مرت قوى الحركة القومية العربية في العراق بمختلف اتجاهاتها الفكرية وتكتلاتها السياسية بعلاقات مد وجزر مع حزب البعث العربي الاشتراكي, فمن تحالف في مواجهة حكومة عبد الكريم قاسم وتنفيذ انقلاب بصورة مشتركة في شباط عام 1963 ضدها, ثم إلى خصومة أدت إلى تنفيذ انقلاب على البعث الحليف في تشرين الثاني من نفس العام. ثم وقع الانقلاب البعثي الجديد على حكم القوى القومية الناصرية بأجنحتها المختلفة في تموز 1968. ومع نجاح الانقلاب الأخير تعرض القوميون العرقيون العرب بمختلف أجنحتهم, وكذلك الجناح اليساري من حزب البعث, دع عنك القوى الأخرى, إلى حملة انتقام شرسة من جانب جناح عفلق في حزب البعث الحاكم في العراق. وزج بعدد كبير من قادة القوميين والمسؤولين في الدولة والاتحاد الاشتراكي في المعتقلات وتعرض هؤلاء المعتقلون لاضطهاد وتعذيب قاسيين وإهانات كبيرة جداً لكرامة الإنسان, إضافة إلى من صفي منهم جسدياً في فترات مختلفة. وبعد اعتقال متباين الفترات تم إطلاق سراح الكثير منهم مع التزام بعدم التدخل في الشؤون السياسية أو التعرض لحزب البعث والنظام القائم أو الإساءة إليه بأي شكل كان, أو التحالف مع أحزاب أخرى ضد الحكم البعثي. إذ كان عليهم أن يبقوا في المعتقلات حتى دون محاكمات ويتعرضوا للهوان والموت البطيء إن رفضوا الموافقة على تلك الشروط. وقد تجلى هذا الالتزام القهري في ترديد عدد كبير من قادة القوى القومية الذي غادر العراق القول المعروف "يد ثورة البعث طويلة يمكن أن تصل إليهم في كل لحظة". وأدت عملية الاضطهاد وقسوة التعامل مع القوميين إلى انقسام في مواقفهم, فمنهم من آثر السكوت المطبق والخلاص بجلده, ومنهم من وافق على المساومة مع البعث والقبول بالعمل معهم وفي خدمتهم, ومنهم من رفض المساومة واستمر على العمل ضد النظام, ولكن بصورة سرية, وهو أمر طبيعي. وغالبية العناصر القومية التي اضطرت على البقاء في العراق اختارت أحد طريقين إما السكوت وأما المساومة. وكان عدد الساكتين غير قليلة, إذ سعى للحفاظ على شرفه من التلوث بوحل البعث الحاكم, ويتذكر الإنسان أسماء البعض منهم باحترام كبير, في حين يأسف على ضلوع البعض الآخر بهذا القدر أو ذاك في وحل النظام. ولا شك في أن هذه الحالة قد واجهت قوى سياسية عراقية أخرى, أي أنها لم تكن مقتصرة على القوى القومية.
وأثناء حرب الخليج الأولى اتخذ القوميون العرب العراقيون في الداخل والخارج مواقف مؤيدة للنظام العراقي وضد النظام الإيراني من منطلق قومي شوفيني بحت وتحت شعار " أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً", مما خفف من الضغط المسلط عليهم, ولكنهم مع ذلك لم يتمتعوا بالحرية السياسية, بل بقي الذين في العراق يسيرون تحت أبط النظام أو يتجنبون التورط بمشكلات معه. وبعد غزو واحتلال الكويت اتخذ القوميون العرب عموماً موقفاً مسانداً للنظام العراقي, وكأن الغزو يعجل في إقامة الوحدة العربية وليست الديمقراطية هي السبيل الوحيد والسليم في اتخاذ قرارات الاندماج والوحدة. وكان هذا الغزو طامة حقيقية على الشعب العراق وعلى فكرة الوحدة العربية, حتى أن بعضهم قد ساهم بإشراف الدكتور سعدون حمادي على وضع خطة لبرنامج يحدد سبل دمج الاقتصاد الكويتي بالاقتصاد العراق قبل وقوع جريمة الغزو بفترة غير قصيرة. ونحتفظ هنا بالأسماء فهي أمانات وأصحابها ما زالوا أحياء يرزقون في إطار الحركة القومية العربية. ومنذ ذلك الحين بدأت مساومة متفاقمة من جانب بعض تيارات القوى القومية العربية وخاصة العاملة في المؤتمر القومي العربي منذ عام 1991, ولكن بشكل خاص منذ عام 1995. وتعززت العلاقة نسبياً بعد قيام أمين عام هذا المؤتمر بزيارة خاصة للعراق بدعوة من صدام حسين ووساطة من الدكتور سعدون حمادي, بأمل إيجاد لغة مشتركة بين الطرفين. ولم تنتهي الإشكالية, ولكنهم توصلوا, كما يبدو, إلى اتفاق فحول دعم مواقف النظام العراقي في المحافل العربية والدولية والسكوت عما يقوم به في العراق. وهذا ما حصل فعلاً ويمكن للمتابع أن يلحظ ذلك في البيانات الختامية للمؤتمرات السنوية التي عقدها المؤتمر القومي العربي منذ عام 1991. وكان الغطاء الذي تبجحت به قيادة المؤتمر القومي العربي تتمثل في ثلاث نقاط, وهي:
1. رفع الحصار عن الشعب العراقي.
2. رفض نزع سلاح العراق وتعزيز قدراته العسكرية والعلمية لمواجهة تحديات الإمبريالية والصهيونية.
3. دعم صمود العراق بسبب دعمه للقضية الفلسطينية وعدائه للإمبريالية والصهيونية.
وإذا كانت الحجة الأولى مقبولة, إذ كانت قوى وأحزاب سياسية عراقية كثيرة ترفض الحصار وتسعى إلى رفعه دون الحاجة إلى أي تحالف مع النظام, بل حتى النضال ضده, فإنها لم تكن مقبولة بالنسبة للقضيتين التاليتين, إذ أن النظام كان قد استخدم تلك الأسلحة, وخاصة ذات التدمير الشامل, ضد الشعب العراقي بالدرجة الأولى ومن أجل البقاء في السلطة وباتجاهات عنصرية وطائفية مقيتة.
وضع اللقاء مع أمين عام المؤتمر القومي العربي الأساس الجديد للتعاون مع قيادة حزب البعث ومجلس قيادة الثورة وصدام حسين مباشرة حتى وصل الأمر بهذا التيار الفكري السياسي أن عقد مؤتمره الحادي عشر في بغداد في الفترة بين 10-13 أيار/مايو 2001 غاضاَ النظر عن وجود السجون والمعتقلات المليئة بالمعتقلين والمسجونين من أصحاب الرأي الآخر والقومية الأخرى والمذاهب الأخرى, وغير بعيدة عن ودوائر ومراكز التعذيب وسلب كرامة الإنسان والقتل المتواصل والمقابر الجماعية التي أشادها النظام في سائر أنحاء العراق. ولا يمكن القبول بأي ادعاء من جانب قيادة هذا التيار بأنها كانت لا تعرف بكل ذلك, فهي كانت يوماً ما ضحيته أولاً, ولأن المنظمة العربية لحقوق الإنسان التي مقرها في القاهرة كانت تنشر سنوياً تقريراً مفصلاً تقريباً عن المجازر والجرائم والتجاوز الفظ على حقوق الإنسان في العراق ثانياً, إضافة إلى التقارير الدولية الأخرى التي كانت تصدر عن منظمات حقوق الإنسان والأمم المتحدة. وتشكل القوى القومية العربية الأكثرية الساحقة في عضوية الأمانة العامة للمنظمة العربية لحقوق الإنسان. وكان هدف البعث والقوى القومية تسويق النظام العراقي مجدداً في الوسط العربي وفي المنطقة والعالم, وقد فشل في ذلك, رغم التذبذب الذي بدا على بعض الدول العربية في هذا الصدد. وكانت الحرب الثالثة التي شنتها الولايات المتحدة ضد النظام العراقي قد وضعت حداً لتلك الجهود, ولكنها فتحت الباب على شكل آخر من التعاون بين قيادة المؤتمر القومي العربي وبين فلول النظام العراقي وحزب البعث العربي الاشتراكي -جناح صدام حسين الذي ما يزال يحتل موقع الأمين العام للقيادتين القومية والقطرية لهذا الحزب.
وبعد سقوط النظام انبرى أحد قادة المؤتمر القومي العربي وعضو اللجنة التنفيذية من العراق مدافعاً عن صدام حسين ومهاجماً, في إحدى ندوات القنوات الفضائية العربية, أولئك الذين يتجرأون (كذا) على الإساءة لرئيس الجمهورية العراقية صدام حسين وشتمه في الصحافة العراقية! وعبَّر هذا الموقف عن وفاء شخصي وحزبي "للقائد الضرورة" صدام حسين وتأكيداً للرعاية التي حظي بها هو والمؤتمر القومي العربي في السنوات الأخيرة من جانب النظام. ويبقى هذا الأمر حقاً من حقوق هذا الشخص والمؤتمر الذي ينتمي إليه, وقد مارسا هذا الحق فعلاً. ولكن هذا الشخص, وكذا المؤتمر القومي العربي الذي ينتمي إليه, وضع نفسيه ومؤتمره القومي, كما فعل قبل ذاك أمين عام المؤتمر السيد معن بشو, بعيداً عن مواقع الغالبية العظمى من الشعب العراقي التي عرفت في صدام حسين سفاحاً مرعباً زج العراق بحروب مدمرة وأقام عشرات المعتقلات والسجون وملأها بالمعتقلين من مختلف القوميات والأديان والمذاهب والاتجاهات الفكرية والسياسية, بمن فيهم القوميون والبعثيون. ويصعب أن تنجب المنطقة العربية في الحقبة القادمة سفاحاً وعنصرياً ومستبداً بأمره مثل صدام حسين.
لقد كان بعض القوميين العرب الذين يغادرون العراق إلى الخارج وبموافقة النظام لحضور "مؤتمرات الأمة" أو مؤتمرات أخرى يتحدثون بهمس شديد, خشية الموت عند عودتهم إلى العراق كما حصل لكثيرين غيرهم, عن الوضع المأساوي في العراق وبشكل شخصي. وكان هذا مفهوماً ومعقولاً في آن واحد. وكان تعبير "يد الثورة التي تمتد طويلاً" هي الجملة المحببة لدى بعض قادة التيار القومي اليميني عند الحديث عن الوضع في العراق, لهذا كان سكوتها مطلوباً.
لقد عانى القوميون العرب من ظلم وجور النظام البعثي في العراق في أعقاب انقلاب تموز 1968, وزج بالعشرات والمئات منهم في المعتقلات وعوملوا معاملة وحشية حقاً فيها الكثير جداً من الإهانة لكرامة الإنسان. ويستطيع العديد ممن كان معتقلاً معهم وعانى مثلهم أن يقدم لوحة مرعبة عن أساليب التعذيب التي استخدمت ضد المعتقلين السياسيين, ومنهم الجماعة القومية, ومن بينهم بعض القادة العراقيين من مجموعة المؤتمر القومي العربي, وكذلك بعض من حكموا العراق في فترة حكم عبد السلام وأخيه عبد الرحمن عارف. لقد كان التعذيب شرساً والإساءة لكرامة الإنسان أكثر شدة وشراسة. ولقد مات منهم من مات, ولكن هناك بعض الأحياء منهم ممن ما يزال يواصل التعاون مع فلول صدام حسين حتى بعد سقوط النظام, فأي إخلاص هذا "للقائد العربي التاريخي ومنقذ الأمة المغوار وحامي حمى العرب في كل زمان ومكان!
وفي الآونة الأخيرة أصدرت مجموعة من القوميين العراقيين من مختلف التيارات القومية والناصرية والعاملة في الحقل السياسي بياناً سياسياً بتاريخ 12/11/2003 موجهاً إلى الشعب العراقي تدعوه فيه إلى التحرك على عدد من المهمات. وصدور البيان بحد ذاته يعبر عن بدء تحرك قومي مشترك يضم إليه العديد من التيارات القومية وبعض الوجوه الأخرى لمواجهة الوضع الجديد الذي نشأ في أعقاب سقوط النظام الاستبدادي. وعودة هذه القوى إلى العمل العلني يعبر بحد ذاته عن تخلصهم من السيف الذي سلط على رقابهم سنوات طويلة, حتى بعد أن أعلنوا من على منبر المؤتمر القومي العربي في بغداد في عام 2001 عن دفاعهم عن النظام العراقي, كما يعبر عن تمتعهم بالحرية في الحديث وإصدار البيان كبقية العراقيات والعراقيين الذين حرموا من هذه النعمة الإنسانية الأولية منذ عشرات السنين, وخاصة بالنسبة لأولئك القوميين الذين أجبروا على السكوت في فترة حزب البعث, علماً بأن البيان قد حمل أسماء من المجموعتين, سواء تلك التي سكتت أم التي ساومت بحيوية كبيرة وضمنت مكاناً لها تحت "شمس الدكتاتورية المحرقة".
تضمن البيان مجموعة من الأفكار والمهمات, وأغفل العديد من الأفكار والمهمات الأخرى, إذ كان عليه, كما يبدو لي, أن يمر عليها ويشير إليها ولو بكلمة واحدة ليعرف المجتمع الموقف الكامل والفعلي للقوى القومية ضمن المجموعات التي وقعت على البيان. وسنحاول فيما يلي تناول البيان بالمناقشة, بأمل أن يكون البيان تحت تصرف القارئة والقارئ في العراق والمهتمين بالشؤون العراقية, علماً بأن البيان قد نشر في جريدة الحياة اللندنية بتاريخ 12/11/2003.
أولاً: بدأ البيان بإدانة الموجات الرهيبة من السلب والنهب والتخريب التي لا تعي الذاكرة مثلاً لها ولا يمكن تبريرها التي تعرض لها العراق في أعقاب سقوط النظام. وهي إدانة سليمة ونساندها لأنها لم تعبر بأي حال عن الوجه المشرق للشعب العراقي. بل عن الوجه الكالح للفترة السوداء التي عاش فيها العراق في ظل النظام الدموي وعانى الأمرين من وطأة الحرمان والبؤس والفاقة والنهب المتواصل لموارده من جانب قيادة الحزب والدولة. ووجه الاتهام إلى قوات الاحتلال التي لم تتخذ الإجراءات الكفيلة بمنع وإيقاف هذه العمليات. وكل منصف يقف إلى جانب هذا الاتهام. ويؤكد البيان بأن هذه العملية كانت كما يبدو مدبرة ومطلوبة من جانب الولايات المتحدة. ويمكن أن يتفق وأن يختلف الإنسان مع هذا التقدير, ولكن لا تعفى الإدارة الأمريكية وقواتها من مسؤولية ذلك في كل الأحوال. إلا أن البيان يبتعد تماماً عن ذكر ثلاث حقائق مهمة في هذا الصدد, وهي:
• أن النظام الاستبدادي كان قد أعد خطة متكاملة لمواجهة الوضع الجديد في حالة سقوطه, وكان يدرك تماماً أنه عاجز عن المجابهة والاستمرار بها طويلاً, من بينها إشاعة الفوضى والتخريب والقتل في البلاد, وهو ما حدث فعلاً ومن خلال قواه الخاصة أيضاً.
• وأن النظام كان قد أطلق سراح عشرات الآلاف من سجناء الحق العام من قتلة وقطاع طرق ونهابة ومزورين ومختلسين ومتحايلين ...الخ, الذين وجدوا فرصة ثمينة في إشاعة الفوضى والنهب والسلب والتخريب في البلاد. ولم يكن هذا خافياً عن مخطط النظام ذاته قبل سقوطه.
• وأن هذه الفترة من الفوضى والتخريب قد سمحت له بتحقيق الإفلات من عمليات إلقاء القبض على القسم الكبير من أقطاب النظام وأجهزة الأمن والحرس الجمهوري والقوات الخاصة وفدائيي صدام حسين, كما أنه فسح المجال لهم لتهريب الأموال الكبيرة جداً التي كان النظام قد قرر مصادرتها واستخدامها في عمليات المواجهة مع الوضع الجديدة, إضافة إلى تهريب كميات كبيرة منها إلى الخارج. وقد عثر صدفة على مئات الملايين من الدولارات الأمريكية المسروقة من البنك المركزي العراقي وهي في طريقها إلى الأردن, على سبيل المثال لا الحصر.
ولم يكن هذا الإغفال جهلاً بالواقع, بل غزلاً مكشوفاً مع صدام حسين وفلول النظام التي ما تزال بعيدة عن وضعها في قفص الاتهام, وإعلاناً عن التحالف المتجدد الذي أعلنه المؤتمر القومي العربي في مؤتمري بيروت وصنعاء في أعقاب سقوط النظام الاستبدادي والذي تبلور في بيانات هذين المؤتمرين وفي تصريحا ومناقشات الأمين العام الجديد السيد معن بشو, اللبناني الجنسية.
ثانياً: يطرح البيان موقفاً صائباً بشكل عام من القرارات التي أصدرها الحاكم المدني لسلطة الاحتلال ببغداد, السيد بول بريمر, بشأن الاستثمار الأجنبي في العراق والتي فتحت الأبواب على مصراعيها أمام رؤوس الأموال الأجنبية في كل القطاعات الاقتصادية في ما عدا النفط والمواد الأولية الأخرى. وأنا إلى جانب منع تنفيذها, سواء بسبب الجهة والطريقة التي صدرت بها تلك القرارات أم بسبب مضمونها الذي يلحق أضراراً بالاقتصادي والمجتمع العراقي. وقد كتبت أكثر من مقال في هذا الصدد. وبالتالي فهي كلمة حق قيلت بهذا الشأن. ولكن الخلل في البيان يبرز في مواقع أخرى, وأعني بذلك ما يلي:
• توجيه الاتهام الباطل إلى القوى الديمقراطية واليسارية وكأنها وافقت على هذه القرارات بشأن الاستثمار الأجنبي, في حين أنها أعلنت رفضها لها وتحدثت بذلك أكثر من مرة وفي أكثر من محفل. كما أنها قبل ذاك قد رفضت الاحتلال ذاته. واعتبر الكثير من أعضاء المجلس بأن هذه القرارات بمثابة تجاوز على دور ومهمات قوات الاحتلال وتدخل في شؤون العراق مباشرة ولا تنسجم مع قرارات مجلس الأمن الدولي رقم 1483 و1511 لسنة 2003. إلا أن النقد الموجه إلى المجلس صائب, كما أرى, إذ أنه لم يصدر موقفاً واضحاً إزاء تلك القرارات وتصريحات وزير المالية, بل اكتفى أحد أعضاء المجلس بالقول بأن الوزير لا يمثل رأي المجلس.
• وفي الوقت الذي كان موقف الموقعين على البيان القومي صحيحاً بشأن الاستثمارات الأجنبية, فأين كان موقف القوميين أنفسهم الذين وقعوا على هذا البيان من سياسات النظام الاقتصادية ومن بيعه بأبخس الأثمان مشاريع قطاع الدولة على أقارب الدكتاتور وحاشيته والمقربين منه, أو من سياساته العدوانية التي فرطت بموارد العراق المالية ورفعت من مديونية العراق وأخلت بالاستقلال والسيادة الوطنية العراقية. أين كان هذا التيار القومي الذي أصدر البيان من واقع أن الدخل العراقي قد تدهور من 4400 إلى 400 دولار أمريكي خلال اقل من عشرين عاماً, والذي لم يكن بسبب الحصار فقط, بل وبسبب سياسات النظام الاستبدادية والعسكرية الإرهابية نحو الداخل والتوسعية العدوانية نحو الخارج. أو عندما سيطر صدام حسين على أل 5% من إيرادات النفط العراقي التي كان يتسلمها قبل ذاك السيد كولبنكيان, أو عندما كان نهب قطاع الدولة وموارده والقومسيونات الضخمة التي كان يتقاضاها ويحققها أتباع النظام لأنفسهم عير عقود الأسلحة والتبادل التجاري وتهريب الأموال إلى البنوك الأجنبية.
• إن إجراءات الحاكم المدني مرفوضة في كل الأحوال, ولكن على القوى القومية أن لا تزايد مع القوى اليسارية العراقية في هذا الصدد. فالعراق غير قادر على تجاوز اقتصاد السوق وآلياته شريطة ربطه بالضمانات الاجتماعية وقوانين ملزمة في مجال العمل والأجور والصحة والتقاعد ...الخ, ليمكن ضمان مستوى عيش وعمل مناسب لمنتجي الخيرات المادية في العراق. كما لا يمكن تجاوز الاستفادة من المساعدات المالية الخارجية أو الاستثمار الأجنبي شريطة أن يعمل وفق قوانين البلاد وتصدر عن سلطة شرعية تتمتع بثقة الشعب وعبر مؤسساته الدستورية الجديدة.
ثالثاً: أتفق مع المهمات الثلاث التي طرحها البيان والخاصة بعودة الحياة الطبيعية وتحقيق الاستقلال الوطني الناجز وصوغ دستور يعبر عن توجهات الشعب ويلخص تجربته النضالية الغنية. وهي مهمات عامة وغير كافية بطبيعة الحال. ولكن الغريب في أمر موقعي هذا البيان القومي أنهم:
• تجنبوا الإشارة إلى النظام الاستبدادي الدموي ولو بكلمة شجب واحدة لسياساته الفائتة التي أغرقت العراق بسيل من الدماء والدموع طوال أكثر من ثلاثة عقود ونصف العقد, وكانوا هم أيضاً من ضحاياه ابتداءاً.
• تجنبوا الإشارة إلى السياسات المعادية لمصالح الشعب العراقي التي مارسها النظام وقادت إلى صدور قرار فرض الحصار الاقتصادي الدولي, خاصة بعد غزوه للشقيقة الكويت ورفضه الانسحاب منها رغم كل الجهود الدولية التي بذلت على هذا الطريق. كما تجاوزا العواقب المأساوية التي نجمت عن مراوغة النظام بشان أسلحة الدمار الشامل التي استخدمها فعلاً ضد الشعب الكردي في كردستان العراق وضد سكان الأهوار في جنوب العراق وضد الجارة إيران في حربه المجنونة ضدها.
• وتجنبوا أيضاً الحديث عن مئات ألاف الضحايا التي سقطت في كردستان العراق وفي وسط وجنوب العراق وعن الملايين التي هجرت قسراً أو هاجرت تحت وطأة استبداد النظام, وتجنبوا أيضاً شجب جرائم النظام ولو بكلمة واحدة ولم يعبروا عن تعازيهم ومواساتهم وتضامنهم مع عوائل ضحايا المقابر الجماعية المنتشرة في أنحاء العراق, إضافة إلى عمليات التعريب والتهجير القسري للأكراد والتركمان من كركوك.
• كما تجنبوا وبشكل فاضح إدانة عمليات التخريب المتواصلة في العراق والتي تقتل عدداً متزايداً من العراقيات والعراقيين من مختلف الأعمار, وكأن فلول نظام صدام حسين لم تكتف بمن قتلت قبل ذاك أثناء وجودها المديد في السلطة, إضافة إلى عدم إدانة عمليات التخريب التي تمارسها الجماعات المرتزقة وأنصار القاعدة ومن ماثلها في النهج التطرفي والإرهابي والتي ولجت العراق سراً ومن مختلف البلدان المجاورة, علماً بنشوء تحالف جديد بين كل هذه الجماعات الخائبة التي غاصت في ساديتها إلى حد أنها لا ترتاح إلى رؤية الدم وجثث الضحايا المتساقطة نتيجة عملياتها الإرهابية لا في العراق فحسب, بل وفي أماكم أخرى من العالم.
ولا يعقل أن يكون هذا التجنب أو التجاهل قد حصل سهواً بأي حال, بل أنه يعبر عن موقف ناجم:
أ?. إما عن تضامن مع تلك القوى التي تقوم بهذه العمليات الإرهابية التخريبية,
ب?. أو عن خشية من قيام فلول النظام بالانتقام من الجماعات التي تشجب نشاطاتها والتي تعاونت معها قبل ذاك أو ساومتها على وجودها ومكاسبها.
إن الواقع العراقي الراهن يتطلب مواقف صارمة إزاء ما يجري في العراق ولا يتحمل مواقف متذبذبة أو مساومة وحمال أوجه.
رابعاً: قلة قليلة جداً من الناس هللت للاحتلال الأمريكي-البريطاني للعراق, رغم أن الفرحة قد غمرتها بسقوط النظام الدموي. وهذه القلة لا يمكن الموافقة على رأيها, إذ أن الغالبية العظمى من الشعب العراقي كانت وما تزال ضد الاحتلال. وهي تدرك مخاطر استمراره على الوضع في العراق والمنطقة. ولكن سياسات النظام السابق هي التي تسببت بهذا الاحتلال وعجزت القوى الوطنية عن منع الحرب وحصل ما حصل. والآن فأن إمكانية الخلاص من الاحتلال قائمة شريطة أن يتوصل الشعب العراقي إلى إرساء دعائم الأمن والاستقرار والانتهاء من فترة الانتقال. ويمكن أن تتجمع القلوب على طريق النضال ضد الاحتلال وسوف نراه يرحل عن بلادنا أن استطعنا الخلاص من نشاط الإرهابيين والمخربين ودعاة النظام السابق. ويمكن تحقيق التحالف المنشود الذي تشير إليه القوى القومية في بيانها المذكور عندما تتبنى الحركة القومية العراقية موقفاً واضحاً يدين النظام السابقة ويشجب جرائمه, إذ أنه من حيث المبدأ كان أحد ضحاياه أيضاً. إذ أن الحد الأدنى من الرؤية المشتركة لطبيعة النظام الدكتاتوري السابق وإدانته من جهة والرؤية الموضوعية للواقع القائم والسعي لتغيير مستلزمات تغييره من جهة ثانية والإصرار على إقامة المجتمع المدني الديمقراطي والفيدرالي من جهة ثالثة هي القادرة على جمع الشمل والتخلي عن الأساليب والأدوات والخطاب السياسي الشوفيني, مطلوبة لأي تحالف بين القوى السياسية العراقية.
خامساً: يتهم البيان بأن هناك من يعمل لتحقيق المنافع من خلال وجوده في مجلس الحكم الانتقالي بسبب سكوتهم عن إجراءات قوات الاحتلال. ولا أملك المعطيات للتدليل على ذلك, وعلى الجهة القومية أن تدلل على ذلك بوثائق تدين هذا العضو أو ذاك من أعضاء مجلس الحكم الانتقالي أو أعضاء في مجلس الوزراء المؤقت. وعلى مجلس الحكم والحكومة تبرئة نفسها من هذه التهم, عندما تكون التهم جادة وفعلية وليست ناتجة عن الرغبة في الإساءة لهذا الشخص أو ذاك. ولا يمكن تصحيح هذا الواقع إلا من خلال نشر المعلومات وطلب إجراء محاكمات.
ولكني أعرف من الجانب الثاني مدى المنافع التي حققها من ساوم النظام على حكمه وسكت عن جرائمه وسار معه إلى الحرب ممجداً دور "القائد الضرورة" في ما قام به في العراق. فما تزال كلمات البيان الختامي للمؤتمر القومي العربي الحادي عشر تحوم في سماء العراق حين كان يلقيها الأمين العام لهذا المؤتمر في الجامعة المستنصرية حيث جاء فيه:
"في رحاب العراق الحبيب, أرض الرافدين العظيمة والحضارات المجيدة, ورمز وشرف الأمة والعزة, وفي قلب بغداد الصامدة, إحدى عواصم الإباء والمقاومة العربية, مدينة العلم والإبداع والمدنية وبرعاية كريمة من السيد الرئيس صدام حسين رئيس الجمهورية العراقية, التأم المؤتمر القومي العربي في دورته الحادية عشرة في الفترة ما بين 13 -19 أيار/مايو1200". [راجع: بيان إلى الأمة, البيان الختامي للمؤتمر القومي الحادي عشر. ص 1ز شبكة الإنترنيت www.arabnc.org].
ولم يكتف القيمون على هذا المؤتمر بذلك, بل أضافوا إليه ما يلي في بيانهم إلى الأمة العربية:
" وإذ تنعقد هذه الدورة في بغداد, ففي ذلك ما يعبر عما يحظى به العراق من عظيم تقدير واعتزاز لدى المؤتمر, ومن يمثل, على دوره القومي التاريخي في مواجهة قوى الهيمنة والعدوان الإمبريالية الصهيونية, وعلى مساهمته الأصيلة في الدفاع عن مصالح الأمة وكرامتها,وحرصه المبدئي الثابت على رفض المساومة على حقوقها تحت أي ظرف؛...". [نفس المصدر السابق].
سادساً وبغض النظر عن البيان الصادر عن المجموعات القومية, فأنا أعتقد بضرورة مشاركة التيار القومي العربي في الحياة السياسية العراقية شريطة أن يقر جملة من المبادئ الأساسية التي لم يعد القبول بغيرها ممكن في العراق, وأعني بذلك الكف عن أتباع سياسة الانقلابات ونبذ العنف في الاستيلاء على السلطة, بغض النظر عن القوى التي تقوم بتلك الانقلابات, والإقرار بمبادئ الحرية والديمقراطية والحقوق الأساسية للشعب الكردي والأقليات القومية في العراق والموافقة على التعددية الفكرية والسياسية بمفهومها الواسع والتداول الديمقراطي البرلماني السلمي للسلطة ...الخ.
كان القاسم المشترك الأعظم بين القوى القومية والبعثية في العراق هو الرغبة في الهيمنة والانفراد بالسلطة السياسية وفرض الخيمة الفكرية القومية والحزب الواحد وتغييب الديمقراطية عن بقية الاتجاهات والقوى الفكرية والسياسية. وعلينا أن نعترف أيضاً بأن هذه الوجهة في الهيمنة الفكرية ومسح الآخر مع الأرض كانت تعشعش في فكر وسياسات الأحزاب العراقية الأخرى دون استثناء لقناعة كل منها بامتلاكها الحقيقة المطلقة وفقدان الآخرين لهذه الحقيقة. وأدت هذه الوجهة في الفكر والسياسة إلى كوارث مرعبة وغلى قيام دكتاتوريات غاشمة, التي ما يزال الشعب العراقي يعاني من عواقبها الوخيمة, والتي يفترض التخلص منها بكل صرامة وحزم.
ويفترض أن تتخلى كل الأحزاب السياسية العراقية وكل الجماعات والأفراد وبشكل مطلق عن ذهنية العنف وممارسة القوة واستخدام السلاح لحل المشكلات ومحاولة الهيمنة على السلطة والمجتمع. فمبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان ترفض ذلك ويفترض أن نلتزم بها جميعاً. فالحوار والتعايش مع الاختلاف في وجهات النظر والتحري عن آليات ديمقراطية لحل المشكلات يفترض أن تكون ثابتة لا تتزعزع, وأن الاحتكام حول الأفكار والبرامج والسياسات لمختلف الجماعات والأحزاب السياسية يجب أن يترك لصناديق الاقتراح في ظل مجتمع دستوري ديمقراطي فيدرالي متفتح. وعبر هذا الطريق يمكن أن نفتح صفحة جديدة في العلاقات داخل المجتمع وفي ما بين الأحزاب ونطوي صفحة الدم والدموع والكوارث في العراق, وكلنا مسؤول عن ذلك رغم التباين الكبير جداً في مسؤولية ما آل إليه العراق. إذ تقع الآن وعلى عاتق جميع مواطنات ومواطني العراق مهمة إعادة بناء الاقتصاد والمجتمع وفق أسس ديمقراطية وحكم فيدرالي دستوري وديمقراطي حديث, والتخلص من المخربين والإرهابيين والعتاة القتلة الذين دنسوا أرض الوطن بالجرائم البشعة, إضافة إلى التعجيل بإنهاء الاحتلال العقيم الذي يخضع له العراق حالياً.
برلين في 27/11/2003 كاظم حبيب
كاظم حبيب
الآفاق المحتملة لتحالف الأحزاب والقوى الديمقراطية في عراق اليوم!
في الشهر الأخير من العام المنصرم أعلن عن قيام تحالف جديد بين الأحزاب السياسية الديمقراطية في العراق بعد اتفاقها المبدئي على قواسم مشتركة في ما بينها وترك الباب مفتوحاً أمام القوى الأخرى للولوج إلى هذا التحالف والالتزام والعمل وفق المبادئ الديمقراطية في العلاقة مع الجماهير وفي ما بينها وفي حكم البلاد. وتشكل هذه الخطوة المهمة, التي جاءت متأخرة جداً ولكنها كانت وستبقى ضرورية وأساسية, قاعدة أساسية للنضال الذي يخوضه الشعب العراقي بكل قومياته وجماعاته الدينية والمذهبية وذات الاتجاهات الفكرية والسياسية المختلفة من أجل طي فعلي لصفحة الماضي البائس وفتح صفحة جديدة للعراق الجديد الذي يفترض أن ينهض وفق مبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والحقوق القومية العادلة والمشروعة للشعب الكردي والأقليات القومية. وقد كان لهذا الإعلان أثره الطيب والمنعش في نفوس كل الناس الخيرين الذين تنادوا من أجل تأمين نشوء مثل هذا التحالف الديمقراطي العراقي, إذ يأملون منه الخير للعراق بعد ليل مظلم وطويل جداً وولادة قيصرية عسيرة.
من تابع وناضل في صفوف القوى الديمقراطية العراقية يدرك تماماً بأن قيام مثل هذا التحالف كان عليه أن يقوم منذ سنوات طويلة في النضال ضد النظام الدكتاتوري الدموي. وقد ظهرت العديد من الجبهات التي كان لها دورها في النضال, ولكنها لم تستمر طويلاً ولم تنجح في تحقيق المنشود منها, رغم أنها قد ساهمت بقسط مهم في فضح طبيعة النظام الدكتاتوري وأضعفته كثيراً ولكنها لم ترتق في قدراتها إلى المستوى الذي يمكن به إسقاط ذلك النظام العتي الغارق حتى قمة رأسه بدم العراقيين. ولم يكن عجز القوى الديمقراطية وكل قوى المعارضة في إسقاط النظام ناجم عن ضعفها فحسب, بل عن موقف عربي وإقليمي ودولي رسمي أساساً ولكنه مشحون بموقف شعبي عربي مناهض عملياً لقوى المعارضة العراقية وساكت أو مؤيد لسياسات ومواقف النظام العراقي على الساحة العراقية وإزاء الشعب العراقي. وكان التأييد من بعض الدول المجاورة محدوداً نسبياً, إذ غالباً ما تركز في القبول بوجودها على أرضها والسكوت عن نشاطها, إذ كانت تلك الدول تعاني من حروب أو مؤامرات النظام ضدها مباشرة, كما في حالة إيران والكويت أو سوريا. ومع ذلك فالموقف العام كان معقداً جداً وكانت الخشية من المعارضة العراقية كبيرة أيضاً, وبشكل خاص من جانب الولايات المتحدة, لهذا سعت إلى محاولة احتوائها لا بسبب حبها لها, بل بسبب خشيتها منها, وهو ما تجلى في أعقاب سقوط النظام ورفض تسليم السلطة مباشرة إلى العراقيين والتعاون معها لمواجهة الوضع الجديد. لو كان قد تسنى لقوى المعارضة العراقية أن تسقط النظام بقواها الخاصة وبدعم سياسي ومعنوي دولي واسع لكان الوضع على غير ما عليه الآن, ولكانت المعادلة غير القائمة حالياً. ومع ذلك فالنظام العنصري المقيت قد سقط إلى غير رجعة تحت ضربات القوات الأمريكية ولابريطانية التي احتلت العراق, وسيقف صدام حسين وزمرته أمام محكمة عراقية, وربما لاحقاً أمام محكمة دولية أيضاً, ليقدموا الحساب عن خمسة مسائل أساسية, وهي:
1. مصادرتهم الكاملة للحريات والحقوق الأساسية للجماهير الشعبية وإطلاق يد الأمن والاستخبارات في رقاب الناس ودورهم في دفع الملايين من البشر على مغادرة العراق والعيش في المهجر, وتزويرهم إرادة المجتمع في الانتخابات المختلفة واستخدامهم للمنظمات والنقابات في جلد الشعب ومطاردة قوى المعارضة السياسية والمهنية.
2. ممارسة الإرهاب والقمع الدمويين ضد الشعب العراقي عموماً ونشر المقابر الجماعية في مواقع كثيرة من أرض العراق, وهي شهود وشواخص كثيرة على أفعال الطغمة الحاكمة طيلة حكمهم, الذي بدأ عملياً في عام 1968 وانتهى في عام 2003.
3. استخدامهم الأسلحة الكيماوية ضد الشعب الكردي وعمليات الأنفال وغيرها من الجرائم البشعة في كردستان العراق وعمليات التعريب القسري والتطهير العرقي للأكراد والتركمان من كركوك أو للأكراد من مدن كردية أخرى, والتهجير القسري والقتل الواسع لأعداد كبيرة من الأكراد الفيلية وعرب الوسط والجنوب في داخل السجون والمعتقلات, إضافة إلى تلك الجرائم التي ارتكبت بحق سكان الأهوار والبيئة في جنوب العراق, ومنها تجفيف تلك الأهوار.
4. دورهم في شن الحرب ضد إيران وغزو الكويت وتسببهم في حرب الخليج الثانية بسبب رفضهم الانسحاب منها, ثم ما تبع ذلك من حصار وموت مئات الآلاف من الأطفال والشيوخ والعجزة بسبب ذلك, إضافة إلى قتلى الحروب والخسائر المالية الهائلة والحضارية في البلاد.
5. إهدارهم للموارد المالية المتأتية من النفط الخام ومن غيرها عبر نهب خزينة الدولة لصالح الطاغية والطغمة الجشعة وحزبهم النهم وكوادرهم المقربة منهم, وتحميلهم العراق ديون وتعويضات مالية هائلة يئن الشعب تحت وطأتها الثقيلة.
إن الإعلان عن قيام التحالف السياسي الديمقراطي حالياً يعبر في كل الأحوال عن إدراك قادة القوى السياسية والشخصيات المدعوة إلى الاجتماع والمشاركة فيه وتلمسها لجملة من الأمور التي يفترض أن تواجه بحزم ونضالية عالية وأن تسعى إلى توعية المجتمع العراقي, الذي عانى لأربعة عقود خلت من ظلم مريع, بأهمية وضرورة السير على طريق الديمقراطية ونبذ كل أشكال الاستبداد والتحكم في رقاب الناس تحت أية واجهة جاءت. إلا أن هذا الإعلان يتطلب أيضاً خلق أرضية صالحة لا لفهم المبادئ والأهداف العامة وحدها, بل السبيل إلى تحقيق تلك المبادئ وإلى استيعاب تفاصيل العمل بتلك المبادئ من جهة, وإلى التوسع في شرح الأهداف دون الخشية من احتمال بروز التناقضات والصراعات, إذ أن ما يؤسس على فهم متبادل لكل الأمور بما في ذلك الخلافات الموجودة يمكن أن يصمد أمام العواصف المحتملة, إذ أن المهمات القادمة ليست أقل أهمية من الخلاص من الدكتاتورية المخلوعة, بل هي مكملة لها وجزء حيوياً منها وبدونها ستستعيد الدكتاتورية مواقعها في العراق ولكن تحت تسميات وأهداف وشعارات وشخصيات أخرى.
في ضوء ذلك تقف القوى الديمقراطية العراقية بكل أطيافها أمام عدة مهمات جوهرية, منها بشكل خاص:
أ?. خوض نضال فعال وحيوي نشط في صفوف الجماهير لا لنشر الوعي الديمقراطي إزاء مختلف المسائل وتخليصها من الأوهام والغيبيات العالقة في أذهانها من الفترات المظلمة السابقة وكذلك من الخوف من المستقبل, فحسب بل وتنشيط دورها في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية ودعوتها إلى أخذ مصيرها بيديها والتعاون الواعي والتام مع القوى الديمقراطية لتحقيق الأهداف النبيلة التي تسعى إليها هذه القوى. وعلينا أن ندرك صعوبة هذه القضية لعوامل كثيرة بما في ذلك ضعف الثقة بالأحزاب السياسية ومشاعر الغضب لدى البعض الكثير حول مواقف بعض القوى السياسية الديمقراطية سابقاً أو ربما بعد سقوط النظام أيضاً. وهي عملية معقدة أيضاً بسبب حالة انفصام الشخصية التي تعمقت في النفوس وأصبحت وكأنها جزء من شخصية الذكر العراقي قبل الأنثى العراقية. ويتطلب هذا الأمر بدوره تنسيق هذا النشاط وتوزيع العمل بين القوى المتحالفة لكي تعمل بتناغم وباتجاهات واضحة وسليمة تعيد إلى الشعب العراقي ذاكرته الديمقراطية وحبه وتعطشه للحرية والتمتع بالحياة ومباهجها بدلاً من الغوص في الأحزان والآلام والبكاء والعويل الذي تروج له بعض الجهات الجاهلة وغير الواعية لأضرار ذلك على المجتمع. ولا يجوز تخلف أي طرف من القوى السياسية المتحالفة عن هذه العملية وعن بذل أقصى الجهود على هذا الطريق, لكي نستطيع تحقيق تحول سريع في أذهان الناس قبل فوات الآوان, خاصة وأن الشارع العراقي ما يزال حبيس الماضي باتجاهات مختلفة.
ب?. العمل من أجل كسب قوى سياسية جديدة إلى جانب قوى التحالف الراهنة لضمان أوسع جبهة ممكنة تثق بقدرة الديمقراطية على دفع البلاد صوب تحقيق أهدافها المشروعة التي سجلت في الحوار في ما بين الأطراف وتلك التي لم تسجل حتى الآن. وهي مسألة ضرورية إذ أن هناك تأثيرات غير قليلة لقوى وشخصيات ومنظمات مهنية متعددة الاتجاهات تنشد الديمقراطية والسلام في العراق.
ت?. العمل على طرح برنامج ديمقراطي أوسع مما جاء في الحوار بين القوى السياسية الديمقراطية في الشهر الأخير من عام 2003. وأعني بذلك وضع بعض التفاصيل المهمة ذات الأهمية البالغة لمستقبل العراق الديمقراطي, والتي لا يمكن تجاوزها, بل من شأنها تنشيط القوى السياسية الديمقراطية ودفع المزيد للالتحاق بالتحالف السياسي الجديد غير الموجه ضد أحد والهادف إلى إنقاذ العراق من الحالة التي يعيش فيها حالياً. وهذا يعني أن البرنامج يفترض أن يتضمن مواجهة العمليات العدوانية ضد قوى الشعب العراقي الجارية حالياً من قوى سياسية معينة, سواء أكانت داخلية أم خارجية. وهي القوى التي تمثل بقايا النظام المخلوع وقوى أنصار الإسلام والقاعدة وبعض القوى الأخرى ذات الاتجاهات العنصرية والشوفينية التي لا تريد أن ترى عراقاً ديمقراطياً فيدرالياً مستقلاً ومتقدماً, بل تريد فرض الدكتاتورية عليه وتسير في الطريق المماثل لطريق الدكتاتور صدام حسين. إنها المهمة الآنية التي تواجه العراق حالياً والتي تساهم في تعجيل المهمة المركزية للعراقيات والعراقيين, مهمة إنهاء الاحتلال واستعادة العراق لاستقلاله وسيادته الوطنية التي فقدها منذ سنين طويلة وفي ظل النظام السابق. ويفترض أن يتحدد موقف القوى الديمقراطية لصالح إقامة نظام جمهوري ديمقراطي فيدرالي يحقق للشعب العربي والشعب الكردي والأقليات القومية حقوقها المشروعة والعادلة, إضافة إلى إقامة المجتمع المدني الذي يفصل لا بين السلطات فحسب, بل بين الدين والدولة أيضاَ لصالح الدين والدولة في آن واحد. وأن يحترم النظام الديمقراطي كل الأديان والمذاهب ويرفض التدخل في شؤونها الداخلية ويمنحها الحرية الكاملة في أداء طقوسها وشعائرها الدينية والمذهبية ومنع الإساءة لها من أي جهة كانت. كما يؤكد على التزام اقتصاد السوق الاجتماعي الذي يربط بحيوية بين اقتصاد السوق والضمانات الاجتماعية للسكان عموماً ويمنع الاستغلال الأكثر بشاعة للمجتمع العراقي, ويحافظ على الثروة الوطنية وخاصة النفط الخام والغاز الطبيعي ويضعها في خدمة المجتمع والتطور الاقتصادي. كما يفترض تأكيد وجهة السياسة العربية والإقليمية والخارجية للعراق في ضوء مبادئ الأمم المتحدة وتعزيز دور العراق في المنظمات والهيئات الدولية والجامعة العربية ودول الخليج بما يحقق المصالح المتبادلة والمتكافئة بين بلدان العالم. ويفترض أن يؤكد الدستور العراقي الجديد على ضمان الحياة الحرة والديمقراطية والبرلمانية الدستورية والتداول الديمقراطي البرلماني للسلطة ورفض العنف والانقلابات والاستبداد بكل أشكاله, ورفض هيمنة أية خيمة فكرية لجهة واحدة أو أكثر على البلاد, إضافة إلى حرية الأحزاب والصحافة والنشر وبقية مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان, وخاصة المساواة بين المرأة والرجل وتحريرها من القيود القاسية والشرسة المعرقلة لنشاطها ودورها في الحياة العراقية العامة ...الخ.
ث?. تطوير أساليب وأدوات الإعلام الديمقراطي الحر بمختلف اتجاهاته السمعية والمرئية والمقروءة وتجديد مضمون ووجهة ومكونات خطابها السياسي والتعبوي الموجه إلى الجماهير العراقية وإلى البلدان العربية ودول الجوار والعالم. نحن بحاجة على إعلام جديد وصريح وفعال, فالمجاهرة خير سبيل للوصول إلى عقول وقلوب الناس وتعبئتهم لصالح النضال في سبيل قضاياهم العادلة والمشروعة.
إن العراقيات والعراقيين أمام مرحلة جديدة ويأمل الإنسان أن لا تستقطب الصراعات وخاض بالطريقة التي تمت بها في عام 1958/1959 والفترة اللاحقة, بل بطريقة ديمقراطية عقلانية, وأن يتم التحضير الجيد وغير المستعجل للانتخابات القادمة والتي يفترض أن لا تخضع لقضية انتقال السلطة المؤقتة إلى أيدي العراقيات والعراقيين ولا تتأثر بها, بل يفترض إنجاز الانتقال بسرعة لضمان العمل في سبيل الإعداد الفعلي للانتخابات بما في ذلك إجراء الإحصاء العام ومنح القوى السياسية العراقية فترة زمنية مناسبة للمشاركة في الحملة الانتخابية والدعاية لبرامج جبهة التحالف الديمقراطي بصورة سلمية وديمقراطية وفي أجواء من الهدوء والاستقرار والسلام وليس تحت ثقل الإرهاب والضغوط المختلفة.
إن الشعب العراقي بعربه وكرده وتركمانه وآشوريه وكلدانه, أمام مرحلة جديدة وحاسمة بالنسبة إلى الدرب الذي يفترض أن يسلكه العراق, وهي مهمة كبيرة وتحتاج إلى هدوء بال وعمل كبير وقرار تتخذه كل عراقية ويتخذه كل عراقي بصورة مستقلة ولكن بمسؤولية عالية إزاء مصائر المجتمع العراقي ووجهته اللاحقة ودوره في المنطقة والعالم. وأنا على ثقة بأن القوى الديمقراطية العراقية قادرة على استعادة مواقعها في صفوف الشعب العراقي, تلك المواقع التي فقدتها بسبب غياب أو انقطاع طويل لأغلب كوادرها عن الساحة المباشرة في بغداد والمدن والأرياف العراقية نتيجة إرهاب النظام, وأنها لقادرة على إقناع قوى سياسية وطنية أخرى بأهمية خيار الطريق الديمقراطي لعراق المستقبل. كما أن في مقدورها إقامة تحالفات وطنية مع قوى سياسية أخرى ترى في الديمقراطية طريقاً مناسباً لها أيضاً في النضال من أجل عراق أفضل. إن التحالف الديمقراطي الجديد, كما ارى, يسعى إلى كسب قوى جديدة له ولا يمكنه رفض طلب قوى سياسية أخرى تريد الانضمام له إن قررت الالتزام بالديمقراطية وحقوق الإنسان ورفضت إقامة مجتمع منغلق على نفسه وخاضع لولاية بعينها. إذ أن أية ولاية من هذا لنوع لا تعني سوى الدكتاتورية الفردية, ولكن بوجه كالح آخر, وهو ما يفترض أن ترفضه القوى الديمقراطية جملة وتفصيلا.
لا شك في وجود تحالفات سياسية أخرى ظهرت إلى حيز الوجود أو ستنشأ قريباً. وهو أمر يساعد في الوصول إلى:
1. وضوح المواقف وبروز نقاط الالتقاء والاختلاف, سواء في المبادئ العامة أم في الأهداف وتفاصيل تلك الأهداف.
2. احتمال نشوء اصطفافات جديدة للقوى بما يسهم في نشوء تحالفات بين القوى المتحالفة وفق أسس وآليات ديمقراطية وقواسم مشتركة مع الاحتفاظ بنقاط التباين.
3. التعامل مع نقاط الاختلاف على أسس وآليات ديمقراطية وبعيداً عن أي شكل من أشكال العنف والمهاترات والشتائم, بل عبر حوارات ديمقراطية وكتابات مسؤولة في محاولة جادة من كل طرف لكسب الجماهير وأوساط مختلفة فيه إلى جانب كل طرف.
4. قبول الجميع بمبدأ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان في العراق ورفض الاستبداد والعنصرية والشوفينية واغتصاب حقوق القوميات الأخرى في البلاد.
إن التجربة الجديدة التي يخوضها الشعب العراقي بعد الخلاص من النظام الدكتاتوري البغيض, وفي هذه الفترة بالذات ومن ثم بعد إنهاء الاحتلال, ستكون, إن تم الالتزام بمبادئ الحرية والديمقراطية والآليات الديمقراطية في التنافس السياسي في ما بين الأحزاب والقوى السياسية والشخصيات المستقلة, ستقدم نموذجاً غنياً وجديداً للشعب العراقي كله ولشعوب المنطقة بأسرها, وهو ما يفترض أن نسعى إليه ونعمل من أجله ونتطلع إلى تحقيقه. ولن يتم لنا ذلك ما لم نشارك فيه جميعاً بكل الوسائل الديمقراطية المتاحة لنا جميعاً. نأمل أن يجلب العام الجديد لشعبنا ولجميع شعوب العالم الحرية والديمقراطية والتمتع الكامل بحقوق الإنسان والحقوق القومية والدينية والمذهبية والفكرية العادلة والمشروعة للجميع. برلين في 1/1/2004 كاظم حبيب
كاظم حبيب
ساعة الحقيقة:
القوى القومية العربية بين حقوقهم وحقوق الشعوب الأخرى!
حضي نضال شعوب الأمة العربية بدعم ومساندة كبيرتين من جانب شعوب العالم المختلفة على امتداد القرن العشرين. ولم يكن هذا النضال سهلاً بل اقترن بتقديم الكثير من الضحايا البشرية, كما تحمل الكثير من الخسائر المادية. وهو ما يزال حتى الوقت الحاضر يناضل في سبيل الكثير من الأهداف التي لم تتحقق حتى الآن. وإذا كانت الشعوب العربية قد عانت الأمرين من سلطات الاحتلال والمستعمرين القدامى والجدد, فإنها عانت أكثر من ذلك بكثير من حكامها الرجعيين الذي تحالفوا مع قوى الاستعمار لعقود طويلة. وإذا كانت بعض الشعوب العربية قد حققت بعض النتائج الطيبة عبر العقود المنصرمة, فأن هذا لم يأت هدية من أولئك الحكام بل كان انتزاعاً حقيقياً عبر نضال مرير. ورغم ذلك فأن الشعوب العربية ما تزال محرومة في أغلب الدول العربية, إن لم نقل في جميعها, من التمتع بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
ورغم هذه الحقائق الشاخصة أمام أنظار جميع العرب, يصطدم المتتبع للفكر العربي السياسي والحياة السياسية في الدول العربية بواقعٍ آخر غير مشجع ومتعارض ومتناقض مع تلك الروح النضالية التي ما تزال مستمرة لدى هذه الشعوب, وأعني بذلك موقف غالبية العرب في مختلف البلدان من نضال الأمم أو الشعوب الأخرى القاطنة معها في المنطقة أو في هذه الدولة أو تلك منها. فهي في الوقت الذي تناضل في سبيل الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحق تقرير المصير, ترتفع صوت قوى غير قليلة في الدول العربية مندداً بمطالبة الشعوب الأخرى في الدول العربية التمتع بحريتها وحقوقها الديمقراطية وحقها في تقرير مصيرها على أرضها وساعية بكل السبل إلى خنق نضال تلك الشعوب. ويمكن أن يورد الإنسان الكثير من الأمثلة على هذه السلوكية من جانب الحكومات العربية عبر عشرات السنين, سواْ أكان ذلك في العراق أم السودان أم دول المغرب العربي. فنضال الشعب الكردي في العراق ونضال شعب جنوب وغرب السودان ونضال الشعب الأمازيغي في المغرب والجزائر قد جوبه بالحديد والنار, بالقمع المستمرين وخاصة في كل من العراق والسودان. ويتخذ الموقف أحياناً غير قليلة لا شكلاً شوفينياً فحسب, بل وتطرفاً ونزعة تمييزية دينية إزاء أتباع الديانات الأخرى في الدول العربية, ومنها الموقف إزاء الأقباط المسيحيين في مصر أو إزاء أتباع الديانة الأيزيدية والصابئة المندائية في العراق أو حتى مواقف طائفية إزاء مختلف المذاهب في الإسلام ذاته, وهو دين الغالبية العظمى من سكان هذه الدول. والسؤال الذي يطرح نفسه على الباحث والمتتبع هو: ما السبب وراء بروز مثل هذه الظاهرة السلبية التي من شأنها تشويه حتى نضال العرب في سبيل حقوقهم المشروعة؟ كما إنها تطرح تساؤلات عن مدى فهم هؤلاء العرب لمفردات الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحق تقرير المصير؟ وهل أن النضال في سبيل هذه الأهداف النبيلة شارع أحادي المرور, أو أن لهم وحدهم الحق في ذلك, ولكن ليس لغيرهم؟
لا شك في أن الإجابة عن هذا السؤال يفترض أن تضع بعض التحفظات لكي تبتعد عن احتمال الوقوع في خطأ التعميم الذي لا يستند إلى أرضية واقعية, إذ أن هناك من العرب من يقبل بمنح الشعوب الأخرى التي تعيش سوية في دولة واحدة الحق الكامل في التمتع بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحق تقرير المصير تماماً كما يريدها لنفسه. كما أن هناك بعض القوى والأحزاب السياسية التي تتخذ مواقف متناغمة بين ما تناضل من أجله لنفسها وما تريده للشعوب الأخرى. وهذا صحيح حقاً. ولكن الحديث هنا يتوجه في هذه المقالة صوب القوى التالية:
1. الغالبية العظمى من السكان العرب في المجتمعات ذات الأكثرية العربية,
2. الغالبية العظمى من القوى السياسية العربية ذات لاتجاهات الفكرية والسياسية القومية.
3. الغالبية العظمى من قوى الإسلام السياسي من العرب في الدول ذات الأكثرية المسلمة.
4. جميع الحكومات في الدول العربية دون استثناء التي لها نفس مواقف الأكثرية حتى الوقت الحاضر, بل هي السبب وراء هذه الوجهة المشوهة في النضال.
يبدو لي بأن العوامل الكامنة وراء بروز هذا التناقض في السلوكية العملية, سواء أكان ذلك يمس التمييز القومي أو التمييز الديني أم التمييز المذهبي (الشوفينية والتعصب والتزمت والطائفية), تتبلور فيما يلي:
• التخلف الفكري وضعف الوعي السياسي والاجتماعي اللذين ما تزال تعاني منهما الشعوب العربية نتيجة الهيمنة الاستعمارية الطويلة التي فرضت على هذه الشعوب, وبسبب وجود نظم حكم ابتعدت عن تربية شعوبها بأفكار الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحق تقرير المصير وفرضت عليها الاستبداد والقسوة والظلم والجهل المرير. وهذه الحقيقة تشوه قدرة العقل على التفكير السوي والمنصف أو العادل ليس فقط إزاء قضاياه فحسب, بل وإزاء قضايا الشعوب الأخرى. لقد كانت التربية في هذه المنطقة ومنذ أجيال كثيرة قائمة على الذهنية الاستبدادية وفرض الخنوع على الشعوب, وفي الوقت نفسه التغذية بذهنية التمييز بين العرب وبقية الشعوب أو الأمم لصالح الأمة العربية وضد الآخرين, فكنتم خير أمة أخرجت للناس, تفسر أحياناً على أساس عربي وأحياناً أخرى على أساس إسلامي وفق الحاجة والموقف, ولكن بروحية التمييز والتعالي الممقوتين.
• وبرز لدى بعض القوى القومية من جهة, ولدى بعض قوى الإسلام السياسي من جهة أخرى, وهما تحت الهيمنة الأجنبية أو الخضوع لحكومات ظالمة وخاضعة لسياسات الأجنبي, مزيج من الإحباط إزاء الواقع القائم والرغبة الجارفة في تجاوزه وحنين (نوستالجي) لاستعادة ماضٍ غابر لن يعود يذكرهم, وعبر كتب كانت وما تزال متحيزة في كتابة تاريخ العرب ومشوهة لوقائع ومفاهيم كثيرة ومزينة حياة وأفعال المستبدين من الحكام ومتجاهلة دور الشعوب في هذا التاريخ الطويل والمعقد, "بدول عظمى" كانت للعرب أو للمسلمين التي يسعون إلى إعادة إقامتها في الوقت الحاضر. وهذه القوى القومية والإسلامية تحاول نشر فكرها في صفوف الجماهير المحبطة من حكوماتها ومن أوضاعها وتدفع بها صوب التطرف القومي والديني والمذهبي مما يولد العنصرية والتعصب والتزمت بمختلف أشكاله وتلاوينه. إن هذه الوجهة الذاتية في التفكير قاصرة عن رؤية حقوق الآخرين, بل ترى في مطالبة الآخرين بحقوقهم المشروعة والعادلة تجاوزاً على حقوقها وعلى دولتها الموحدة التي تريد إقامتها لتستعيد بها الماضي الغابر. وهي ترى في نضال الشعب الكردي أو نضال الشعب الأمازيغي أو نضال شعوب جنوب وغرب السودان ليس سوى محاولة لاقتطاع أجزاء من أرض العرب وانتقاص من حقوقها وشعوبية تريد تدمير الأمة العربية. إنهم بهذا يزنون الأمور بمكيالين, تماماً كما يتهمون الآخرين بذلك!
• وترى هذه الأوساط والقوى العربية في أن ما حصل في فلسطين يمكن أن يتكرر في مناطق أخرى من الدول العربية دون أن تفكر بواقعية في ما حصل في الماضي البعيد ودون أن تدرك بأن الدول العربية القديمة, كالدولة الأموية والدولة العباسية والدولة العثمانية أو حتى قبل ذاك ومنذ بدء الفتح الإسلامي, لم تكن سوى إمبراطوريات "إسلامية" ذات طبيعة استعمارية قديمة أقيمت من خلال الغزو والحروب والهيمنة على المناطق الأخرى ساهمت في استغلال شعوب تلك المناطق وفرضت التعريب على بعض شعوبها, ولكنها لم تنجح في تعريب الجميع, وبالتالي فأن الشعوب التي ما تزال تحتفظ بخصائصها, رغم التغييرات التي فرضت عليها أو قبلت بها, تناضل اليوم في سبيل انتزاع حقوقها المشروعة والعادلة, كما في حالة القوميات الثلاث التي أشرنا إليها إضافة على الكثير من الأقليات القومية والدينية التي يفترض أن تتمتع بحقوقها الثقافية والدينية والإدارية المشروعة. ويبدو أ، هذه الأوساط العربية مستعدة تمام الاستعداد على إدانة الاستعمار البريطاني والفرنسي اللذين جثما على صدور العرب وغير العرب واستغل شعوب هذه البلدان طويلاً, ولكنها غير مستعدة على إدانة تسلط العرب على البلدان الأخرى وفرض هيمنتها عليها واستغلال شعوبها. إن دراسة وهضم التاريخ العربي وفق أسس التحليل المادي الجدلي والمادي التاريخي يساعد على تغيير نظرة الإنسان باتجاهات أكثر واقعية وعقلانية ومصداقية مع النفس ومع الآخرين. إذا كنا نريد إدانة الماضي الاستعماري للبلدان الأخرى فعلينا الاعتراف وإدانة ماضينا الاستعماري أيضاً بغض النظر عن الرداء الذي ارتدته تلك السيطرة الأجنبية على الشعوب والمناطق الأخرى. ولكن ذهنية القوميين الشوفينيين من العرب ما تزال بعيدة كل البعد عن هذه الوجهة العقلانية, وهو ما ينعكس في سلوكها الراهن إزاء ما يجري في العراق.
والجدير بالإشارة إلى أن هذه الإشكالية لا تعاني منها الشعوب والحكومات والقوى القومية العربية, بل كذلك شعوب وحكومات وقوى قومية أخرى في بلدان كثيرة في العالم ومنها تركيا وإيران المجاورتين للدول العربية. وهي شعوب لم تعرف حتى الآن عملية التنوير ولم تتمتع بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان ولم تعرف طعم التمتع بحق تقرير المصير وفق أسسه العادلة والمشروعة, وبالتالي فهي مستعدة لاغتصاب حقوق الشعوب الأخرى دون أن تشعر بالتناقض بين ما تسعى إليه وما تريد اغتصابه من الآخرين أو منعه عنهم, ففاقد الشيء عاجز عن منحه للآخرين!
من الثابت للعاملين في مجال حقوق الإنسان أن مضامين الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحق تقرير المصير تعتبر من المبادئ الأساسية في حياة الشعوب وتشكل كلاً واحداً غير قابل للتجزئة وفق منظور انتقائي شوفيني غير عقلاني. ويفترض في الشعوب المناضلة في سبيل حقوقها وفق تلك المبادئ أن تدرك العلاقة الجدلية القائمة بين نضالها ونضال الآخرين في سبيل تحقيق تلك المبادئ. وان لا خيار أخر غير هذا الخيار, وإلا تحول الإنسان أو تحولت الجماعة أو تحول شعب ما إلى مغتصب لحقوق الآخرين يفترض خوض النضال ضده لانتزاع الحرية ..الخ.
إننا في العراق نجابه اليوم حالة مماثلة لما يحصل على الصعيد العربي إزاء الحلول الجارية للمشكلة السودانية. إذ حالما برزت إمكانية حل المسالة السودانية والحرب الطويلة على أساس الاعتراف بحق تقرير المصير ومنح جنوب السودان حكماً فيدرالياً في إطار الجمهورية السودانية حتى فقدت بعض القوى الفكرية والسياسية القومية العربية عقلها واتزانها وبدأت ببث الإشاعات عن الانفصال المحتمل لجنوب السودان عن "الوطن الأم" ووقع هرج ومرج في صفوف الحكام العرب والقوى القومية الشوفينية والإسلامية الأصولية المتطرفة, وبدأت تعمل من أجل تخريب ما توصل إليه المتفاوضون على هذا الطريق. وهذا عين ما نعيشه اليوم في العراق.
إذ حالما أقيمت الفيدرالية في كردستان العراق في عام 1992, وحالما تحرر العراق من حكم صدام حسين في عام 2003, رغم وقوعه تحت الاحتلال الأمريكي-البريطاني, وحالما برزت مؤشرات تشير إلى إمكانية فعلية في تثبيت هذا الحق في الدستور العراقي القادم, وحالما بدأ الأكراد يتحدثون عن الحدود الطبيعية لمنطقة كردستان العراق, حتى جن جنون القوميين الشوفينيين من العرب في العراق وفي الدول العربية وبدأت الدعوات البائسة بالتصدي لهذه الوجهة باعتبارها محاولة لتمزيق الأمة العربية ووحدة التراب العربي ووحدة العراق أرضاً وشعباً والادعاء بزرع ألألغام في طريق الاستقلال والوحدة الوطنية وغير ذلك من الترهات ومحاولات إثارة الشعوب العربية ضد المطالب الكردية.
ولم يتحدث القوميون الشوفينيون وحدهم في هذا الاتجاه, بل انبرى المسلمون المتطرفون أيضاً طارحين المخاوف ذاتها التي أثارها القوميون العرب قبلهم, كما بدأت بعض الحكومات العربية بالحديث بنفس النغمة الشوفينية الرجعية.
جميع هذه الأوساط تنسى أو يتناسى حقائق تاريخية كثيرة من جهة, ووقائع قائمة على الأرض من جهة أخرى. فهي تنسى في كل الأحوال بأن كردستان قد فتحت من العرب أبان الحروب التي شنها المسلمون لفتح المنطقة والسيطرة عليها وتوسيع رقعة الدولة الجديدة التي كان يراد إقامتها, وأن غالبية الشعب الكردي قد دخلت في الإسلام منذ قرون طويلة, وبغض النظر عن الأساليب التي اتبعت في ذلك, ولكنها لم تتخل عن خصائصها وثقافتها ومناطق سكناها ورغبتها في تقرير مصيرها وتمتعها بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان أسوة بباقي الشعوب. وهذه الأوساط لا تريد أن تعرف بأن الشعب الكردي في العراق, الذي اختار الفيدرالية في إطار الجمهورية العراقية, له الحق الكامل في تقرير مصيره بما في ذلك إقامة دولته الوطنية المستقلة, تماماً كما هو أحد حقوق العرب الذي يتمتعون به في دول الإمارات العربية المستقلة القائمة في الخليج التي لا يزيد تعداد بعضها عن جزء صغير من عدد نفوس الشعب الكردي. والعرب كلهم فرحون في أن الجامعة العربية تضم 22 دولة عربية + فلسطين, ولكنهم لا يستطيعون رؤية شعب آخر هو الشعب الكردي أن يتمتع بحقه في إقامة اتحادية فيدرالية كردستانية ضمن الجمهورية العراقية. وهم يتناسون أيضاً بأن في عالمنا الراهن عشرات الدول التي تنهض على أساس فيدرالي سليم يعزز الوحدة الوطنية للشعوب المقيمة في هذه الدولة أو تلك ما دامت تتمتع بحقوق متساوية.
إن مصيبتنا نحن العرب تكمن في أن غالبية شعوبنا العربية ما تزال تعيش في قرن غير القرن الحادي والعشرين وما تزال تحلم بأمور لن تتحقق لها وما تزال تريد اغتصاب حقوق الشعوب الأخرى في وقت تريد النضال لانتزاع حقوقها المغتصبة من قبل دول وقوى أخرى, وأنها تفكر بطريقة لا تنسجم مع عالم اليوم وعليها تغيير طريقة تفكيرها أو بتعبير أدق تحرير عقولها قبل أن تفقد الكثير مما لا يفترض أن تفقده على مختلف الأصعدة.
ينبغي للعرب في العراق أن يتجنبوا خوض صراع غير عادل ضد الأكراد بسبب مطالبتهم بالفيدرالية أو بسبب مطالبتهم بترسيم حدود كردستان العراق, فليس في هذا أية محاولة لاغتصاب مناطق عربية وضمها إلى كردستان العراق, كما يمكن معالجة هذه المسألة بالطرق السلمية التفاوضية بعيداً عن العنف أو التهديد بممارسة العنف, فالعنف لن يجلب للشعوب سوى الكوارث والمحن والموت. وعلينا استخدام عقولنا المتحررة من قيود الشوفينية وضيق الأفق القومي والتعصب والتزمت من أجل إيجاد الحلول العملية لكل المشكلات التي تواجهنا اليوم وفي المستقبل.
إن مستقبل العراق سيكون مشرقاً حقاً عندما نجد شعبين حرين, هما الشعب العربي والشعب الكردي, وأقليات قومية حرة, هي التركمانية والآشورية والكلدانية, يعيشون جميعاً في اتحاديتين فيدراليتين هما كردستان العراق, ولنقل مجازاً, وعربستان العراق, ويستخدمون ثروة العراق النفطية بصورة عادلة وسليمة لصالح تنمية العراق كله ولصالح الشعب العراقي كله. ولا يمكن أن يحصل ذلك إلا إذا قررنا الاعتراف المتبادل ببعضنا وقررنا لبلادنا المشتركة العيش في أجواء الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والتمتع بحق تقرير المصير, في ظل دستور اتحادي ديمقراطي ومدني حديث. وعلينا أن نقبل التحديات التي يفرضها علينا القرن الحادي والعشرين وأن نسعى إلى إقامة العراق الجديد الذي نطمح إليه.
ومما هو جدير بالإشارة في هذا الصدد إلى أن من واجب الشعب الكردي, وكذلك قواه السياسية, أن تكون له أذاناً صاغية لمطالب الأقليات القومية التركمانية والآشورية والكلدانية في الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والتمتع الفعلي بالحقوق الإدارية والثقافية المشروعة, وأن يتم التعامل مع الأقليات الدينية والقومية على أسس المساواة التامة بين المواطنين ورفض جميع أشكال التمييز التي كان وما يزال يرفض الشعب الكردي فرضها عليه.
إن هذه الاتجاهات الواقعية والسليمة التي تتماشى مع لائحة حقوق الإنسان وحقوق الشعوب والأقليات القومية تمنح نضال الأكراد المزيد من المصداقية المطلوبة وهم يناضلون في سبيل حقوقهم العادلة والمشروعة. ومن هذا الفهم للعملية الديمقراطية في كردستان العراق وفي العراق عموماً قدمت في عام 2002 وأثناء زيارتي على كردستان العراق مقترحاً شفوياً إلى السيد رئيس وزراء حكومة كردستان الاتحادية أثناء لقاء معه, وبحضور الأستاذ فلك الدين كاكائي, بأهمية إصدار قانون خاص يصدر عن المجلس الوطني لاتحادية كردستان يقر فيه حقوق الأقليات القومية الإدارية والثقافية في كردستان العراق بما يتجاوب مع الواقع المطلوب ويقدم في الوقت ذاته نموذجاً إيجابياً يحتذى به ويعزز مصداقية نضال الشعب الكردي وقواه السياسية الديمقراطية في سبيل حقوقه وحقوق لأقليات القومية التي تعيش في هذه الإقليم. وما أزال أتطلع إلى تبني مثل هذا المشروع من جانب الأحزاب الكردية الحاكمة في كردستان العراق, تماماً كما أتطلع إلى صدور دستور عراقي يتضمن الإقرار بفيدرالية كردستان وبحقوق الشعب الكردي وحقوق الأقليات القومية والدينية في الجمهورية العراقية الاتحادية الديمقراطية.