|
النضال الطبقي في البنيةالكولنيالية
سعيد مضيه
الحوار المتمدن-العدد: 2268 - 2008 / 5 / 1 - 11:07
المحور:
ملف الاول من آيار 2008 - أفاق الماركسية واليسار ودور الطبقة العاملة في عهد العولمة
النضال الطبقي في البنية الكولنيالية -2 معالم تخلف العصر الوسيط تتحرر الطبقة العاملة بتحرر المجتمع. وضمن ظروف بلادنا يترتب على الطبقة العاملة، قبل أن تصعد الطبقة العاملة لإنجاز المهمة،أن تحرر المجتمع من تخلف العصر الوسيط . هذه المهمة الديمقراطية أهملها الماركسيون بادعاء أنها مهمة البرجوازية. وكما ورد معنا في مقال سابق ( الحوار المتمدن2258بتاريخ 21 ابريل2008)جرى إهمال نصيحة لينين لممثلي الكادحين في الشرق الإسلامي بالشروع مباشرة في تصفية تخلف العصر الوسيط.فأغلبية شعوب هم ممثلون نموذجيون للجماهير الفلاحية المستغلة ضحايا اضطهاد العصر الوسيط"...وخاطب لينين ممثلي الشيوعيين، محددا المهمة المباشرة "بالاستناد إلى النظرية العامة للشيوعية وممارستها عليكم ان تكيفوا أنفسكم مع الظروف العيانية التي لم توجد في الأقطار الأوروبية... حيث المهمة شن النضال ضد بقايا العصر الوسيط وليس ضد الرأسمالية". وهي مهمة تقتضي إعمال العقل لاستنباط الحلول لمشاكل " لن يجدوا حلولها في أي كتاب شيوعي .." . فما هي مخلفات العصر الوسيط في حياة المسلمين وشعوب الشرق كافة؟ أعتقد أن هذا الإرث هو الذي وورطنا في مسيرة مغايرة لمسيرة شعوب أمريكا اللاتينية ، ليس في هذه المرحلة حيث تجترح نمطا جديدا من التقدم الديمقراطي، بينما نغرق في سلفية ظلامية؛ إنما منذ عقد السبعينات من القرن الماضي حين استعانت قوى التقدم بالعسكر لإنجاز مشروعها فتاهت في بيداء الحكم العرفي، بينما اعتمد اليندي على الجماهير في تحقيق مشروعه التقدمي. سقط أليندي صريع انقلاب عسكري لكن فكرته ألهمت شعوب قارة أمريكا اللاتينية بأسرها. بعض المفكرين العرب أرجع التخلف إلى نظم بطركية قاهرة. فقد كتب الدكتور هشام الشرابي عن المجتمع البطركي المقيد الذي يقتل شخصية الفرد منذ الطفولة، ويخضع الأسرة والمجتمع الصغير والمجتمع الكبير لزعامة بطركية أوامرية التوجيه، مطلقة السلطة. وشخصها البعض في تغييب العلم باعتبار العلم مصدر قوة الدول المتقدمة. وأسند الدكتور حامد عمار إلى إصلاح المدرسة والجامعة ، كي ننجح في تحدي العولمة . ورأى بعض آخر أن الركود الاقتصادي أبقى على النماذج الاقتصادية الخاصة بالعصر الوسيط؛ فإذا ما أدخل نموذج اقتصادي متطور فإنه لا يتقاطع مع النماذج السائدة ولا يشكل القاطرة التي تجرالنماذج القائمة . والبعض ركز على اغتراب الفرد عن مجتمعه وعن روح العصر نتيجة الاستلاب الفكري. وشخصها بعض آخر بحالة نفسية مقموعة جراء القهر الاجتماعي طويل الأمد. ينمو الفرد وسط غابة من الأفكار تدعم المحافظة، تبرر الظلم الاجتماعي وتبخيس الإنسان واستلابه وحرمانه. وتكمن قوة هذه القيم في ثباتها ورسوخها كمسلمات في الوعي. كما تكمن قوتها في انسجامها مع طيف واسع من القيم والأوضاع السائدة في المجتمع. وضع الدكتور مصطفى حجازي، الباحث في علم النفس الاجتماعي، الاصبع على عطب تبخيس الإنسان بسبب القهر طويل الأمد الذي تعرضت له جماهير الكدح في مجتمعات الشرق. فمنذ القدم والأنظمة الجائرة تقهر الجماهير وترغمها على الخنوع بإحدى وسيلتي الاستلاب أو التجهيل أو بكلتيهما. وبالنتيجة ترسخ لدى المقهورين خصائص نفسية و ذهنية انفعالية، وأخرى منهجية، تتعلق بقصور منهجية التفكير او اختلالها. لا ينحصر الخلل في تفكير الجموع المحرومة من التعليم، بل يشمل المتعلمين كذلك. يقول الدكتور حجازي في كتابه " التخلف الاجتماعي" أن " الطلبة لا يعرفون ماذا يختارون للإجابة ولا يعرفون كيف يعرضون المادة المختارة ما يجعل إجابتهم أقرب إلى تداعي الأفكار منها إلى عرض منظم للموضوع . تبلغ هذه الصعوبة أقصى درجاتها حدة في الدراسات العليا. تبعا لخبرتنا الشخصية يمكن القول ان العجز المنهجي هو العقبة الأساس التي يصطدم بها الراغب بالقيام ببحث علمي...". وقدّم المنوّر عبد الرحمن الكواكبي صورة انطباعية لتدهور فهم الدين(والفرق شاسع بين الدين وفهم الدين او تأويله). شخص المنوّر ترسبات التخلف في فهم الدين في عاملين رئيسين: استبداد الحكم وفتور الجماهير. الاستبداد أخطبوط مدّ أطرافه في كل اتجاه، "في الفكر الإنساني وفي دواوين الحكومة وفي كل مجال يعيش فيه الإنسان. في كل هذه الميادين يعيش الفساد والتحلل فيفسد الدين والتربية ويعادي العلوم ويضعف الاقتصاد فينهب ثروة الأمم وينشر الفقر". وفي ميدان الأخلاق تجلّى الخلل في أن "الاستبداد يربي الناس على الأخلاق الملعونة، فهو يجبر الناس على استباحة الكذب والخداع والنفاق والتذلل وإماتة النفس، ونبذ الجد وترك العمل، ما يدفع الآباء إلى ترك تربية الأبناء، حيث تذهب جهودهم عيثا أمام سطوة تربية الاستبداد، حيث يشعرون أنهم لا يربون أولادهم لهم، بل يربون أنعاما للمستبدين وأعوانا لهم عليهم". أما المنوّر الفلسطيني، الدكتور توفيق كنعان، فقد فصّل دقائق الثقافة الشعبية في ممارسات بدائية تتستر على ظلم أسياد الأرض وطواغيت الاستبداد الميري وإهمالهم حاجات الناس الأساسية. المنظومة الاجتماعية دأبت خلال عصور التخلف على ملء فراغ المعرفة العلمية بالخرافة. الأمر الذي تجلى في التردد على المزارات، وأداء الطقوس الملازمة، لرد الشر ونشدان الخير والتخلص من الأمراض. ينحدر تقليد التردد على المزارات، منذ عصور الوثنية، وتواصل عبر عهود القهر والاستلاب، حيث تقديس الأشياء بناء على ما يقترن بها من قوة وارتباط بمصادرها الموهومة. دراسة الدكتور كنعان للمعتقدات والممارسات الدينية حافلة بتصوّر الناس لقدرات الأولياء الخارقة، ودورهم في مسائل الخير والشرّ والرزق والفقر والمرض والشفاء والقلق والخوف من المجهول . والحقيقة أن التخلف جماع المظاهر المشار إليها في علاقة تفاعلية متداعمة ضمن منظومة سياسية –اقتصادية - ثقافية تشكل قواعد البنية الكولنيالية التابعة للهيمنة الامبريالية. الجذور
حفل الإسلام بقيم العدالة والمساواة ودعوات الخير. كانت رسالة التوحيد محفزا لتوحيد قبائل الجزيرة وتعبئة طاقاتها. لكن وقائع العصر الوسيط أفرزت من المبادئ والقيم لتنظيم الحياة الاجتماعية ما يتعارض مع قيم الدين الجديد ومثله وتعاليمه. واستطاع الحكام المستبدون وفقهاؤهم تمويهها بغلاف ديني سهل إقحامها على الدين. فعندما اغتصب معاوية بن أبي سفيان السلطة ، وهو الذي لم تكن له سابقة في الإسلام وما صاحب الرسول ولا عانى هموم إظهار الدين الجديد، ولا أبلى في الدفاع عنه، فقد ركّز سلطة الحكم بيديه بعد أن ألغى الشورى وتحول بالحكم إلى الوراثة ضمن العائلة الأموية . فسوّغ بنظرية "الجبرية " المتنكرة لحرية الإرادة البشرية، صعوده وسقوط خصمه الإمام علي،صاحب المآثر في نصرة الدين الجديد. رفع معاوية الجبرية إلي عقيدة دينية وفلسفة دولة: " لو لم يرني ربي أهلا لهذا(الخلافة)لما تركني وإياه. ولو كره الله ما نحن فيه لغيّره". واستنّ معاوية في الحكم سنة غير حميدة إذ حشد حوله بطانة سوء منتفعة تكفلت بمهمة تلفيق فقهٍ تبريري يسوّغ الحكم المطلق والوراثي. قطعت أضاليل فقه البلاط الأموي الذاكرة الجماعية :عتّمت على وقفة الخليفة الراشد أبي بكر الصديق وهو يخاطب المسلمين بلغة الشورى " آني قد وليت عليكم ولست بخيركم . أطيعوني ما أطعت الله فيكم ، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم ." فقهاء السلطة غير الراشدة سوغوا المنكر. ومنهم زياد بن أبيه ، مستشار السوء والخطيب المتميز، خاطب الناس بلغة أهل الحكم فقال:"إننا أصبحنا لكم سادة وعنكم ذادة ؛ نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا ونذود عنكم بفيء الله الذي فوضنا . فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا". فالحكم الجديد مفوض ب" سلطان الله"ومال المسلمين تحول إلى مال الله أودعه الحاكم بأمره!! توجه معبد الجهني ، تلميذ أبي ذر الغفاري إلى الحسن البصري ، الفقيه الزاهد المعتكف احتجاجا على تبذل الحكام غير الراشدين وقال : يا أبا سعيد هؤلاء الملوك يسفكون دماء المسلمين ويأخذون أموالهم ويقولون إنما تجري أعمالنا على قدر من الله ! فيجيبه البصري:كذب أعداء الله. وبرز من بين حاشية الخليفة من اقترح توريث الخلافة لولده يزيد، ومن يكرِه على مبايعته. ظل التزييف وتزيين المنكر سيد المقام لقرون عدة إلى أن انتهى مع أبي الهدى الصيادي ، مستشار السلطان العثماني عبد الحميد إلى تطويب السلطان "ظل الله على الأرض. طاعة المسلمين له واجبة". دفع معبد الجهني حياته ثمنا لمواقفه دفاعا عن الإرادة البشرية ومسئولية الإنسان عن أفعاله. ثم ضحى والي البصرة بداعية آخر هو الجعد بن جرهم، الذي كان له تفسير للدين يقربه من العقل و يعارض الظلم والاستبداد. بعد خطبة العيد قال الوالي للمصلين إذهبوا وضحوا؛ أما أنا فسأضحي بالجعذ بن جرهم. وتواصلت مسيرة العقل في مجتمع ينبض بالحيوية وزخم التطور. رفع بن المقفع من قيمة العقل " مطبوع ويزود بالتجارب والأدب، لا يظهر حتى يظهره الأدب وتقصده التجارب؛ والعقل هو المقوي لكل فضيلة والمعين على دفع كل رذيلة . فلا شيء أفضل من العقل". إذن احتدم صراع ضار ضد الجبرية، قرن الدين بالعقل، استمر حقبة زمنية في العصر الوسيط شهدت نموا في الحركة الاقتصادية والحياة الاجتماعية، ثم توقفت دواليب الحركة. والركود الاجتماعي يفرز ركودا ثقافيا وانحطاطا أخلاقيا . في كنف تغليب العقل على النقل، تطور علم الكلام والاجتهاد على أيدي الحسن البصري وواصل بن عطاء، وأشيع حوار أعلام الفقه وأئمته، وأبدعت الحياة العقلية اجتهادات الأئمة الأربعة، ثم تبلور الفكر المعتزلي، إلى جانب علوم اللغة والفلسفة وعلوم الطبيعة والعلوم الإنسانية. تطوّر العلم التجريبي في الثقافة العربية – الإسلامية، وظهر أعلام في الطبّ والرياضيات والفلسفة والأدب والنقد الأدبي من بينهم البيروني والرازي وابن الهيثم وابن النفيس وابن سينا والأصفهاني والجرجاني والفارابي وابن طفيل وإخوان الصفا وأبو العلاء المعري وأبو حيان التوحيدي والرازي وابن رشد وابن خلدون. توصل هؤلاء إلى الحكمة من خلال التجريب وإعمال العقل. لم يدّع أحد منهم أنه اكتشف "إعجازا علميّا في القرآن"، شأن المتطفلين على علوم الغرب في عصرنا المسخوط بالوهن والشعوذات. في عهد المأمون، غد ا الاعتزال المذهب الرسمي للخلافة، واستمر ذلك ستة عشر عاما في عهود المأمون والمعتصم والواثق. تولى المعتزلة المناصب القيادية بما في ذلك منصب الوزير الذي شغله أحمد بن دؤاد. و"هذا لم يغير إيديولوجية الدولة القائمة على التوحيد ووحدانية الشريعة ذات المصدر الإلهي الواحد" كما أكد المؤرخون. أولى الفكر المعتزليّ قيمة عليا لإرادة الإنسان باعتباره متميزا عن بقية مخلوقات الله بالعقل، وهو مسئول أمام الله في الدار الآخرة، ولا يستقيم مع العدالة الربّانية أن لا يتمتع الإنسان بحرية الإرادة كي يستحق حساب الآخرة. أولى المعتزلة للعقل دورا مميزا في فهم الشريعة، وتفسير الظواهر حسب مبدأ السببية. تولّى المتوكّل الخلافة عام 232 هجرية (847م)، واستغل الإقطاعيون والأمراء ممن أزيحوا عن مواقعهم في عهد المأمون، وممثلوهم في القطاع الفكري، نقاط الضعف في شخصية الخليفة الجديد، ومنها إسرافه في الملذات والشراب، وشرعوا يضغطون عليه لتوجيه سياسة الدولة باتجاه مصالحهم وتفكيرهم، وحمله على إلغاء ما أحدثه المأمون وخاصة فيما يتعلق بعلم الكلام المعتزليّ وخلق القرآن وارتباطهما بمذهب الدولة". استجاب لهم الخليفة، وشن حملة ضارية ضد أنصار المذهب المعتزلي وفكره، لدرجة أن الجيل التالي لم يعرف عن هذا المذهب إلا ما كتب وقيل ضده من تجنيات. كان المتوكل قاسيا ومحبا للهو والشرب فأوكل الأمور للمذهب الجديد. آلت الحظوة لأبي الحسن الأشعري الذي صاغ إيديولوجية جديدة لقوى المحافظة انطوت على تغليب النقل على العقل. واستقر الأمر للجمود. نفى أبو الحسن الأشعري عن الدين وظيفة إسعاد البشر وترشيدهم إلى ما فيه خيرهم في الدنيا وأوَّله سبيلا لمعرفة الله، فأسند إلى النصوص وظيفة الكشف عن المطلق، الأمر الذي لا تنهض به الا النخب المتميزة. "إن الأشعرية قد أسقطت العلاقة بين الموجودات والحوادث، فقالت باستحالة معرفة الحقيقة". بذلك حكمت الأشعرية على جمهور المسلمين بجهل أصول الدين وأحكامه، ثم الخنوع لنزوات السلاطين، فدشنت عهد التراجع عن الثقافة العقلانية. واغتفر المتحدّثون الأشعريون للخليفة سوء أفعاله، ورووا رؤى لهم في المنام أن الله غفر له. أمر المتوكل بترك النظر والمباحثة في السجال، وترك ما كان عليه الناس في أيام المأمون والمعتصم والوائق، وأمر الناس بالتسليم والتقليد، أي التسليم بالقضاء والقدر، وأمر شيوخ المتحدثين بإظهار السنة والجماعة. ويدأت محنة العقلانية في الفكر، وبدأت الرحلة باتجاه "فكر السلف الصالح"، تلك الرحلة التي تاهت وضلت طريقها إلى الصوفية والخرافة في متاهة الاستبداد السياسي وإخضاع الرقاب للحكم المطلق. يرجع المؤرخون الصوفية إلى الحسن البصري، الفقيه الورع الزاهد، الذي عاش في بدايات الحكم الأموي. واتخذت الصوفية على يدية سمة الزهد ومعارضة سلطة الحكم وتبذله. وكم جهر الصوفيون بمعارضة بذخ الخلفاء من بني العباس، ونقموا عليهم انفرادهم بأموال المسلمين دون الرعيّة. لكن مضمونا للصوفية تسليميّاً وتوكليّاً نما على يد سلفية العصر الوسيط التي دشّنتها الأشعرية. نشأ وضع تكرر في التاريخ العربي - الإسلامي ينتفي فيه الأمن، فيتطلع الناس إلى الآخرة ينشدون السلوى؛ وتتسع دائرة التصوّف إذ ييأس الناس من العدالة على الأرض، ولا يجرؤون على مجابهة الحكام وينشدونها في السماء. يقترن هذا الفكر بظهور موجات من تعسف الحكم تشرذمت على إثرها الدولة، واحتدمت الصراعات والحروب والفتن، فانعدم الأمان، وانتشر قطّاع الطرق، وعمت الفوضى، ما أثّر سلباً على التبادل التجاري والنموّ الاقتصادي. تراخت حركة دواليب التطوّر الاجتماعي، وتوقّف الإبداع الثقافي، وراحت عروقه تجفّ، فتشكل مناخ لا يساعد على التراكم وتنشيط الإنتاج، وأضافت الفتن والحروب وبطش الحكام إلى المصاعب. شكّل الوضع الاجتماعي الجديد وعاء الأشعرية، التي تواصلت باستمراريته. تقدمت الظلامية بدون مقاومة أو بمقاومة طفيفة على فترات متباعدة. ركّز المعز بن عبد السلام الذي عمل في القاهرة في القرن السابع الهجري (الثاني عشر الميلادي) على مبدأ العدالة الاجتماعية في الإسلام. ورفع ابن رشد لواء العقلانية في القرن الثامن، (الثالث عشر الميلادي) كما نادى أبوأسحق الشاطبي في القرن التاسع الهجري ( الرابع عشر الميلادي) في كتابه "الموافقات في أصول الشريعة "بإقامة حكم الشريعة على "مراعاة مصالح البشر". وقيم الإمام محمد عبده هذا الأثر الفقهي وطلب من أحد تلامذته العمل على طباعته ونشره. في ظلّ القلق الاجتماعي، يعزف الناس عن البحث والاجتهاد، ويسود نمط من الفكر ينطوي على النقل والتقليد، وينظر إلى البحث العقليّ والتعميم الفلسفيّ نظرة بغض وكراهية، ويسمه بالإلحاد والزندقة. ومع تسلل غير العرب، خاصة الأتراك السلاجقة، إلى جهاز الحكم، ساد مناخ عرفي عطّل حرية البحث والحوار الفكري، ونكّل أولياء الأمر الجدد من فرس وأتراك بالخلفاء، كما أهملوا الأدب والشعر، ومالوا إلى تشجيع طقوس الدروشة والتعلق بالأولياء والمزارات. تصاعد الصدام بين الأشعرية وثقافة الإبداع والتجديد، وبلغ أوجه في الفترة الثانية للحكم العباسي. وشهدت حقبة ما بعد سقوط بغداد على يد المغول إحراق المجلدات ومؤلفات العلماء والنوابغ، وتم تكفير معظم العلماء أمثال الرازي والخوارزمي وابن سينا والبيروني وابن رشد والتوحيدي، وأعدم الحلاج. هي حقبة شبيهة بها حقبة غزو العراق من قبل القوات الأمريكية. في هذا المناخ الموبوء أقبل الجمهور على كتب السحر والشعوذة والتصوف، وتجاوب الوجدان الجمعي مع خرافاتها. انتشر ما يعرف بالطبّ النبوي، وشاعت أساطير وخرافات، وتوثقت العلاقة بينها وبين حلقات الزار وزيارات " الأولياء" والتداوى من المس الشيطانى والربط الجنسي وكتابات المحبة والتأليف بين القلوب. كيف أثر ت التحولات السلبية على الحياة الثقافية؟ رصد المنورون العرب والمسلمون فجوة ثقافية فصلت المجتمعات العربية –الإسلامية عن حضارة العصر؛ فركزوا على الأدوات الفكرية لتغيير الواقع الظلامي وانتشال المجتمعات من بؤس العصر الوسيط . واهتمت طائفة بالإصلاح الديني . ولم يقيض لحركة التنوير أن تنجز مهمتها؛ خذلتها البرجوازيات العربية التي بحثت عن مصالحها في التبعية، فبقيت نهضة التنويرمعلقة تنتظر من يواصل الرسالة.لم يكن في مشروعها ولا باستطاعتها إنجاز تغيير اجتماعي اقتصادي علمي ثقافي في المجتمع ، حتى ولو باتجاه إرساء نظام رأسمالي مستقل. أما الحركات الماركسية فقد تجاهلت تماما نصيحة لينين وقفزت بمشروعها التحديثي باتجاه بنية اجتماعية لم تنضج ظروف إنشائها. يتبع
النضال الطبقي في البنية الكولنيالية -2 معالم تخلف العصر الوسيط
تتحرر الطبقة العاملة بتحرر المجتمع. وضمن ظروف بلادنا يترتب على الطبقة العاملة، قبل أن تصعد الطبقة العاملة لإنجاز المهمة،أن تحرر المجتمع من تخلف العصر الوسيط . هذه المهمة الديمقراطية أهملها الماركسيون بادعاء أنها مهمة البرجوازية. وكما ورد معنا في مقال سابق ( الحوار المتمدن2258بتاريخ 21 ابريل2008)جرى إهمال نصيحة لينين لممثلي الكادحين في الشرق الإسلامي بالشروع مباشرة في تصفية تخلف العصر الوسيط.فأغلبية شعوب هم ممثلون نموذجيون للجماهير الفلاحية المستغلة ضحايا اضطهاد العصر الوسيط"...وخاطب لينين ممثلي الشيوعيين، محددا المهمة المباشرة "بالاستناد إلى النظرية العامة للشيوعية وممارستها عليكم ان تكيفوا أنفسكم مع الظروف العيانية التي لم توجد في الأقطار الأوروبية... حيث المهمة شن النضال ضد بقايا العصر الوسيط وليس ضد الرأسمالية". وهي مهمة تقتضي إعمال العقل لاستنباط الحلول لمشاكل " لن يجدوا حلولها في أي كتاب شيوعي .." . فما هي مخلفات العصر الوسيط في حياة المسلمين وشعوب الشرق كافة؟ أعتقد أن هذا الإرث هو الذي وورطنا في مسيرة مغايرة لمسيرة شعوب أمريكا اللاتينية ، ليس في هذه المرحلة حيث تجترح نمطا جديدا من التقدم الديمقراطي، بينما نغرق في سلفية ظلامية؛ إنما منذ عقد السبعينات من القرن الماضي حين استعانت قوى التقدم بالعسكر لإنجاز مشروعها فتاهت في بيداء الحكم العرفي، بينما اعتمد اليندي على الجماهير في تحقيق مشروعه التقدمي. سقط أليندي صريع انقلاب عسكري لكن فكرته ألهمت شعوب قارة أمريكا اللاتينية بأسرها. بعض المفكرين العرب أرجع التخلف إلى نظم بطركية قاهرة. فقد كتب الدكتور هشام الشرابي عن المجتمع البطركي المقيد الذي يقتل شخصية الفرد منذ الطفولة، ويخضع الأسرة والمجتمع الصغير والمجتمع الكبير لزعامة بطركية أوامرية التوجيه، مطلقة السلطة. وشخصها البعض في تغييب العلم باعتبار العلم مصدر قوة الدول المتقدمة. وأسند الدكتور حامد عمار إلى إصلاح المدرسة والجامعة ، كي ننجح في تحدي العولمة . ورأى بعض آخر أن الركود الاقتصادي أبقى على النماذج الاقتصادية الخاصة بالعصر الوسيط؛ فإذا ما أدخل نموذج اقتصادي متطور فإنه لا يتقاطع مع النماذج السائدة ولا يشكل القاطرة التي تجرالنماذج القائمة . والبعض ركز على اغتراب الفرد عن مجتمعه وعن روح العصر نتيجة الاستلاب الفكري. وشخصها بعض آخر بحالة نفسية مقموعة جراء القهر الاجتماعي طويل الأمد. ينمو الفرد وسط غابة من الأفكار تدعم المحافظة، تبرر الظلم الاجتماعي وتبخيس الإنسان واستلابه وحرمانه. وتكمن قوة هذه القيم في ثباتها ورسوخها كمسلمات في الوعي. كما تكمن قوتها في انسجامها مع طيف واسع من القيم والأوضاع السائدة في المجتمع. وضع الدكتور مصطفى حجازي، الباحث في علم النفس الاجتماعي، الاصبع على عطب تبخيس الإنسان بسبب القهر طويل الأمد الذي تعرضت له جماهير الكدح في مجتمعات الشرق. فمنذ القدم والأنظمة الجائرة تقهر الجماهير وترغمها على الخنوع بإحدى وسيلتي الاستلاب أو التجهيل أو بكلتيهما. وبالنتيجة ترسخ لدى المقهورين خصائص نفسية و ذهنية انفعالية، وأخرى منهجية، تتعلق بقصور منهجية التفكير او اختلالها. لا ينحصر الخلل في تفكير الجموع المحرومة من التعليم، بل يشمل المتعلمين كذلك. يقول الدكتور حجازي في كتابه " التخلف الاجتماعي" أن " الطلبة لا يعرفون ماذا يختارون للإجابة ولا يعرفون كيف يعرضون المادة المختارة ما يجعل إجابتهم أقرب إلى تداعي الأفكار منها إلى عرض منظم للموضوع . تبلغ هذه الصعوبة أقصى درجاتها حدة في الدراسات العليا. تبعا لخبرتنا الشخصية يمكن القول ان العجز المنهجي هو العقبة الأساس التي يصطدم بها الراغب بالقيام ببحث علمي...". وقدّم المنوّر عبد الرحمن الكواكبي صورة انطباعية لتدهور فهم الدين(والفرق شاسع بين الدين وفهم الدين او تأويله). شخص المنوّر ترسبات التخلف في فهم الدين في عاملين رئيسين: استبداد الحكم وفتور الجماهير. الاستبداد أخطبوط مدّ أطرافه في كل اتجاه، "في الفكر الإنساني وفي دواوين الحكومة وفي كل مجال يعيش فيه الإنسان. في كل هذه الميادين يعيش الفساد والتحلل فيفسد الدين والتربية ويعادي العلوم ويضعف الاقتصاد فينهب ثروة الأمم وينشر الفقر". وفي ميدان الأخلاق تجلّى الخلل في أن "الاستبداد يربي الناس على الأخلاق الملعونة، فهو يجبر الناس على استباحة الكذب والخداع والنفاق والتذلل وإماتة النفس، ونبذ الجد وترك العمل، ما يدفع الآباء إلى ترك تربية الأبناء، حيث تذهب جهودهم عيثا أمام سطوة تربية الاستبداد، حيث يشعرون أنهم لا يربون أولادهم لهم، بل يربون أنعاما للمستبدين وأعوانا لهم عليهم". أما المنوّر الفلسطيني، الدكتور توفيق كنعان، فقد فصّل دقائق الثقافة الشعبية في ممارسات بدائية تتستر على ظلم أسياد الأرض وطواغيت الاستبداد الميري وإهمالهم حاجات الناس الأساسية. المنظومة الاجتماعية دأبت خلال عصور التخلف على ملء فراغ المعرفة العلمية بالخرافة. الأمر الذي تجلى في التردد على المزارات، وأداء الطقوس الملازمة، لرد الشر ونشدان الخير والتخلص من الأمراض. ينحدر تقليد التردد على المزارات، منذ عصور الوثنية، وتواصل عبر عهود القهر والاستلاب، حيث تقديس الأشياء بناء على ما يقترن بها من قوة وارتباط بمصادرها الموهومة. دراسة الدكتور كنعان للمعتقدات والممارسات الدينية حافلة بتصوّر الناس لقدرات الأولياء الخارقة، ودورهم في مسائل الخير والشرّ والرزق والفقر والمرض والشفاء والقلق والخوف من المجهول . والحقيقة أن التخلف جماع المظاهر المشار إليها في علاقة تفاعلية متداعمة ضمن منظومة سياسية –اقتصادية - ثقافية تشكل قواعد البنية الكولنيالية التابعة للهيمنة الامبريالية. الجذور
حفل الإسلام بقيم العدالة والمساواة ودعوات الخير. كانت رسالة التوحيد محفزا لتوحيد قبائل الجزيرة وتعبئة طاقاتها. لكن وقائع العصر الوسيط أفرزت من المبادئ والقيم لتنظيم الحياة الاجتماعية ما يتعارض مع قيم الدين الجديد ومثله وتعاليمه. واستطاع الحكام المستبدون وفقهاؤهم تمويهها بغلاف ديني سهل إقحامها على الدين. فعندما اغتصب معاوية بن أبي سفيان السلطة ، وهو الذي لم تكن له سابقة في الإسلام وما صاحب الرسول ولا عانى هموم إظهار الدين الجديد، ولا أبلى في الدفاع عنه، فقد ركّز سلطة الحكم بيديه بعد أن ألغى الشورى وتحول بالحكم إلى الوراثة ضمن العائلة الأموية . فسوّغ بنظرية "الجبرية " المتنكرة لحرية الإرادة البشرية، صعوده وسقوط خصمه الإمام علي،صاحب المآثر في نصرة الدين الجديد. رفع معاوية الجبرية إلي عقيدة دينية وفلسفة دولة: " لو لم يرني ربي أهلا لهذا(الخلافة)لما تركني وإياه. ولو كره الله ما نحن فيه لغيّره". واستنّ معاوية في الحكم سنة غير حميدة إذ حشد حوله بطانة سوء منتفعة تكفلت بمهمة تلفيق فقهٍ تبريري يسوّغ الحكم المطلق والوراثي. قطعت أضاليل فقه البلاط الأموي الذاكرة الجماعية :عتّمت على وقفة الخليفة الراشد أبي بكر الصديق وهو يخاطب المسلمين بلغة الشورى " آني قد وليت عليكم ولست بخيركم . أطيعوني ما أطعت الله فيكم ، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم ." فقهاء السلطة غير الراشدة سوغوا المنكر. ومنهم زياد بن أبيه ، مستشار السوء والخطيب المتميز، خاطب الناس بلغة أهل الحكم فقال:"إننا أصبحنا لكم سادة وعنكم ذادة ؛ نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا ونذود عنكم بفيء الله الذي فوضنا . فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا". فالحكم الجديد مفوض ب" سلطان الله"ومال المسلمين تحول إلى مال الله أودعه الحاكم بأمره!! توجه معبد الجهني ، تلميذ أبي ذر الغفاري إلى الحسن البصري ، الفقيه الزاهد المعتكف احتجاجا على تبذل الحكام غير الراشدين وقال : يا أبا سعيد هؤلاء الملوك يسفكون دماء المسلمين ويأخذون أموالهم ويقولون إنما تجري أعمالنا على قدر من الله ! فيجيبه البصري:كذب أعداء الله. وبرز من بين حاشية الخليفة من اقترح توريث الخلافة لولده يزيد، ومن يكرِه على مبايعته. ظل التزييف وتزيين المنكر سيد المقام لقرون عدة إلى أن انتهى مع أبي الهدى الصيادي ، مستشار السلطان العثماني عبد الحميد إلى تطويب السلطان "ظل الله على الأرض. طاعة المسلمين له واجبة". دفع معبد الجهني حياته ثمنا لمواقفه دفاعا عن الإرادة البشرية ومسئولية الإنسان عن أفعاله. ثم ضحى والي البصرة بداعية آخر هو الجعد بن جرهم، الذي كان له تفسير للدين يقربه من العقل و يعارض الظلم والاستبداد. بعد خطبة العيد قال الوالي للمصلين إذهبوا وضحوا؛ أما أنا فسأضحي بالجعذ بن جرهم. وتواصلت مسيرة العقل في مجتمع ينبض بالحيوية وزخم التطور. رفع بن المقفع من قيمة العقل " مطبوع ويزود بالتجارب والأدب، لا يظهر حتى يظهره الأدب وتقصده التجارب؛ والعقل هو المقوي لكل فضيلة والمعين على دفع كل رذيلة . فلا شيء أفضل من العقل". إذن احتدم صراع ضار ضد الجبرية، قرن الدين بالعقل، استمر حقبة زمنية في العصر الوسيط شهدت نموا في الحركة الاقتصادية والحياة الاجتماعية، ثم توقفت دواليب الحركة. والركود الاجتماعي يفرز ركودا ثقافيا وانحطاطا أخلاقيا . في كنف تغليب العقل على النقل، تطور علم الكلام والاجتهاد على أيدي الحسن البصري وواصل بن عطاء، وأشيع حوار أعلام الفقه وأئمته، وأبدعت الحياة العقلية اجتهادات الأئمة الأربعة، ثم تبلور الفكر المعتزلي، إلى جانب علوم اللغة والفلسفة وعلوم الطبيعة والعلوم الإنسانية. تطوّر العلم التجريبي في الثقافة العربية – الإسلامية، وظهر أعلام في الطبّ والرياضيات والفلسفة والأدب والنقد الأدبي من بينهم البيروني والرازي وابن الهيثم وابن النفيس وابن سينا والأصفهاني والجرجاني والفارابي وابن طفيل وإخوان الصفا وأبو العلاء المعري وأبو حيان التوحيدي والرازي وابن رشد وابن خلدون. توصل هؤلاء إلى الحكمة من خلال التجريب وإعمال العقل. لم يدّع أحد منهم أنه اكتشف "إعجازا علميّا في القرآن"، شأن المتطفلين على علوم الغرب في عصرنا المسخوط بالوهن والشعوذات. في عهد المأمون، غد ا الاعتزال المذهب الرسمي للخلافة، واستمر ذلك ستة عشر عاما في عهود المأمون والمعتصم والواثق. تولى المعتزلة المناصب القيادية بما في ذلك منصب الوزير الذي شغله أحمد بن دؤاد. و"هذا لم يغير إيديولوجية الدولة القائمة على التوحيد ووحدانية الشريعة ذات المصدر الإلهي الواحد" كما أكد المؤرخون. أولى الفكر المعتزليّ قيمة عليا لإرادة الإنسان باعتباره متميزا عن بقية مخلوقات الله بالعقل، وهو مسئول أمام الله في الدار الآخرة، ولا يستقيم مع العدالة الربّانية أن لا يتمتع الإنسان بحرية الإرادة كي يستحق حساب الآخرة. أولى المعتزلة للعقل دورا مميزا في فهم الشريعة، وتفسير الظواهر حسب مبدأ السببية. تولّى المتوكّل الخلافة عام 232 هجرية (847م)، واستغل الإقطاعيون والأمراء ممن أزيحوا عن مواقعهم في عهد المأمون، وممثلوهم في القطاع الفكري، نقاط الضعف في شخصية الخليفة الجديد، ومنها إسرافه في الملذات والشراب، وشرعوا يضغطون عليه لتوجيه سياسة الدولة باتجاه مصالحهم وتفكيرهم، وحمله على إلغاء ما أحدثه المأمون وخاصة فيما يتعلق بعلم الكلام المعتزليّ وخلق القرآن وارتباطهما بمذهب الدولة". استجاب لهم الخليفة، وشن حملة ضارية ضد أنصار المذهب المعتزلي وفكره، لدرجة أن الجيل التالي لم يعرف عن هذا المذهب إلا ما كتب وقيل ضده من تجنيات. كان المتوكل قاسيا ومحبا للهو والشرب فأوكل الأمور للمذهب الجديد. آلت الحظوة لأبي الحسن الأشعري الذي صاغ إيديولوجية جديدة لقوى المحافظة انطوت على تغليب النقل على العقل. واستقر الأمر للجمود. نفى أبو الحسن الأشعري عن الدين وظيفة إسعاد البشر وترشيدهم إلى ما فيه خيرهم في الدنيا وأوَّله سبيلا لمعرفة الله، فأسند إلى النصوص وظيفة الكشف عن المطلق، الأمر الذي لا تنهض به الا النخب المتميزة. "إن الأشعرية قد أسقطت العلاقة بين الموجودات والحوادث، فقالت باستحالة معرفة الحقيقة". بذلك حكمت الأشعرية على جمهور المسلمين بجهل أصول الدين وأحكامه، ثم الخنوع لنزوات السلاطين، فدشنت عهد التراجع عن الثقافة العقلانية. واغتفر المتحدّثون الأشعريون للخليفة سوء أفعاله، ورووا رؤى لهم في المنام أن الله غفر له. أمر المتوكل بترك النظر والمباحثة في السجال، وترك ما كان عليه الناس في أيام المأمون والمعتصم والوائق، وأمر الناس بالتسليم والتقليد، أي التسليم بالقضاء والقدر، وأمر شيوخ المتحدثين بإظهار السنة والجماعة. ويدأت محنة العقلانية في الفكر، وبدأت الرحلة باتجاه "فكر السلف الصالح"، تلك الرحلة التي تاهت وضلت طريقها إلى الصوفية والخرافة في متاهة الاستبداد السياسي وإخضاع الرقاب للحكم المطلق. يرجع المؤرخون الصوفية إلى الحسن البصري، الفقيه الورع الزاهد، الذي عاش في بدايات الحكم الأموي. واتخذت الصوفية على يدية سمة الزهد ومعارضة سلطة الحكم وتبذله. وكم جهر الصوفيون بمعارضة بذخ الخلفاء من بني العباس، ونقموا عليهم انفرادهم بأموال المسلمين دون الرعيّة. لكن مضمونا للصوفية تسليميّاً وتوكليّاً نما على يد سلفية العصر الوسيط التي دشّنتها الأشعرية. نشأ وضع تكرر في التاريخ العربي - الإسلامي ينتفي فيه الأمن، فيتطلع الناس إلى الآخرة ينشدون السلوى؛ وتتسع دائرة التصوّف إذ ييأس الناس من العدالة على الأرض، ولا يجرؤون على مجابهة الحكام وينشدونها في السماء. يقترن هذا الفكر بظهور موجات من تعسف الحكم تشرذمت على إثرها الدولة، واحتدمت الصراعات والحروب والفتن، فانعدم الأمان، وانتشر قطّاع الطرق، وعمت الفوضى، ما أثّر سلباً على التبادل التجاري والنموّ الاقتصادي. تراخت حركة دواليب التطوّر الاجتماعي، وتوقّف الإبداع الثقافي، وراحت عروقه تجفّ، فتشكل مناخ لا يساعد على التراكم وتنشيط الإنتاج، وأضافت الفتن والحروب وبطش الحكام إلى المصاعب. شكّل الوضع الاجتماعي الجديد وعاء الأشعرية، التي تواصلت باستمراريته. تقدمت الظلامية بدون مقاومة أو بمقاومة طفيفة على فترات متباعدة. ركّز المعز بن عبد السلام الذي عمل في القاهرة في القرن السابع الهجري (الثاني عشر الميلادي) على مبدأ العدالة الاجتماعية في الإسلام. ورفع ابن رشد لواء العقلانية في القرن الثامن، (الثالث عشر الميلادي) كما نادى أبوأسحق الشاطبي في القرن التاسع الهجري ( الرابع عشر الميلادي) في كتابه "الموافقات في أصول الشريعة "بإقامة حكم الشريعة على "مراعاة مصالح البشر". وقيم الإمام محمد عبده هذا الأثر الفقهي وطلب من أحد تلامذته العمل على طباعته ونشره. في ظلّ القلق الاجتماعي، يعزف الناس عن البحث والاجتهاد، ويسود نمط من الفكر ينطوي على النقل والتقليد، وينظر إلى البحث العقليّ والتعميم الفلسفيّ نظرة بغض وكراهية، ويسمه بالإلحاد والزندقة. ومع تسلل غير العرب، خاصة الأتراك السلاجقة، إلى جهاز الحكم، ساد مناخ عرفي عطّل حرية البحث والحوار الفكري، ونكّل أولياء الأمر الجدد من فرس وأتراك بالخلفاء، كما أهملوا الأدب والشعر، ومالوا إلى تشجيع طقوس الدروشة والتعلق بالأولياء والمزارات. تصاعد الصدام بين الأشعرية وثقافة الإبداع والتجديد، وبلغ أوجه في الفترة الثانية للحكم العباسي. وشهدت حقبة ما بعد سقوط بغداد على يد المغول إحراق المجلدات ومؤلفات العلماء والنوابغ، وتم تكفير معظم العلماء أمثال الرازي والخوارزمي وابن سينا والبيروني وابن رشد والتوحيدي، وأعدم الحلاج. هي حقبة شبيهة بها حقبة غزو العراق من قبل القوات الأمريكية. في هذا المناخ الموبوء أقبل الجمهور على كتب السحر والشعوذة والتصوف، وتجاوب الوجدان الجمعي مع خرافاتها. انتشر ما يعرف بالطبّ النبوي، وشاعت أساطير وخرافات، وتوثقت العلاقة بينها وبين حلقات الزار وزيارات " الأولياء" والتداوى من المس الشيطانى والربط الجنسي وكتابات المحبة والتأليف بين القلوب. كيف أثر ت التحولات السلبية على الحياة الثقافية؟ رصد المنورون العرب والمسلمون فجوة ثقافية فصلت المجتمعات العربية –الإسلامية عن حضارة العصر؛ فركزوا على الأدوات الفكرية لتغيير الواقع الظلامي وانتشال المجتمعات من بؤس العصر الوسيط . واهتمت طائفة بالإصلاح الديني . ولم يقيض لحركة التنوير أن تنجز مهمتها؛ خذلتها البرجوازيات العربية التي بحثت عن مصالحها في التبعية، فبقيت نهضة التنويرمعلقة تنتظر من يواصل الرسالة.لم يكن في مشروعها ولا باستطاعتها إنجاز تغيير اجتماعي اقتصادي علمي ثقافي في المجتمع ، حتى ولو باتجاه إرساء نظام رأسمالي مستقل. أما الحركات الماركسية فقد تجاهلت تماما نصيحة لينين وقفزت بمشروعها التحديثي باتجاه بنية اجتماعية لم تنضج ظروف إنشائها. يتبع
النضال الطبقي في البنية الكولنيالية -2 معالم تخلف العصر الوسيط
تتحرر الطبقة العاملة بتحرر المجتمع. وضمن ظروف بلادنا يترتب على الطبقة العاملة، قبل أن تصعد الطبقة العاملة لإنجاز المهمة،أن تحرر المجتمع من تخلف العصر الوسيط . هذه المهمة الديمقراطية أهملها الماركسيون بادعاء أنها مهمة البرجوازية. وكما ورد معنا في مقال سابق ( الحوار المتمدن2258بتاريخ 21 ابريل2008)جرى إهمال نصيحة لينين لممثلي الكادحين في الشرق الإسلامي بالشروع مباشرة في تصفية تخلف العصر الوسيط.فأغلبية شعوب هم ممثلون نموذجيون للجماهير الفلاحية المستغلة ضحايا اضطهاد العصر الوسيط"...وخاطب لينين ممثلي الشيوعيين، محددا المهمة المباشرة "بالاستناد إلى النظرية العامة للشيوعية وممارستها عليكم ان تكيفوا أنفسكم مع الظروف العيانية التي لم توجد في الأقطار الأوروبية... حيث المهمة شن النضال ضد بقايا العصر الوسيط وليس ضد الرأسمالية". وهي مهمة تقتضي إعمال العقل لاستنباط الحلول لمشاكل " لن يجدوا حلولها في أي كتاب شيوعي .." . فما هي مخلفات العصر الوسيط في حياة المسلمين وشعوب الشرق كافة؟ أعتقد أن هذا الإرث هو الذي وورطنا في مسيرة مغايرة لمسيرة شعوب أمريكا اللاتينية ، ليس في هذه المرحلة حيث تجترح نمطا جديدا من التقدم الديمقراطي، بينما نغرق في سلفية ظلامية؛ إنما منذ عقد السبعينات من القرن الماضي حين استعانت قوى التقدم بالعسكر لإنجاز مشروعها فتاهت في بيداء الحكم العرفي، بينما اعتمد اليندي على الجماهير في تحقيق مشروعه التقدمي. سقط أليندي صريع انقلاب عسكري لكن فكرته ألهمت شعوب قارة أمريكا اللاتينية بأسرها. بعض المفكرين العرب أرجع التخلف إلى نظم بطركية قاهرة. فقد كتب الدكتور هشام الشرابي عن المجتمع البطركي المقيد الذي يقتل شخصية الفرد منذ الطفولة، ويخضع الأسرة والمجتمع الصغير والمجتمع الكبير لزعامة بطركية أوامرية التوجيه، مطلقة السلطة. وشخصها البعض في تغييب العلم باعتبار العلم مصدر قوة الدول المتقدمة. وأسند الدكتور حامد عمار إلى إصلاح المدرسة والجامعة ، كي ننجح في تحدي العولمة . ورأى بعض آخر أن الركود الاقتصادي أبقى على النماذج الاقتصادية الخاصة بالعصر الوسيط؛ فإذا ما أدخل نموذج اقتصادي متطور فإنه لا يتقاطع مع النماذج السائدة ولا يشكل القاطرة التي تجرالنماذج القائمة . والبعض ركز على اغتراب الفرد عن مجتمعه وعن روح العصر نتيجة الاستلاب الفكري. وشخصها بعض آخر بحالة نفسية مقموعة جراء القهر الاجتماعي طويل الأمد. ينمو الفرد وسط غابة من الأفكار تدعم المحافظة، تبرر الظلم الاجتماعي وتبخيس الإنسان واستلابه وحرمانه. وتكمن قوة هذه القيم في ثباتها ورسوخها كمسلمات في الوعي. كما تكمن قوتها في انسجامها مع طيف واسع من القيم والأوضاع السائدة في المجتمع. وضع الدكتور مصطفى حجازي، الباحث في علم النفس الاجتماعي، الاصبع على عطب تبخيس الإنسان بسبب القهر طويل الأمد الذي تعرضت له جماهير الكدح في مجتمعات الشرق. فمنذ القدم والأنظمة الجائرة تقهر الجماهير وترغمها على الخنوع بإحدى وسيلتي الاستلاب أو التجهيل أو بكلتيهما. وبالنتيجة ترسخ لدى المقهورين خصائص نفسية و ذهنية انفعالية، وأخرى منهجية، تتعلق بقصور منهجية التفكير او اختلالها. لا ينحصر الخلل في تفكير الجموع المحرومة من التعليم، بل يشمل المتعلمين كذلك. يقول الدكتور حجازي في كتابه " التخلف الاجتماعي" أن " الطلبة لا يعرفون ماذا يختارون للإجابة ولا يعرفون كيف يعرضون المادة المختارة ما يجعل إجابتهم أقرب إلى تداعي الأفكار منها إلى عرض منظم للموضوع . تبلغ هذه الصعوبة أقصى درجاتها حدة في الدراسات العليا. تبعا لخبرتنا الشخصية يمكن القول ان العجز المنهجي هو العقبة الأساس التي يصطدم بها الراغب بالقيام ببحث علمي...". وقدّم المنوّر عبد الرحمن الكواكبي صورة انطباعية لتدهور فهم الدين(والفرق شاسع بين الدين وفهم الدين او تأويله). شخص المنوّر ترسبات التخلف في فهم الدين في عاملين رئيسين: استبداد الحكم وفتور الجماهير. الاستبداد أخطبوط مدّ أطرافه في كل اتجاه، "في الفكر الإنساني وفي دواوين الحكومة وفي كل مجال يعيش فيه الإنسان. في كل هذه الميادين يعيش الفساد والتحلل فيفسد الدين والتربية ويعادي العلوم ويضعف الاقتصاد فينهب ثروة الأمم وينشر الفقر". وفي ميدان الأخلاق تجلّى الخلل في أن "الاستبداد يربي الناس على الأخلاق الملعونة، فهو يجبر الناس على استباحة الكذب والخداع والنفاق والتذلل وإماتة النفس، ونبذ الجد وترك العمل، ما يدفع الآباء إلى ترك تربية الأبناء، حيث تذهب جهودهم عيثا أمام سطوة تربية الاستبداد، حيث يشعرون أنهم لا يربون أولادهم لهم، بل يربون أنعاما للمستبدين وأعوانا لهم عليهم". أما المنوّر الفلسطيني، الدكتور توفيق كنعان، فقد فصّل دقائق الثقافة الشعبية في ممارسات بدائية تتستر على ظلم أسياد الأرض وطواغيت الاستبداد الميري وإهمالهم حاجات الناس الأساسية. المنظومة الاجتماعية دأبت خلال عصور التخلف على ملء فراغ المعرفة العلمية بالخرافة. الأمر الذي تجلى في التردد على المزارات، وأداء الطقوس الملازمة، لرد الشر ونشدان الخير والتخلص من الأمراض. ينحدر تقليد التردد على المزارات، منذ عصور الوثنية، وتواصل عبر عهود القهر والاستلاب، حيث تقديس الأشياء بناء على ما يقترن بها من قوة وارتباط بمصادرها الموهومة. دراسة الدكتور كنعان للمعتقدات والممارسات الدينية حافلة بتصوّر الناس لقدرات الأولياء الخارقة، ودورهم في مسائل الخير والشرّ والرزق والفقر والمرض والشفاء والقلق والخوف من المجهول . والحقيقة أن التخلف جماع المظاهر المشار إليها في علاقة تفاعلية متداعمة ضمن منظومة سياسية –اقتصادية - ثقافية تشكل قواعد البنية الكولنيالية التابعة للهيمنة الامبريالية. الجذور
حفل الإسلام بقيم العدالة والمساواة ودعوات الخير. كانت رسالة التوحيد محفزا لتوحيد قبائل الجزيرة وتعبئة طاقاتها. لكن وقائع العصر الوسيط أفرزت من المبادئ والقيم لتنظيم الحياة الاجتماعية ما يتعارض مع قيم الدين الجديد ومثله وتعاليمه. واستطاع الحكام المستبدون وفقهاؤهم تمويهها بغلاف ديني سهل إقحامها على الدين. فعندما اغتصب معاوية بن أبي سفيان السلطة ، وهو الذي لم تكن له سابقة في الإسلام وما صاحب الرسول ولا عانى هموم إظهار الدين الجديد، ولا أبلى في الدفاع عنه، فقد ركّز سلطة الحكم بيديه بعد أن ألغى الشورى وتحول بالحكم إلى الوراثة ضمن العائلة الأموية . فسوّغ بنظرية "الجبرية " المتنكرة لحرية الإرادة البشرية، صعوده وسقوط خصمه الإمام علي،صاحب المآثر في نصرة الدين الجديد. رفع معاوية الجبرية إلي عقيدة دينية وفلسفة دولة: " لو لم يرني ربي أهلا لهذا(الخلافة)لما تركني وإياه. ولو كره الله ما نحن فيه لغيّره". واستنّ معاوية في الحكم سنة غير حميدة إذ حشد حوله بطانة سوء منتفعة تكفلت بمهمة تلفيق فقهٍ تبريري يسوّغ الحكم المطلق والوراثي. قطعت أضاليل فقه البلاط الأموي الذاكرة الجماعية :عتّمت على وقفة الخليفة الراشد أبي بكر الصديق وهو يخاطب المسلمين بلغة الشورى " آني قد وليت عليكم ولست بخيركم . أطيعوني ما أطعت الله فيكم ، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم ." فقهاء السلطة غير الراشدة سوغوا المنكر. ومنهم زياد بن أبيه ، مستشار السوء والخطيب المتميز، خاطب الناس بلغة أهل الحكم فقال:"إننا أصبحنا لكم سادة وعنكم ذادة ؛ نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا ونذود عنكم بفيء الله الذي فوضنا . فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا". فالحكم الجديد مفوض ب" سلطان الله"ومال المسلمين تحول إلى مال الله أودعه الحاكم بأمره!! توجه معبد الجهني ، تلميذ أبي ذر الغفاري إلى الحسن البصري ، الفقيه الزاهد المعتكف احتجاجا على تبذل الحكام غير الراشدين وقال : يا أبا سعيد هؤلاء الملوك يسفكون دماء المسلمين ويأخذون أموالهم ويقولون إنما تجري أعمالنا على قدر من الله ! فيجيبه البصري:كذب أعداء الله. وبرز من بين حاشية الخليفة من اقترح توريث الخلافة لولده يزيد، ومن يكرِه على مبايعته. ظل التزييف وتزيين المنكر سيد المقام لقرون عدة إلى أن انتهى مع أبي الهدى الصيادي ، مستشار السلطان العثماني عبد الحميد إلى تطويب السلطان "ظل الله على الأرض. طاعة المسلمين له واجبة". دفع معبد الجهني حياته ثمنا لمواقفه دفاعا عن الإرادة البشرية ومسئولية الإنسان عن أفعاله. ثم ضحى والي البصرة بداعية آخر هو الجعد بن جرهم، الذي كان له تفسير للدين يقربه من العقل و يعارض الظلم والاستبداد. بعد خطبة العيد قال الوالي للمصلين إذهبوا وضحوا؛ أما أنا فسأضحي بالجعذ بن جرهم. وتواصلت مسيرة العقل في مجتمع ينبض بالحيوية وزخم التطور. رفع بن المقفع من قيمة العقل " مطبوع ويزود بالتجارب والأدب، لا يظهر حتى يظهره الأدب وتقصده التجارب؛ والعقل هو المقوي لكل فضيلة والمعين على دفع كل رذيلة . فلا شيء أفضل من العقل". إذن احتدم صراع ضار ضد الجبرية، قرن الدين بالعقل، استمر حقبة زمنية في العصر الوسيط شهدت نموا في الحركة الاقتصادية والحياة الاجتماعية، ثم توقفت دواليب الحركة. والركود الاجتماعي يفرز ركودا ثقافيا وانحطاطا أخلاقيا . في كنف تغليب العقل على النقل، تطور علم الكلام والاجتهاد على أيدي الحسن البصري وواصل بن عطاء، وأشيع حوار أعلام الفقه وأئمته، وأبدعت الحياة العقلية اجتهادات الأئمة الأربعة، ثم تبلور الفكر المعتزلي، إلى جانب علوم اللغة والفلسفة وعلوم الطبيعة والعلوم الإنسانية. تطوّر العلم التجريبي في الثقافة العربية – الإسلامية، وظهر أعلام في الطبّ والرياضيات والفلسفة والأدب والنقد الأدبي من بينهم البيروني والرازي وابن الهيثم وابن النفيس وابن سينا والأصفهاني والجرجاني والفارابي وابن طفيل وإخوان الصفا وأبو العلاء المعري وأبو حيان التوحيدي والرازي وابن رشد وابن خلدون. توصل هؤلاء إلى الحكمة من خلال التجريب وإعمال العقل. لم يدّع أحد منهم أنه اكتشف "إعجازا علميّا في القرآن"، شأن المتطفلين على علوم الغرب في عصرنا المسخوط بالوهن والشعوذات. في عهد المأمون، غد ا الاعتزال المذهب الرسمي للخلافة، واستمر ذلك ستة عشر عاما في عهود المأمون والمعتصم والواثق. تولى المعتزلة المناصب القيادية بما في ذلك منصب الوزير الذي شغله أحمد بن دؤاد. و"هذا لم يغير إيديولوجية الدولة القائمة على التوحيد ووحدانية الشريعة ذات المصدر الإلهي الواحد" كما أكد المؤرخون. أولى الفكر المعتزليّ قيمة عليا لإرادة الإنسان باعتباره متميزا عن بقية مخلوقات الله بالعقل، وهو مسئول أمام الله في الدار الآخرة، ولا يستقيم مع العدالة الربّانية أن لا يتمتع الإنسان بحرية الإرادة كي يستحق حساب الآخرة. أولى المعتزلة للعقل دورا مميزا في فهم الشريعة، وتفسير الظواهر حسب مبدأ السببية. تولّى المتوكّل الخلافة عام 232 هجرية (847م)، واستغل الإقطاعيون والأمراء ممن أزيحوا عن مواقعهم في عهد المأمون، وممثلوهم في القطاع الفكري، نقاط الضعف في شخصية الخليفة الجديد، ومنها إسرافه في الملذات والشراب، وشرعوا يضغطون عليه لتوجيه سياسة الدولة باتجاه مصالحهم وتفكيرهم، وحمله على إلغاء ما أحدثه المأمون وخاصة فيما يتعلق بعلم الكلام المعتزليّ وخلق القرآن وارتباطهما بمذهب الدولة". استجاب لهم الخليفة، وشن حملة ضارية ضد أنصار المذهب المعتزلي وفكره، لدرجة أن الجيل التالي لم يعرف عن هذا المذهب إلا ما كتب وقيل ضده من تجنيات. كان المتوكل قاسيا ومحبا للهو والشرب فأوكل الأمور للمذهب الجديد. آلت الحظوة لأبي الحسن الأشعري الذي صاغ إيديولوجية جديدة لقوى المحافظة انطوت على تغليب النقل على العقل. واستقر الأمر للجمود. نفى أبو الحسن الأشعري عن الدين وظيفة إسعاد البشر وترشيدهم إلى ما فيه خيرهم في الدنيا وأوَّله سبيلا لمعرفة الله، فأسند إلى النصوص وظيفة الكشف عن المطلق، الأمر الذي لا تنهض به الا النخب المتميزة. "إن الأشعرية قد أسقطت العلاقة بين الموجودات والحوادث، فقالت باستحالة معرفة الحقيقة". بذلك حكمت الأشعرية على جمهور المسلمين بجهل أصول الدين وأحكامه، ثم الخنوع لنزوات السلاطين، فدشنت عهد التراجع عن الثقافة العقلانية. واغتفر المتحدّثون الأشعريون للخليفة سوء أفعاله، ورووا رؤى لهم في المنام أن الله غفر له. أمر المتوكل بترك النظر والمباحثة في السجال، وترك ما كان عليه الناس في أيام المأمون والمعتصم والوائق، وأمر الناس بالتسليم والتقليد، أي التسليم بالقضاء والقدر، وأمر شيوخ المتحدثين بإظهار السنة والجماعة. ويدأت محنة العقلانية في الفكر، وبدأت الرحلة باتجاه "فكر السلف الصالح"، تلك الرحلة التي تاهت وضلت طريقها إلى الصوفية والخرافة في متاهة الاستبداد السياسي وإخضاع الرقاب للحكم المطلق. يرجع المؤرخون الصوفية إلى الحسن البصري، الفقيه الورع الزاهد، الذي عاش في بدايات الحكم الأموي. واتخذت الصوفية على يدية سمة الزهد ومعارضة سلطة الحكم وتبذله. وكم جهر الصوفيون بمعارضة بذخ الخلفاء من بني العباس، ونقموا عليهم انفرادهم بأموال المسلمين دون الرعيّة. لكن مضمونا للصوفية تسليميّاً وتوكليّاً نما على يد سلفية العصر الوسيط التي دشّنتها الأشعرية. نشأ وضع تكرر في التاريخ العربي - الإسلامي ينتفي فيه الأمن، فيتطلع الناس إلى الآخرة ينشدون السلوى؛ وتتسع دائرة التصوّف إذ ييأس الناس من العدالة على الأرض، ولا يجرؤون على مجابهة الحكام وينشدونها في السماء. يقترن هذا الفكر بظهور موجات من تعسف الحكم تشرذمت على إثرها الدولة، واحتدمت الصراعات والحروب والفتن، فانعدم الأمان، وانتشر قطّاع الطرق، وعمت الفوضى، ما أثّر سلباً على التبادل التجاري والنموّ الاقتصادي. تراخت حركة دواليب التطوّر الاجتماعي، وتوقّف الإبداع الثقافي، وراحت عروقه تجفّ، فتشكل مناخ لا يساعد على التراكم وتنشيط الإنتاج، وأضافت الفتن والحروب وبطش الحكام إلى المصاعب. شكّل الوضع الاجتماعي الجديد وعاء الأشعرية، التي تواصلت باستمراريته. تقدمت الظلامية بدون مقاومة أو بمقاومة طفيفة على فترات متباعدة. ركّز المعز بن عبد السلام الذي عمل في القاهرة في القرن السابع الهجري (الثاني عشر الميلادي) على مبدأ العدالة الاجتماعية في الإسلام. ورفع ابن رشد لواء العقلانية في القرن الثامن، (الثالث عشر الميلادي) كما نادى أبوأسحق الشاطبي في القرن التاسع الهجري ( الرابع عشر الميلادي) في كتابه "الموافقات في أصول الشريعة "بإقامة حكم الشريعة على "مراعاة مصالح البشر". وقيم الإمام محمد عبده هذا الأثر الفقهي وطلب من أحد تلامذته العمل على طباعته ونشره. في ظلّ القلق الاجتماعي، يعزف الناس عن البحث والاجتهاد، ويسود نمط من الفكر ينطوي على النقل والتقليد، وينظر إلى البحث العقليّ والتعميم الفلسفيّ نظرة بغض وكراهية، ويسمه بالإلحاد والزندقة. ومع تسلل غير العرب، خاصة الأتراك السلاجقة، إلى جهاز الحكم، ساد مناخ عرفي عطّل حرية البحث والحوار الفكري، ونكّل أولياء الأمر الجدد من فرس وأتراك بالخلفاء، كما أهملوا الأدب والشعر، ومالوا إلى تشجيع طقوس الدروشة والتعلق بالأولياء والمزارات. تصاعد الصدام بين الأشعرية وثقافة الإبداع والتجديد، وبلغ أوجه في الفترة الثانية للحكم العباسي. وشهدت حقبة ما بعد سقوط بغداد على يد المغول إحراق المجلدات ومؤلفات العلماء والنوابغ، وتم تكفير معظم العلماء أمثال الرازي والخوارزمي وابن سينا والبيروني وابن رشد والتوحيدي، وأعدم الحلاج. هي حقبة شبيهة بها حقبة غزو العراق من قبل القوات الأمريكية. في هذا المناخ الموبوء أقبل الجمهور على كتب السحر والشعوذة والتصوف، وتجاوب الوجدان الجمعي مع خرافاتها. انتشر ما يعرف بالطبّ النبوي، وشاعت أساطير وخرافات، وتوثقت العلاقة بينها وبين حلقات الزار وزيارات " الأولياء" والتداوى من المس الشيطانى والربط الجنسي وكتابات المحبة والتأليف بين القلوب. كيف أثر ت التحولات السلبية على الحياة الثقافية؟ رصد المنورون العرب والمسلمون فجوة ثقافية فصلت المجتمعات العربية –الإسلامية عن حضارة العصر؛ فركزوا على الأدوات الفكرية لتغيير الواقع الظلامي وانتشال المجتمعات من بؤس العصر الوسيط . واهتمت طائفة بالإصلاح الديني . ولم يقيض لحركة التنوير أن تنجز مهمتها؛ خذلتها البرجوازيات العربية التي بحثت عن مصالحها في التبعية، فبقيت نهضة التنويرمعلقة تنتظر من يواصل الرسالة.لم يكن في مشروعها ولا باستطاعتها إنجاز تغيير اجتماعي اقتصادي علمي ثقافي في المجتمع ، حتى ولو باتجاه إرساء نظام رأسمالي مستقل. أما الحركات الماركسية فقد تجاهلت تماما نصيحة لينين وقفزت بمشروعها التحديثي باتجاه بنية اجتماعية لم تنضج ظروف إنشائها. يتبع
#سعيد_مضيه (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
من ركام المحنة تنبت العقلانية
-
النضال الطبقي في البنية الكولنيالية
-
خطورة الفساد تتجاوز إهدار المال العام
-
الأرض في المشروع الصهيوني
-
الاحتلال يعزز مواقعه في العراق ... ولو بصعوبة
-
احترام مشاعر الجمهور وعقله
-
أجل، إسرائيل بحاجة إلى مبرر
-
نموذج لعدوانية العولمة وإرهابها
-
الإيديولوجيا كالهواء نتنفسه ولا نشعر به
-
السلطة والفصائل تستنكف عن تحريك المقاومة الجماهيرية
-
أوضاع الفلسطينيين تتدهور للأسوأ
-
التعليم قد يؤدي دور أداة التقدم والديمقراطية 3من 3
-
التعليم قد يؤدي دور أداة التقدم والديمقراطية حلقة2
-
التعليم قد يؤدي دور أداة التقدم والديمقراطية
-
دلالات سياسية لتقرير فينوغراد
-
إسرائيل لا تتازم وخياراتها مفتوحة
-
غطاء لجرائم الحرب بتفويض أمريكي
-
مشاكل التقدم في المجتمعات التابعة
-
حكم الشوكة والأمن القومي
-
صوت التوحش المتقحم من أدغال الليبرالية الجديدة
المزيد.....
-
لا تقللوا من شأنهم أبدا.. ماذا نعلم عن جنود كوريا الشمالية ف
...
-
أكبر جبل جليدي في العالم يتحرك مجددًا.. ما القصة؟
-
روسيا تعتقل شخصا بقضية اغتيال جنرالها المسؤول عن الحماية الإ
...
-
تحديد مواقعها وعدد الضحايا.. مدير المنظمة السورية للطوارئ يك
...
-
-العقيد- و100 يوم من الإبادة الجماعية!
-
محامي بدرية طلبة يعلق على مزاعم تورطها في قتل زوجها
-
زيلينسكي: ليس لدينا لا القوة ولا القدرة على استرجاع دونباس و
...
-
في اليوم العالمي للغة العربية.. ما علاقة لغة الضاد بالذكاء ا
...
-
النرويجي غير بيدرسون.. المبعوث الأممي إلى سوريا
-
الرئيس الكوري الجنوبي المعزول يتخلف عن المثول أمام القضاء
المزيد.....
-
افاق الماركسية واليسار ودور الطبقة العاملة في عصر العولمة-بق
...
/ مجلة الحرية
المزيد.....
|