أن الخراب الذي اجتاح العراق على مدى الخمسة والثلاثون عاماً من حكم السلطة المبادة تسبب في انهيار مقومات الدولة والإضرار بالمجتمع. وتلك الأضرار ليست أضراراً آنية، يمكن التخلص من آثارها بسرعة وإنما تأثيراتها ستطال الأجيال القادمة.
ويتحمل حزب البعث المقبور المسؤولية الكاملة لهذا الخراب، وبالمقابل فأن الأحزاب الشمولية الأخرى لا تعفى من المسؤولية كونها شاركت بشكل أو بأخر في التمهيد لهذا الخراب، أما الأحزاب السياسية العراقية الأخرى فهي لم تتمكن من إيقاف التدهور أو الحد من آثار الخراب وبهذا فأنها أخفقت في مهامها كقوى معارضة!!.
ومن أجل الخروج من هذا الواقع المزري، والبدء في مرحلة جديدة تعمل على إصلاح هذا الخراب، يتوجب تحديد الجهة (أو الجهات) المسؤولة عن إحداث هذا الخراب وبالتالي تحميلها المسؤولية ومحاسبتها وإقصاءها عن ساحة العمل السياسي.
ويُحمل ((عواد ناصر)) السلطة السياسية المبادة الوزر مما حدث في العراق، وتتحمل الباقي الأحزاب السياسية العراقية بسبب طرق تعاملها مع الحكومات المتعاقبة وجملة برامجها وأساليب تربيتها لأعضائها والمرتبطين بها.
والتفاوت واضح بتحميل المسؤولية لقيادة الأحزاب العراقية عن الخراب، فالأحزاب الشمولية التي شاركت السلطة في احتفالات الموت وتغنت بحملات الإبادة لمنتسبي الأحزاب الوطنية الأخرى، تتحمل المسؤولية من الدرجة الثانية عن الخراب ولم تشفع لها حملات التطبيل (لسنوات عديدة) للسلطة المبادة فطالها ما طال قواعد الأحزاب الأخرى من تنكيل وقتل وتشريد لمنتسبيها الأبرياء وهربت القيادة الجبانة لتدعي البطولة والنضال وعلى حساب أرواح الآلاف من الأبرياء!!.
لذا المحاكم المزمع إنشائها لمحاسبة قيادة البعث وسلطته المبادة، يتوجب عليها النظر في المظالم الأخرى التي ارتكبتها قيادات الأحزاب الأخرى بحق المجتمع خاصة منها قيادة الأحزاب الشمولية التي مارست الإرهاب والتنكيل في المنفى ضد المثقفتين.
ويقول ((قاسم حول)): أستطيع القول أن تجربة شعبنا جعلته يكره الأحزاب السياسية أولاً، وبشكل خاص تلك الأحزاب الباطنية والأحزاب الشمولية. شعبنا يبحث عن المعاصرة المتمثلة بالتيارات السياسية التي تعمل تحت الشمس وبوضوح ولها صحفها وحريتها في العلاقة مع المجتمع العراقي.
شعبنا يحتاج إلى مؤسسات البيئة لتنظيف البيئة من التلوث وتنظيف أجواء العراق من الفيروسات وتنظيف حياته السياسية من الأحزاب التافهة التي جرت البلد إلى الخراب ولم تنتج سوى القوادين والسفلة واللصوص.
ولهذا الشعب ذاكرة حية سوف تشير من خلال الديمقراطية التي تنشدها إلى كل من سرق حرية الشعب وخبز الشعب، ودفع بالأبرياء لكي يصعدوا المشانق ويهتفون بحياة الجبهة الوطنية المزيفة وتركوا أجسادهم الشابة البريئة تتدلى على أعواد مشانق الفاشست.
هذه التجارب علمت شعبنا الكراهية..كراهية الأحزاب الشمولية..كراهية دعاة القوم والقومية..كراهية دعاة الانفصال..كراهية التخلف المذهبي والعرقي.
هناك أزمة حقيقية تعاني منها قيادات الأحزاب العراقية، هي أزمة عدم المراجعة وتحاول إسدال الستار على الماضي وإجراء نوع من (المصالحة لذاتها) بين المجرم والضحية بحجة نسيان الماضي وفتح صفحة جديدة للمستقبل!!.
فمازالت تلك القيادات تضم في صفوفها العديد من اللصوص والأوغاد والقتلة والقوادين اللذين يتوجب أن يمثلوا أمام القضاء لمحاسبتم عن الإساءات والأعمال الدنيئة التي ارتكبوها ضد المجتمع والمثقف على وجه الخصوص.
ويجد ((سليم مطر)) ما يحز بنفوس جميع المثقفين العراقيين، أن جميع الحركات السياسية ورغم جميع المتغيرات السياسية في العالم وبروز تيارات جديدة ورغم كل النكسات، لم تقم بمراجعة نفسها.
ولم تبخل قيادات الأحزاب العراقية خاصة الشمولية منها بحملات التنكيل والتهديد والإساءة للمثقف العراقي في المنفى بغية إسكاته وتغيبه عن الشأن السياسي حتى يحلوا لتلك القيادات من الجهلة والأميين ممارسة غيها ضد المجتمع!!.
والمتابع لبرامج وقرارات تلك القيادات السياسية، لا يحتاج إلى جهد كبير لإماطة اللثام عن أهدافها وانحطاطها وبؤسها في تحليل الواقع. ولا تجد هناك ثباتاً لمواقفها وأهدافها، لأنها تفتقر للثوابت الوطنية مما يؤدي بالنتيجة إلى تخبطها بالمواقف وأتباع السياسية الديماغوجية لتبرير سقطاتها وإخفاقها على صعيد الواقع.
وبهذا فأن المثقف العراقي اصبح الضحية وكبش الفداء لكل تلك البرامج والمواقف الذليلة لقيادات الأحزاب الشمولية.
ويجد ((جنان جاسم حلاوي)) كل القوى السياسية العراقية مسؤولة عن الخراب والعسف والظلم بسبب فشل برامجها وقراراتها، في تجنيب الشعب العراقي ويلات الحرب والجور. إما المثقف العراقي فهو ضحية من ضحايا مناورات السياسيين والحكام، مع ذلك يبقى الأقرب إلى نفوس الشعب من السياسيين المهمومين بمصالحهم الشخصية ونزعاتهم السلطوية.
فالشغل الشاغل لقيادات الأحزاب العراقية هو تهميش المثقف العراقي والتنكيل به لأنها تجد فيه أداة لفضح برامجها ومخططاتها الآتية معظمها من خارج الحدود، كما أنه لا يتوانى عن الكشف عن جهل تلك القيادات بشؤون السياسة والمجتمع.
فالسياسي الجاهل يشعر بتهديد متواصل من المثقف، لذا يعمل على تهميش وتجاهل رأي المثقفين بغية الانفراد بالقرار دون حسيب أو رقيب.
ويجد ((فوزي كريم)) أن فصائل المعارضة جميعاً لا شأن لها بفصائل المثقفين والمبدعين، أنها لا تتجاهلهم فقط بل تجهلهم. أنها تعرف بالغريزة أن المثقف والمبدع ابتلى بالمكابرة، ولا يحسن المناورة، ويفضل عليها المكاشفة والاحتجاج. وهي بدل أن تحتضنه أو تتحاضن معه، وتوحد مكاشفته مع مناورتها، تحاول بعد الإمساك بالمال والموقع، أن تبعده أو تحيله إلى مرتزق.
فالشعارات التي تتبناها الأحزاب السياسية مخالفة تماماً لممارساتها على صعيد الواقع خاصة بالشأن الثقافي، فأن كان شعارها دعم الثقافة الوطنية والمثقفين تعني في الواقع التنكيل بالمثقف وتهميش الثقافة.
ويعتقد ((كريم الأسدي)) أن هذا التناقض بين المعلن والمضمر، بين الشعار والممارسة، بين الظاهر على السطح والمخبوء وراء الكواليس كاد يصبح الصفة العامة والملازمة لمجمل النشاط السياسي العراقي، سلطة ومعارضة وليلقي فيما بعد بظلاله السود على جوانب الحياة الفكرية والثقافية.
(فالمثقف) الحزبي يجد في الثقافة أداة للتبرير والترويج لمنطلقات حزبه السياسي وبالتالي الدفاع عن سقطات هذا الحزب، بل ممارسة دور الشرطي في مواجهة المثقفين المستقلين اللذين يسعون إلى ثقافة مستقلة تدافع عن الديمقراطية وتُرسي مبدأ حرية الرأي والرأي الآخر.
لذا بشكل دائم نجد أن الصراع بين المثقف والسياسي يُخلف وراءه ضحايا من المثقفين وليس من السياسيين، كون السياسي يستخدم (مثقف) الحزب كخط أمامي لمواجهة المثقفين المستقلين والرافضين لسياسات الهيمنة والتسلط.
ويجد ((شاكر الحاج مخلف)) أن النبوة التي تثير خوف الأنظمة السياسية المختلفة والتي تصادر حرية شعوبها، تؤكد بشكل حاسم أن الثقافة الوطنية المستقلة ستعمل بقوة على صنع فضاء الحرية وتحرير الإنسان من قيود التخلف والتبعية، وهي قادرة على تحقيق ذلك الفعل من خلال قنواتها المتعددة، الهدف المركزي للمثقف المستقل هو تجسيد مدى الضرر الذي يلحق بالمجتمعات والشعوب من الحكم القسري الذي يغتال الديمقراطية ويصادر الحرية.
فالفضاء الديمقراطي يحتاج إلى حراس لحمايته من اعتداءات السياسي والعمل على توسيعه ليستوعب كل أشكال الحرية والخلاف، وبهذا فأن عوامل التنمية تتفاعل لتخلق واقعاً جديداً يعمل على رفاهية الإنسان.
والحراس الحقيقيين للفضاء الديمقراطي هم المثقفون وبالتالي فأن أيا إغفال أو تهميش لدور المثقف، يعني ظهور بوادر على خنق الحريات وحجب الديمقراطية.
وعليه يتوجب أن يستعيد المثقف سلطته الرابعة لمواجهة سقطات السياسي ونزواته في التفرد والهيمنة، وهذه المسؤولية هي إحدى وظائف المثقف في المجتمع.
ستوكهولم بتاريخ 4/1/2004.