الاعتقال أو ممن أطلق سراحهم في مجموعة (105) مثلا،وهذا الوضع ... يحتم أن يتم تقديم المساعدة من داخل السجن... وهكذا بعد اعداد الوثائق التي تتضمن أسس إعادة البناء، كنا نقوم بنوع من المواكبة للعمل الذي يقوم به الرفاق في الساحة، كما قررنا أن يتم إصدار الجريدة خارج المغرب تلافيا للمشاكل الأمنية التي قد تنجم عن ذلك، وقد أسهمنا من داخل السجن في دعم الجريدة عبر كتابة العديد من المساهمات الفكرية والسياسية.
س * هذا التواصل في مستوياته المختلفة كيف كان يتم مع مناضليكم, هل عبر العائلات التي كانت تزوركم في السجن أم أنه كان من الميسر أن يزوركم في المركزي أحد من طلبكم ليناقش معكم أو ليحضر لكم وثائق أو ليأخذها منكم؟
ج * كما قلت, منذ 1979 أصبحت الظروف ميسرة ولم تعد مشاكل من هذا النوع مطروحة وهكذا كنا ننشر في الصحف, كنا نتوصل بوثائق سرية دون أدنى مشكل...
س * وكانت المجموعة التي تولت إعادة البناء منذ 1979, تتواصل معكم بالقدوم إلى المركز؟
ج * طبعا, كان هناك تواصل معنا...
س * من كان يزوركم في هذا الصدد؟
ج * كنا نتلافى أن تكون اللقاءات مباشرة من باب الاحتياط, لكن كنا نتوصل بتقارير عن عمل التنظيم والمشاكل التي تواجهه, وكنا نواكب ما يجري... وكانت في وسطنا وجهات نظر بهذا الخصوص, هناك من كان ينتظر منا مشاركة أكبر وهناك من يدعو إلى تدخل أقل على اعتبار أننا بعيدين عن الواقع...
س * هل يمكن الحديث عن هذه النواة الصلبة التي تولت على المستويين الفكري والسياسي ومن داخل السجن إعادة إطلاق عملية بناء منظمة إلى الأمام؟ هل يمكن ذكر بعض أسماء هذه النواة؟
ج * ابراهام السرفاتي, عبد الرحمن نودا, أحمد أيت بناصر, وفي مرحلة ما كان معنا فؤاد الهلالي, الحبيب التيتي, كما لعب عبد الحميد أمين دورا قبل خروجه من السجن سنة 1984.
س * طبعا إلى جانب هذه الأسماء هناك عبد الله لحريف, وماذا عن النواة الصلبة التي تولت البناء في الساحة السياسية خارج السجن؟
ج * هناك مصطفى ابراهمة... أمين التهاني, بوبكر الخمليشي الشفشاوني...
س * بعد خمس أو ست سنوات من إعادة البناء, تمكنت أجهزة الأمن في أواخر 1985 من تفكيك منظمة إلى الأمام من جديد, هلا دفعكم ذلك إلى استخلاص استحالة القيام سياسي مصادم للدولة؟
ج * في تقديري لا يجوز إصدار أحام مطلقة, ثم إن السرية أو العلنية أو الشرعية هذه أشكال للعمل السياسي ترتبط بالظروف... وممارسة السرية لها شروطها كاحتضان الجماهير وامتداد الصراع وأن تظهر الدولة للجميع كدولة ديكتاتورية قمعية, إضافة إلى اقتناع الشعب بأن العمل في ظل القانون والشرعية لا يجدي شيئا, في مثل هذه الشروط يصبح للسرية ما يبررها, لكن الخطأ يبقى في تقديري شكلا من الأشكال, فالشكل يتحدد بمضمون المرحلة والمهام المطروحة...
س * في أدبيات النهج الديمقراطي تشيرون إلى أنكم بدءا من 1976 قد بلورتم تصورا بصدد التعامل مع الحركة الطلابية, حيث ارتأيتم تشكيل تيار طلابي جماهيري وديمقراطي مستقبل وإلى جانبه مجموعة من التيارات الجماهيرية القطاعية, على أن يلتف كل هذا حول جريدة ويشكل حركة ديمقراطية علنية, وتعتبرون أن إصدار مجلة "المقدمة" قد اندرج في هذا الإطار. فما الذي حال دون تقدمكم في هذا الاتجاه الذي كان من شأنه أن يحولكم وفي وقت مبكر إلى حركة ديمقراطية علنية؟
ج * كان تقييمنا للنظام يستند إلى أن الأمر يتعلق بديمقراطية شكلية... لكننا في الآن نفسه كنا نحاول الاجتهاد من أجل إيجاد سبل تطوير الحركة الجماهيرية وبناء التنظيمات المستقلة ذاتيا للجماهير, وفي هذا الإطار أتى هذا الطرح, كما اعتبرنا أن هناك إمكانية لإصدار جرائد مع تجنب الخطوط الحمراء... إذ بإمكان إعلام جذري أن يوحد هذه التيارات الجماهيرية... وقد نجح هذا الطرح نسبيا في القطاع الطلابي لديناميته الخاصة, مع المشاكل التي أشرت إليها, إذ اكتفاؤنا بالتوجيه الإيديولوجي والسياسي لحركة القاعديين أدى إلى تطور هذه الحركة على المستوى التنظيمي دون مواكبتنا ذلك, وعند محاولتنا سنة 1984 تدارك ذلك عبر إصدار "الكراس" كان قد فات الأوان.
كنا بالفعل نحاول إيجاد حل للتناقض بين تقييمنا لطبيعة النظام وسعينا إلى أن نكون جماهيريين ما أمكن... ومع أواخر الثمانينات والمتغيرات التي حصلت بالأساس على مستوى حقوق الإنسان, بدأنا نفكر بشكل جدي في ضرورة استغلال إمكانات العمل القانوني والشرعي دون تنازل عن مبادئنا وعن هويتنا الإيديولوجية الماركسية, وأننا جذريون نريد تغيير النظام في مستوياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية... مع استحضار فن العمل السياسي والحنكة السياسية ومهما يكن فمناضلونا لهم تربية على المواجهة ولا يسعون إلى المناصب!
وقد حاولنا معالجة العديد من القضايا ومن ضمنها مسألة الهوية, إذ ولو أن اهتمامنا بالأمازيغية يعود إلى السنوات الأولى من تأسيس منظمة إلى الأمام إلا أنه لم يكن يرقى إلى اجتهادنا في ما بعد خاصة بعد انتفاضة 84 حيث عملنا على ربط اللغة والثقافة الأمازيغية بواقع تاريخي, اجتماعي وثقافي, أي واقع الشعب المغربي بتعددتيه...
كما ارتأينا أن هناك إمكانية لإعطاء النضال الديمقراطي دفعة قوية مع الحفاظ على طابعه الجذري وليس الانتخابوي... وفي هذا السياق طرحت مسألة البدء في العمل العلني...
س * متى بدأ تفكيركم في العمل في إطار العلنية؟
ج * منذ طرحنا إعادة البناء بدأنا نفكر في إيجاد السبل التي تمكننا من العمل العلني والجماهيري حتى دون أن يكون التنظيم علنيا...
س * مع أواخر الثمانينات وبداية التسعينات حصلت تحولات كبري على الصعيد العالمي, أي ما سمي بالثورة الديمقراطية التي ارتبطت بانهيار الاتحاد السوفياتي, إضافة إلى انتعاش القوى السياسية العاملة في الساحة الوطنية من خلال إضارب 14 دجنبر 1990, مسيرة التضامن مع الشعب العراقي في 3 فبراير 1991, أي أثر كان لهذه التحولات على المستويين العالمي والوطني على حركتكم واختياراتها السياسية؟
ج * أكيد أننا نتأثر بما يجري في المغرب وعلى المستوى العالمي, وقد تبنينا أن تلك الاندفاعة نحو الديمقاطية مهمة حتى بالنسبة إلى خط يتبنى نضال الطبقة العاملة والكادحين, إذ من شأن ذلك أن يمكن من الحق في التنظيم وتطوير التنظيمات الذاتية... كما تزامن مع نقاشات, حتى وإن كانت لا تزال محل أخذ ورد, حول التجربة السوفياتية والحزب البلشفي وخطورة وجود حزب وحيد وغياب نقابات مستقلة وتنظيمات مستقلة ومزدهرة للمجتمع المدني, كل هذا سيلعب دورا في اتجاه أن تصبح مسألة التنظيم السياسي ذات أهمية أقل نسبيا... وأن يتم التوجه للعمل في العديد من الوجهات من أجل إشاعة فكر جذري...
س * إذن اخترتم النضال الديمقراطي؟
ج * النضال الديمقراطي بالأساس هو تغيير في الأسلوب, وليس تغييرا في الأهداف العامة لما تأسست من أجله الحركة الماركسية اللينينية, لم يحصل تغيير في تقييمنا للنظام... في اعتبارنا أن هناك ضرورة لتغيير النظام الاقتصادي... وهكذا فالأمر يتعلق بتغيير في الأسلوب, إذ يبدو لنا أن بإمكان النضال الديمقراطي أن يحقق مكاسب في هذه المرحلة, نظرا للتطورات العالمية ولتطور المجتمع المغربي وقواه الديمقراطية... نحن لا نقدس الشكل وأن يكون العمل سريا أو علنيا, مطلبيا أو ينحو في اتجاه مواجهة أكثر... هذه كلها أشكال غير ثابتة, وخاضعة للظروف ولموازين القوى وملابساتها إن على المستوى الوطني أو العالمي... وهكذا فلا تغيير في ما هو ثابت لدينا في مستوياته السياسية والاجتماعية والاقتصادية إذ نسعى إلى تغييرها لصالح الطبقات الشعبية بشكل عام وبالخصوص لصالح العمال والكادحين...
س * ولكن الانخراط في النضال الديمقراطي يتقضي, القطع مع فكر التآمر كما هو حاضر في اللينينية والرهان على الصيرورة التاريخية...
ج * أختلف معك في هذا الصدد إذ لا أعتبر أنه كان لدى لينين فكر تآمري, أعتقد أن التغيير يمر بلحظات وأحيانا تكون هناك إمكانيات للتغيير الجذري أي التغيير الثوري, وربما في حال عدم الإقدام على ذلك قد تحصل انتكاسات... أما التآمر فيكون حاضرا في الانقلابات التي قد يقوم بها الجيش ضد نظام ما من أجل الحفاظ على نفس النظام بأشخاص آخرين وبفئات أخرى من ضمن نفس الطبقات السائدة في المجتمع... والثورة الروسية قادها حزب عمالي متحالف مع الفلاحين, وقد أخذ هذا الحزب المبادرة من أجل حسم مسألة السلطة في المرحلة التي توفرت فيها شروط ذلك... والعظيم في اللينينية يكمن في قدرتها على التفاعل مع الظروف حيث تعمد إلى تغيير التكتيك كلما تغيرت المعطيات الظرفية, وفي ما يخصنا فقد غيرنا أسلوب عملنا وأسلوب تعاملنا...
س * (أقاطعه) هل تبينتم استراتيجية النضال الديمقراطي؟
ج * تبنينا استراتيجية النضال الديمقراطي ولكن من أجل تحقيق نفس الأهداف السابقة, إذ ما دامت هناك إمكانية لتطوير النضال الديمقراطي فنحن على استعداد للذهاب في هذا الاتجاه...لكن هذا الأمر ليس دائما صحيحا، فنحن نسجل الآن أن هناك تراجعات على مستوى المكتسبات الديمقراطية نفسها...ربما نحن الآن أمام أزمة... هل يمكنني أن أقول أزمة النضال الديمقراطي؟! هل يطرح علينا هذا مسألة هذا النضال الذي يبدو وكأنه استنزف امكانية؟!
إذ لم يستطع أن يغير البينيات الجوهرية للنظام السياسي والاقتصادي القائم أو على الأقل السياسي ما دام النظام الاقتصادي مرتبطا بالاكراهات الدولية... فعلى الأقل أن يتم فرض ديمقراطية حقيقية ولو في حدود، إذ لا يمكن أن يتم ذلك بنسبة 100 في المائة كما هو الشأن في الدول التي تجر وراءها قرنين من التجربة في هذا الصدد، لكن المهم أن يكون هناك تقدم... والحال أننا نلاحظ اليوم التراجع وإفراغ العديد من المكتسبات من محتوياتها الديمقراطية... وبذلك فلا يجب اعتبار النضال الديمقراطي أمرا مقدسا... دون أن يعني هذا أننا لن نعمل بالأساليب الديمقراطية... إذ في تقييماتنا الأولى كنا قد انتقلنا من حرب التحرير الشعبية الطويلة الأمد إلى العنف الثوري الجماهيري المنظم بمعنى حضور الجماهيري وهو ما يبعد طابع التأمر... بل إن الطرف الآخر الذي يقول إنه ديمقراطي هو من قد يحدث أن يتأمر على الديمقراطية بحيث يعجز عن ممارستها...
س * يبدو أننا بصدد نظرتين، نظرة الصيرورة التي تراهن على التراكم الكمي وإن كان بطيئا ولكنه يسير في اتجاه تقدم التاريخ، ونظرة تجد مرجعها في فكرة الثورة وتسعى إلى الحسم من خلال الطفرة الفورية...ويمكن أن نناقش اللينينية من خلال هذا التقابل إذ تبدو وبمثابة نظرية حرب في السياسة والحال أن التصور الديمقراطي باستناده إلى مفهوم الصيرورة يقوم على منطق التسوية، وعبر التسويات يتقدم التاريخ...
ج * شخصيا أعتقد بوجود الصراع الطبقي وفي التسويات هناك دائما طرف غالب، ويمكن أن تكون هناك تسويات لكنها ذات طابع ظرفي وتعبر عن موازين القوى، ويبقى الثابت هو الصراع بين الطبقات والأفكار التي تتبناها هذه الطبقات، ويبدو لي أنه لا يمكن من خلال " التسويات التاريخية " أن تتنازل الطبقات السائدة عن استغلالها... وما يحتاج إلى مزيد من التوضيح هو أن الطفرة ليست مجرد لحظة، إذ يبدو أنها لا يمكن أن تكون إلا نتيجة لصيرورة طويلة وبطيئة من التراكمات، وقد علمنا التاريخ أن الطفرة تكون نسبية، بحيث لا يمكن القطع وبشكل مطلق مع ما هو مطروح...وللثوريين دور في تسريع وتوضيح الطفرة ... أما التسويات فتكون أحيانا خيانات... وفي هذا الصدد يمكن أن نشير إلى التناوب الذي يمكن اعتبار أنه هدية قدمت للطرف الآخر من أجل أن يحافظ على نفسه... فيما أدت الطبقات الشعبية الثمن باهضا، فعلى المستوى السياسي فقد أدت الطبقات الشعبية الثمن باهضا، فعلى المستوى السياسي فقد تشتت القوى الديمقراطية وانتشرت الانتهازية في صفوفها بقوة، وفي المقابل نسجل صعود القوى غير الديمقراطية... وهكذا فإذا بقينا نقول بالتطور البطيء ربما لن نتطور قط بل سنتراجع، وهذا ما حصل منذ الاستقلال، إذ ما أن نراكم بعض الشيء حتى يحصل حادث ما فيعيدنا إلى الوراء، هذا على المستوى السياسي، أما على المستوى الاقتصادي والاجتماعي فيبدو لي أن اللوحة سوداء بل داكنة!
س * لكن من يحضر للمنتديات الفكرية والسياسية ويقرأ ما ينشر بل ويستمع للموظفين في مقرات العمل، وفي الأحياء، وفي المقاهي... يقف على اتساع فضاءات الحرية بشكل غير مسبوق.
ج * هذا صحيح، لكن في ما يتعلق بالنخبة فقط، أما إذا حاولت الاتصال بالناس في مدن الصفيح والأحياء الشعبية فسيقومون بمنعك... كما لن يمنحوك إمكانية عرض أفكار في التلفزيون... ولتصدر جريدة فإنك تحتاج إلى الأموال، كما لن يمنحوك الإشهار... وانحصار هذا الانفتاح على النخبة ربما يزيد من تعميق عزلتها عن أوسع الجماهير ويقود في النهاية إلى استقطابها من طرف النظام...
وأعتقد أنه توجد في المغرب أزمة ولا يوجد بديل لها، إذ من يمكن أن يقدم هذا البديل غير القوى الديمقراطية؟ والحال أن هذه القوى ممنوعة من العمل أو مطلوب منها، من أجل إفساح المجال أمامها، أن تقبل بالدخول في تسويات تفقد فيها روحها! وهذا ما يقود إلى حالة اليأس في أوساط الشعب وما ينتج عنها من "حريك" في اتجاه الضفة الأخرى، أو في اتجاه "جبنة الظلاميين"!... ولهذا أريد أن أقول نعم هناك مكتسبات لكن من أجل أن نراكم حقيقة علينا أن نفكر بشكل جدي، ففي كل تناقض يوجد طرفان أحدهما هو الأساسي، وفي وضعنا فإن النظام هو من يستفيد أكثر...
س * وأنتم في السجن عرف المغرب ثلاث هزات اجتماعية في سنوات 81 و84 و 1990 كيف تعاملتم مع هذه الأحداث على المستويين الوجداني والسياسي، خاصة وأنكم راهنتم ومنذ البداية على الحركة الجماهيرية؟
ج * كل هذه الأحداث كانت منتظرة وقد أتت كرد فعل على الزيادة في أسعار المواد الغذائية والتردي العام للأوضاع الاجتماعية.. لكن طابعها كان عفويا حتى ولو تم اتهام منظمة إلى الأمام، وكان من المعروف أن مثل هذه التحركات ستجابه بالقمع وما سينتج عنه من احباط..
وبالنسبة إلينا فهذه الأحداث تؤكد بشكل دامغ تفاقم الأزمة، لكن غياب القوى القادرة على فرض بدائل تجعل الجماهير تطور نضالها ودون أن تلجأ إلى مثل هذه الأساليب التي يكون ثمنها غاليا إن على مستوى الأرواح أو سنوات الاعتقال... دون أن تسفر عن نتائج كبيرة، حتى وإن كانت تفرض على النظام التراجع بشكل مؤقت... وإجمالا فقد تعاطفنا دوما مع هذه الحركات واعتبرناها مشروعة كرد فعل على تردي الأوضاع... مع علمنا أنها لن تؤدي إلى التغيير المنشود بفعل افتقادها للتنظيم وعدم انخراطها في مشروع واضح المعالم، إضافة إلى أن بعض الأجهزة قد تتدخل أحيانا عبر الاستفزاز في هذه الحركات من أجل تسويغ القمع في ما بعد...
س * لننتقل للتسعينات ومحاولات " التجميع "التي شاركتم فيها، ثم ما عرفته هذه المبادرات من تطورات قادت إلى تأسيس حزب اليسار الاشتراكي الموحد دون مشاركة حركة النهج الديمقراطي
ج * تحدثنا عن التطور الذي حصل داخل " إلى الأمام" وارتباط ذلك بالتطورات العالمية والمحلية ودور القوى الجذرية فيها، ثم إنه بعد اعتقالات 1985 كان عدد من المناضلين قد استمروا في العمل الجماهيري في إطار عدد من المنظمات النقابية والحقوقية.... دون أن يكون هناك الخيط الناظم لنضالهم، باستثناء وجود بعض الوثائق العامة... وكان من الضروري تجميع هؤلاء المناضلين حتى لا يكونوا عرضة لقوى أخرى أو أن يستوعبهم العمل النقابي بالكامل، والحال أنهم في الأصل مناضلون في إطار لحركة الماركسة اللينينية... شخصيا لم أحضر للمبادرة الأولى إذ كنت ما أزال في السجن، أما المبادرة الثانية التي شاركت فيها ففي تقدير فالرفاق الذين كانوا سابقا في إطار القاعديين هم من كان يحاول عرقلتها، إذ كانوا يخافون ربما من الذوبان كمجموعة... ولذلك كانوا يقترحون المنزلة بين المنزاتين: أكثر من جمعية وأقل من حزب، أي أن يمارس العمل السياسي دون أن تصرح بذلك، وقد قاوموا بقوة أن يسير التجميع في اتجاه تشكيل حزب سياسي... ثم في مرحلة لاحقة كانت هناك محاولة أخرى، لكن تبين أنه من الصعب التقدم في اتجاه تجميع الكل, إذ ظهر أن هناك اختلافات في ما يتعلق بتقييم الظرف السياسي وغيره، وأشير في هذا الصدد إلى أن رفاق" إلى الأمام" كانوا يعتبرون أن هناك إمكانية مع أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات لفرض تقدم هام على المستوى الدستوري والسياسي، إذ كان المناخ الدولي ملائما وكانت هناك نضالات جماهيرية هامة... لكن للأسف فقد ضيعت القوى الديمقراطية التقليدية هذه الإمكانية، وذلك بقبولها أنصاف الحلول... وداخل اليسار كان هناك من يراهن على هذه القوى... أما في ما يخصنا فقد بلورنا خلاصة أن هذه القوى قد فشلت في قيادة نضال الشعب المغربي، وهو ما يستتبع ضرورة بناء قيادة جديدة لقوى أخرى، عليها أن تبلور خطها الإيديولوجي والسياسي بكل استقلال عن القوى التقليدية...
ثم إن السرعة التي انهار بها الاتحاد السوفياتي قد أدت إلى تحول عدد من المناضلين الديمقراطيين إلى الليبرالية، بحيث لم تعد لهم قناعات اشتراكية، وفي ما كنا نقول نحن بضرورة بناء قوة اشتراكية كان هناك من يقترح صيغ تحتمل أن تكون ليبرالية أو اشتراكية...
والاشتراكية بالنسبة إلينا نحن تقتضي دورا للطبقة العاملة وتقتضي القول بضرورة تغيير الرأسمالية.. هذه ثوابت بالنسبة إلينا نحن...
ثم كان هناك عدد من المناضلين يقولون إن الحركة الماركسية اللينينية قد فشلت، وكنا نختلف معهم بهذا الصدد أيضا، فنحن نعتبر أن هناك أخطاء، لكن الحركة أعطت الكثير، ومن ضمن ما أعطت هذه الأعداد من المناضلين الذين يواصلون النضال... وفيما كانوا هم يقولون بضرورة القطيعة لم نكن نرى مبررا لذلك، وإن كان عدد منهم قد تراجعوا في ما بعد عن هذه الطروحات...
إذن إلى أواسط التسعينات كان يبدو أن هناك قوى ما تزال غير مستعدة للتنظيم السياسي وتحديدا الديمقراطيين المستقلين، كما أن هناك قوى تنكرت للماضي وللاشتراكية، إضافة إلى من يراهن على القوى السياسية التقليدية، كما كانت هناك اختلافات بصدد الموقف من الانتخابات... وقد أدى كل هذا إلى عرقلة المبادرة، ومن أجل تلافي تشتت المناضلين عمدنا في سنة 1995 إلى تشكيل حركة النهج الديمقراطي والتي ضمت المناضلين المرتبطين بتجربة "إلى الأمام" أو العاملين في إطارات جماهيرية ونفس الآن متعاطفين مع التجربة... وقد راعينا المرونة في الأرضية السياسية أو الإيديولوجية للتأسيس، إذ تقريبا هي ما كنا قد اقترحناه للتجميع... وأعلنا أن هذه خطوة في اتجاه التوحيد... وكما أشرت فقد حاولنا مرة أخرى لكن دون نتيجة.
وهناك رفاق يعتبرون أنه كان في الإمكان جر قطاعات من هذا الوسط نحو مواقف أكثر جذرية من النظام، وفي اتجاه الاشتراكية، لكن في تقديري الشخصي أن هذا الوسط قد بلور فكرا هلاميا وهو ما كان سيرفضه مناضلونا...
وقد توقفت هذه الصيرورة... إلا أن منظمة العمل قد اتصلت بالرفاق الأخرين ثم التحقنا نحن بالنقاش من جديد، لكن البعض وخاصة من منظمة العمل أصروا على أن يتم الحسم في كل القضايا الخلافية، فيما اقترحنا نحن الوصول إلى صيغ مفتوحة...وبذلك توقف النقاش وواصلوا هم الصيرورة التي قادت إلى تأسيس حزب اليسار.. وهناك اليوم محاولة أخرى، لكن ربما أكثر موضوعية، من خلال مبادرة تجمع اليسار الديمقراطي التي تراعي وجود خلافات بين الأطراف المكونة له...
س * في أجواء السجن والاعتقال لمدد طويلة أي مكانة تكون للمرأة الرمز والإنسان والأنثى؟وأية ظروف أحاطت بالزيجات التي كانت تعقد بين مناضلين معتقلين ونساء طليقات أخترن بكل حرية الاقتران برجال مغيبين وراء الأسوار؟
ج * علمنا السجن أن للمرأة طاقات نضالية هائلة، وأن المجتمع غير منصف تجاه نسائه اللواتي يظهرن عن طول النفس وعلى مدى السنوات الطويلة.. من جهة أخرى فالمعتقل يعاني بشكل كبير، وضمن معاناته يحضر المستوى العاطفي.. وهكذا فإن عددا من المناضلات اخترن بكل حرية ودون أن يفرض ذلك أحد عليهن، الارتباط بمناضلين في السجن وضحين من أجل ذلك... وبالتالي علينا جميعا، وقد شربنا حليب العقلية الذكورية من أثداء أمهاتنا، أن نستحضر أن النساء والشباب يمثلون قوة ثورية هائلة يجب أن نفسح لها المجال...
س * هل من صور عالقة بالذاكرة من أيام السجن؟
ج * من الصعب استعادة صور بالنسبة إلى من عاش مدة طويلة في السجن حتى لربما أصبحت حياته في المعتقل عادية جدا وليس فيها ما يثير أو ما هو خارق للعادة... ليس معنى هذا قبول السجن، ولكن رفضي أن أطرح على نفسي ضرورة الخروج.. إذ بوصول المعتقل إلى هذه النقطة يبدأ الضعف في التسلل إليه وبالتدريج قد يفقد القدرة على المقاومة... على المناضلين أن يعتبر أن حياة السجن مفروضة عليه وبذلك فإنه يعمل على مواجهتها... وفي هذا الاتجاه تندرج الاضرابات عن الطعام وكل النضالات التي قمنا بها من داخل السجن... وكلما تمكن المناضل من أن يعيش حياة عادية داخل السجن، كان يمارس الرياضة ، يقرأ ، وينجز كل يوم شيئا ما... كلما استطاع الصمود... أما إذا ترك نفسه للفراغ فسيصل إلى طرح السؤال: - لماذا أنا هنا؟ وسيجد نفسه أمام الفكرة الأخرى:- علي أن أخرج من هنا؟ وبالتدريج سيفقد القدرة على المقاومة... وفي بعض الأحيان كنت أقول للآخرين تلك أجمل سنوات عمري! طبعا ذلك غير صحيح..! ولكن بمعنى ما، فهي من أجمل السنوات ...إذ يعيش فيها الإنسان تجربة التضامن والتألف مع رفاقه... ويعيشون جنبا إلى جنب في صمود قد يقود إلى الموت في الإضرابات عن الطعام... أي علاقات إنسانية من طراز رفيع لربما قد لا تجدها خارج السجن...
على المستوى الاكاديمي أحرزت على إجازة ودبلوم الدراسات العليا في العلوم الاقتصادية..وخارج ما هو أكاديمي قرأت ما لا يحصى، ذلك أن أبراهام السرفاتي كان يحب القراءة كثيرا وكان يزودنا بالكتب، وهكذا كنا نقرأ بالعربية بالفرنسية، بالإنجليزية... واطلعنا على الأدبيات الماركسية، وعلى ما يكتب في الاقتصاد، وقرأنا كثيرا في التاريخ، تجارب الشعوب، تاريخ الشعب المغربي... كنا نقرأ كذلك في الأدب وخاصة الرواية، وفي السجن شخصيا اكتشفت ادب أمريكا اللاتينية حيث أطلعت على أعمال غارسيا ماركيز، جورج أمادو..كما أطلعت على الأدب المعاصر لأمريكا الشمالية، إضافة إلى الأدب العربي، ذلك أني كنت قد انقطعت عن دراسة العربية منذ الابتدائي إذ درست الثانوي بالفرنسية... وقد استمتعت حقيقة بالأعمال الرائعة لعبد الرحمان منيف ولنجيب محفوظ كذلك... كما كنا نتوصل بمجلات من مستوى عال أذكر مثلاMontly Revien التي كان يصدرها سويزي وعدد من الاشتراكيين الأمريكيين وكانت تناقش في ذلك الوقت أطروحات شارل بتلهايم مثلا، مجلة أخرى كانت تسمى New left revien كان يصدرها أكاديميون في لندن لهم ميولات اشتراكية، وكنا نتوصل كذلك بمجلات لراديكاليين أمريكيين كانت تتناول العديد من القضايا بعمق نظري كالماركسية، التجربة الصينية...
س * ماذا يمكن أن تقول عن ابرهام السرفاتي وقد عايشته لمدة 17 سنة في السجن؟
ج * جمعتني بابراهام السرفاتي صداقة كبيرة خلال كل مدة السجن, هذا إضافة إلى العلاقات السياسية التي كانت تربطنا، وفي السياسة تكون على الدوام خلافات وصراعات ولكننا تمكنا مع الوقت من أن نميز بين النقاش والصراع السياسي وبين العلاقات الرفاقية... وقد استفدنا كثيرا من علاقتنا بالسرفاتي فقد كان يقرأ بنهم وكان يحاول الحصول على الكثير من الكتب والمراجع... وقد مكنتنا القراءة بعمقها وتنوعها من تجاوز التبسيط واكتساب فكر أكثر جدلية يتعامل مع الواقع في تعقيده وفي مستوياته المختلفة... وعلى المستوى الإنساني فالرفيق السرفاتي رجل طيب وحبوب...
س * أي مسار قاد عبد الله لحرف إلى العمل السياسي؟
ج * ولدت بمكناس من أب عالم من علماء القرويين ومن أم من عائلة بنعبد الجليل المعروفة وقد عشت طفولتي وصباي في أجواء سعيدة بالمدينة القديمة حيث كنا نقطن بمنزل كان محبسا علينا من طرف أحد أجدادي...ودرست بثانويتي مولاي إسماعيل وبول فاليري وحصلت على الباكالوريا في العلوم الرياضية سنة 1964، ثم توجهت للدراسة بمدرسة المعادن بباريس وهنا بدأت أتغير، ذلك أني قد عشت أحداث ماي 1968 وقد بدأت أتسائل بصدد ما حدث، ثم في السنة الموالية كنا ندرس عند أستاذ متفتح نسبيا اسمه ستوليري Stolery سيصبح وزيرا في عهد فاليري جيسكار ديستان، وقد كان مكلفا بأن يدرسنا الاقتصاد إلا أنه اقترح علينا أن نتداول بخصوص ما حصل في ماي 1968 وهكذا فقد كان نستضيف سياسيين ونقابيين ورجال أعمال وإداريين ونتناقش معهم في الهزة التي عاشتها فرنسا وفي مختلف حيثياتها، وبذلك ابتعدنا من التكنوقراطي وبدأنا ننفتح على السياسي...
وقبل ذلك كنت قد عشت صفعة 5 يونيو 1967، عشتها وأنا أقضي فترة تدريب وكان معي يهود متعاطفون مع إسرائيل وإذ لم أكن على إطلاع كافي بالقضية الفلسطينية فقد شعرت بالحاجة إلى أن أعمق فهمي للموضوع فاتجهت للقراءة...
ثم بدأت كلما عدت إلى المغرب وجدتني في خضم نقاشات مع أصدقاء لي كانوا قد انتموا إلى اليسار البرولتاري منهم أنيس بالفريج والخطبي... وأذكر أني بعد تخرجي مهندس معادن سنة 1969 أنفقت كل ما تبقى لدي من نقود في شراء الكتب قبل أن أعود بشكل نهائي إلى المغرب..
وفي سنة 1970 اشتغلت لمدة بشركة متعددة الجنسيات بالدار البيضاء .. ثم انتقلت للعمل بمكتب التنمية الصناعية بلرباط وهناك التقيت عددا من الأصدقاء منهم أنيس بالفريج، الخطبي، عبد الحميد أمين، محمد أيت قدور... وحدث أن تم اعتقال عدد من الوزراء متورطين في اختلاسات مالية، وهناك بدأنا نتسائل عن الكثير من الأشياء وخاصة أننا نشتغل في الإدارة ونلاحظ التسيب وكيف لا يهمهم إن اتيت إلى العمل أوتغيبت، بمعنى أن لهم انشغالات أخرى...وقد قادنا هذا النقاش إلى ضرورة تأسيس اتحاد وطني للمهندسيين وهكذا فقد قمنا بصياغة ميثاق ودعونا المهندسين إلى عدد من الاجتماعات فتمت الاستجابة بقوة لمبادرتنا، ذلك أنها قد زامنت المحاولة الأولى للانقلاب في صيف 1971 وكانت هناك حاجة إلى خلق فضاءات للنقاش، فتم تشكيل مكتب وطني كنت كاتبه العام، وإلى جانبي محمد أيت قدور الذي كان على ارتباط وقتها بالفقيه البصري.. وأمين عبد الحميد، والمناضل الاتحادي الزواوي الذي توفي في ما بعد في حادثة سير، وأنيس بلافريج، إضافة إلى مهندسين من حزب الاستقلال، بل إن عددا من الانتهازيين قد حاولوا الالتحاق بنا إلا أننا قد نجحنا في إبعادهم...
وبعد اعتقالات بداية 1972 شاركنا في عدة مبادرات لدعم المعتقلين, وهيأنا لإضراب وطني للمهندسين إلا أن الاتحاديين قد أفشلوه... وفي خضم هذه الحركية التحقت بمنظمة إلى الأمام...
س * عن طريق من التحقت بهذه المنظمة؟
ج * مباشرة بعد الاعتقالات (1972) شكلنا أول لجنة لمناهضة القمع, شاركت في تأسيسها العديد من التنظيمات الجماهيرية (الاتحاد الوطني لطلبة المغرب, الاتحاد الوطني للمهندسين...), وهنا تعرفت على الرفيق عبد الرحمن نودا... لكن قبل التحاقي بالمنظمة كنت قد أسهمت مع مجموعة من الرفاق في مبادرة " وكالة الأنباء الشعبية " وهي نشرة كنا قد بدأنا في إصدارها مما أدى إلى اعتقال أنيس بلافريج, الخطبي, جمال بلخضر ومناضلين آخرين وقد حاولوا اعتقالي بدوري إلا أني تمكنت من الإفلات, وبعد اختفائي مدة ثلاثة أشهر بالدار البيضاء طمأنني مدير مكتب التنمية الصناعية آنذاك فعدت إلى العمل... والتحقت بمنظمة إلى الأمام, إذ اتصل بي عبد الرحمن نودا وذهبت للقاء السرفاتي...
س * ألا تعتبرون أنه ومنذ استضافتكم في القناة الأولى, ما تزال الكرة في ملعب حركة النهج الديمقراطي؟
ج * نعتبر في حركة النهج الديمقراطي أنه بقبولنا العمل في إطار العلنية والقانون قد قدمنا تنازلا وأقنعنا مناضلينا بذلك وهو أمر لم يكن بالهين بالنسبة إلى مناضلين لهم تقييم معين للنظام... قبلنا أن ننخرط في اللعب في إطاره القانوني... وأن يكون الطابع الأساسي لعملنا في هذه المرحلة هو النضال الديمقراطي, وقد عقدنا لقاءا وطنيا وقدمنا وثائقنا, وبذلك فقد استوفينا الشروط الضرورية... ونحن نقول إننا على استعداد للعمل في إطار حرية الرأي وسنستعمل الوسائل الديمقراطية في نضالنا بعيدا عن العنف أو غيره من الوسائل غير المقبولة. وبذلك فقد تنازلنا والكرة توجد في ملعب الطرف الآخر, الذي عليه أن يسلمنا وصل الإيداع ويترك لنا فرصة العمل, والتاريخ هو الكفيل بأن يصدر الحكم النهائي... نحن واضحون ونريد الاشتغال في إطار الوضوح وليس المرموز, ولكن لا نقبل بشروط تتنافى مع الديمقراطية وتتنافى مع حرية الرأي والتعبير...
#النهج_الديمقراطي_العمالي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟