أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - إبراهيم إستنبولي - مبادئ الحرب الإعلامية















المزيد.....


مبادئ الحرب الإعلامية


إبراهيم إستنبولي

الحوار المتمدن-العدد: 703 - 2004 / 1 / 4 - 12:24
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


الوعي الاجتماعي  كساحة المعركة .

مسرح جديد للحرب

واحدة من أهم المقولات الماركسية ـ المادة هي التي تحدد الوعي أو البناء التحتي يحدد البناء الفوقي . وهذا صحيح ، بشكل عام . إن وعي الفرد والوعي المجتمعي يجب أن يتبلورا انطلاقا من الشروط الموضوعية المحيطة  ـ  من الحياة ، و إلا فإن أفعال الإنسان والجماعات ستكون منحرفة ، غير منسجمة مع الواقع .

      ولكن مع نشوء المجتمع الإعلامي ، فإن الوضع قد تغير . فالإنسان يتواجد بشكل دائم ضمن تأثير  حقل إعلامي . ففي كل بيت يوجد تلفزيون ، متوفر الراديو و ومختلف وسائل النشر والطباعة ، وبالتالي فإن عقل الإنسان يتعرض بشكل متواصل لتأثير وسائل الإعلام الجماهيري ، على الرغم من أن ذلك قد لا تكون له أية علاقة بالواقع .

      في الحرب النفسية ـ الإعلامية ، الحرب من نوع جديد ومختلف ، يتم استخدام التأثير المباشر على الوعي الجمعي ، على عقول الناس . تكمن المهمة في إجبار الكتل الجماهيرية على فعل ما يراد منها حتى ولو كان ذلك متناقضا مع مصالحها ، وفي معسكر العدو أو الطرف الآخر خلق انقسام بين الناس ودفعهم نحو التصارع بعضهم ضد بعض .

 في الحرب الإعلامية تكتسب أهمية كبيرة الخبرات العملية من حيث التأثير على وعي الحشود . والولايات المتحدة الأمريكية لها باع طويل في مجال الدعاية ، سواء الدعاية من اجل تسويق سلع عادية أو في إجراء حملة انتخاب الرئيس . ويتضح حجم النشاط الدعائي من خلال الإحصائيات التالية : إن حصة المواطن الامريكي العادي من الإعلانات الدعائية تتجاوز 1500 إعلان في اليوم الواحد ، سنويا توزع عبر مؤسسة البريد حوالي 16 مليار ! منشور دعائي ، والساعة المسائية في التلفزيون تحتوي 30 عرضا دعائيا . والقضية لا تختصر في و لا تتوقف على  حجم الأعمال الدعائية ، بل في الاستخدام الهائل للخصائص النفسية عند الناس . هناك يجري تعليم أسس و أساليب الدعاية في مختلف المراحل : في المدارس ، المعاهد  و في الجامعات .. ثم يتم اختيار المتميزين ليجري توزيعهم في شركات الإعلان والدعاية ، التي تقوم بدراسة نتائج الإحصاءات ، مختلف عمليات السبر والاستمارات ومدى فاعلية الإعلانات الدعائية ذات التوجه الجماهيري .

الناظم الأساسي في مجال التأثير على وعي الناس هو أبحاث العلماء الذين قاموا بدراسة هذه الظاهرة . والفضل في نشوء أسس ( ربما بشكل أدق ـ نواظم ) نظرية الوعي المجتمعي أو الجماعي ، يعود إلى أعمال الفلاسفة الروس " المثاليين " ، خاصة  ف . س . سولوفيوف ، س . ن . بولغاكوف وغيرهم ، إلى جانب أبحاث دوركهايم وتلاميذه في الغرب . ففي القاموس الموسوعي لعام 1954 ترد التوصيفات التالية لهؤلاء العلماء ( " ف . س . سولوفيوف : فيلسوف روسي رجعي ـ غيبي ، مؤمن بالله ... ، س.ن . بولغاكوف : فيلسوف واقتصادي روسي رجعي برجوازي ، مؤيد للثورة المضادة وعدو لدود للسلطة السوفييتية ... ، دوركهايم : عالم اجتماع فرنسي رجعي ، من مؤيدي نظرية مالتوس ، عنصري  و مدافع عن الإمبريالية " ) ، تلك التوصيفات تعكس الحالة المزرية " للماركسية ـ اللينينية " ذاك الزمن .

الخلاصة الرئيسية لأعمال أولئك الباحثين تقول بان الوعي المجتمعي ليس بناء فوقيا يقوم على القاعدة ( الاقتصاد ) ، و إنما عالم مستقل يتطور طبقا لقوانينه الخاصة . لا شك ، إن المجتمع يتكيف بهذا الشكل أو ذاك مع تغيرات الظروف الخارجية . لكن إلى جانب ذلك تظل قائمة في الوعي المجتمعي قضايا الماضي ( بما في الماضي البعيد ) ، لكن في صيغة مختلفة ( وتتبدل بصورة دائمة ) .

في الاتحاد السوفييت ، وبفضل منظّري الحزب الشيوعي السوفييتي ، لم تكن تنشر أعمال وأبحاث الاختصاصيين في مجال الوعي الاجتماعي .  ولم تدرس . بكلمة أخرى ، لقد حصل نزع سلاح أحادى الجانب في هذا المجال . و الآن سنتوقف على ظاهرة الوعي الاجتماعي .

 

تركيبة الوعي الاجتماعي

المجتمع ـ هو عبارة عن مجموعة ملايين كثيرة من الناس . وكل هذه الكتلة تنقسم إلى طبقات مختلفة ، اتحادات ، و مجموعات ، تشغل أمكنة محددة في التوليفة الاجتماعية . .  و رغم أن لكل من تلك الأقسام ، كما هو للأفراد المنعزلين ، منظومة آراء مميزة ، و أحيانا جد متناقضة  ، فإنه توجد ظاهرة الوعي الجمعي أو المجتمعي ، التي تربط الناس في وحدة متكاملة  .  كما كتب الفيلسوف الإسباني الشهير خ . اورتيغا ـ ي ـ  جازّيت ( Ortecha-I-Gasset ) : " قد يتعارض رأينا الخاص مع الرأي العام ، لكن الأخير لن يصبح من جراء ذلك اقل واقعية ولا باي شكل من الأشكال . من خصائص الرأي العام الواسمة هي استقلاليته عن كون هذا الإنسان أو ذاك يتفق معه بمفرده . فمن وجهة نظر حياة كل شخص منفرد ، إن الاعتقاد الجمعي يتخذ ما يشبه الحالة المادية . بكلمة ، إن الواقعية الملموسة للرأي الجماعي لا تقوم على ما إذا كنت أنا أو أنت متفقين معه ، بل بالعكس ، إنه هو بحد ذاته ، من دون إرادتنا ، يفرض علينا الأمر الواقع مجبرا إيانا على أخذه بعين الاعتبار . "

ممل لاشك فيه هو أن حياة الإنسان الذي لا يشاطر القناعة المجتمعية ( الرأي العام ) ستكون مختلفة بشكل جوهري عن حياة الإنسان الذي يتقبلها . والوعي الجمعي ( كما الفردي ) من حيث المبدأ ، يجب أن يعكس الواقع بشكل موضوعي ، و أن يتكيف مع تبدلانه .  لذلك  فإن المقولة ، المادة تحدد الوعي هي صحيحة جزئيا فقط . فالوعي ، بحد ذاته ، منفصل عن الواقع ويشكل وحدة ذاتية متغيرة وفق قوانينها الخاصة . على الخصوص ، إن الوعي المجتمعي في فترة معينة يمكن أن يتسم بطابع أصم ( غير معقول ) ، كما الإنسان الذي يمكن أن يعيش في عالم مُتَخيل .

يجب التمييز بين ثلاثة مستويات بنيوية في الوعي المجتمعي : العلوي ، الأساسي و العميق . للمستوى العلوي يمكن ضم الرأي العام ، الذي يتسم بالتقلب ، وهو غالبا غير مستقر و قصير العمر . أما المستوى الأساسي فيعادل لوحة العالم عند الإنسان الفرد . يُنظر إليه كقياس Paradigm . هذا المصطلح  يتضمن منظومة المفاهيم القائمة ، المواقف ووجهات النظر في المجتمع ككل .  هذا المستوى يتسم بالثبات الكبير .   إن الوعي الاجتماعي يتطور كصيرورة ( عملية متواصلة ) من الانتقالات ـ الوثبات من باراديغما إلى أخرى .  وإن عملية الابتعاد عن باراديغما معينة يمكن أن يجري بشكل كامن لفترة طويلة دون أن يلاحظ ( كما تبدل الوعي الاجتماعي في الاتحاد السوفييتي في بداية الثمانينات ) . أما المستوى العميق ( أو تحت أساس الوعي المجتمعي ) فيمكن مقارنته بشكل تقريبي مع الوعي الفردي الذي يتشكل عند الإنسان في الطفولة الباكرة ويترك بصماته مدى الحياة . في ذلك الحين تظهر الرموز والصور التي عليها ينشأ التفكير المحسوس للمرء . ينعكس هذا المستوى من الوعي في الأخلاق والمبادئ ، في الأهداف والقيم ، في مفاهيم الخير والشر ، وكذلك في التقاليد الروحية للشعوب . إنه مستقر وثابت جداً ، وعند تغير الباراديغما هو يتبدل قليلاً فقط . واكثر من ذلك ، إن تحول الباراديغما يجري على قاعدة البنى العميقة الموجودة أصلا ، والتي تكتسب شكلا جديدا دون أن تغير محتواها .

 

العقل والإيمان

      تتحدد أفعال الإنسان والمجتمع ككل بواسطة عاملين : العقل والإيمان ، اللذين هما مرتبطان بشكل وثيق ببعضهما كمكونين للوعي المجتمعي . وعند الحديث عن عقل الإنسان ، فالأحرى أن نقارنه مع عملية البحث المميزة للحيوان . إضافة لذلك ، عند الإنسان ، بفضل المنظومة الثانية ـ منظومة الإشارات ـ  ظهرت الكلمة ، التي سمحت بالتعميم ، فظهرت الرؤية الرمزية للعالم ، بخلاف الحيوانات التي، من اجل الاحتكاك ،  تستخدم المنبهات الصوتية والكيميائية ذات المعنى المحدد . والإنسان لا يمارس البحث فقط ، بل ويثبت المعلومات بواسطة الكلمات . وبما أن كل كلمة تقوم بالتجريد ، فإن ذلك يترافق كما لو بفعل خلق جديد . إن مجموعة المعلومات المتراكمة والمثبتة ـ العلوم ـ قد أصبحت أساس النظرة العقلانية إلى العالم المحيط . من ناحية أخرى ، بما أن كل إنسان يستطيع الاطلاع فقط على جزيئه من المعرفة عن العالم المحيط ،  يتوجب عليه اخذ ـ على سبيل " الإيمان " ، كمسلمة ، ومن دون برهان  الكمية الضخمة من الحقائق والنتائج . و الإيمان بالفطرة من خصائص الوعي الاجتماعي . وهو مرتبط قبل كل شيء بمحدودية المعرفة البشرية ، بالرغم من انه قد يعتمد على الخبرة اليومية ، المنطق السليم والتقاليد الخارجية . إن الإيمان يتسم بصفة فوق شخصية ( فوق فردا نية) . إنه يربط الفرد بالمجتمع . فالإنسان يتلقى القسم الأكبر من معارفه عن طريق المجتمع ، يتقبلها كما هي " على الثقة " .

      هناك جانب آخر لكلمة " إيمان" ،  يتعلق بالبنية الحاملة للصفات الشخصية والمجتمعية . أي انه يفترض وجود قيم روحية عليا قائمة فوق الإنسان : الإنسان يعيش ويعمل ليس لنفسه فقط ، بل و للآخرين . وقد كان هذا الجانب من الإيمان حاضراً بصورة دائمة عبر التاريخ وفي جميع مراحل تطور المجتمع ، و إن اتخذ أشكالا مختلفة . يمكن الحديث عن الإيمان في الله ، في المستقبل الشيوعي ، في شخص تم تأليهه . لقد شرح ذلك اورتيغا ـ ي – جازيتOrtega –I-Gasset  : " حين يقال ، لا يوجد دين من دون الله ، فإن السؤال الذي طرحناه حول الخصوصية الرئيسية الواسمة للكائن ، المدعو الله ، يجاب علينا أو حسب المعتقد كما يلي : الإله عبارة عن إضافة( علاوة ، زائدة ) إلى الإنسان ، وأما الدين ـ فهي بالتحديد ذلك النمط من الحياة الذي يربطنا مع  " زائدتنا " ، موفراً لنا إمكانية الوجود فيها . بدون تلك الإضافة لا يستطيع الإنسان العيش ، و بدونها يشعر بكيانه قاسيا ومشوها بشكل عميق ، وفاقدا المعنى والغاية ... كل ما يساعد الإنسان كي يتحسس حياته جزءا من الكل ، دون أن يشعر أنها مشوهة بشكل معيب غير قابل للإصلاح ، يفتح الطريق أمام الدين .. ربما أن ،  ما قد يرضى به البعض ، سيبدو سخافة غير مفهومة بالنسبة للبعض الآخر ، لكن إذا هم حقاً قبلوا بذلك ، وبه هم قادرون على دعم حياتهم ، والشعور من خلال ذلك  بالأرض الصلبة  تحت أقدامهم ـ  فلا شك في هذا يتبلور دينهم ."

 طبقاً لاورتيغا – ي – جازيت ، إن الإيمان قد يتخذ أشكالا مختلفة جداً . وقد أشار هو إلى ارتباط العقيدة  مع جوهر الحياة ـ و إلا لأجل ماذا يجب أن نعيش في هذه الدنيا المليئة بالكذب والظلم . بالفعل ، لا بد من إضافة معينة إلى الإنسان . فهو لا يستطيع العيش بنفسه لنفسه ، إنه جزء من المجتمع ، إحدى مكوناته . وهذا محفور في أعماق الوعي البشري . بكلمة أخرى ، الإيمان هو انعكاس للجانب الاجتماعي من الكينونة الإنسانية . وكيف الوصول إلى معرفة هذا الجزيء . يشير اورتيغا إلى عدم صلاحية العقل الفيزيائي لهذه الغاية . واقع الإنسان ـ هي حياته ، ذلك الذي يأتي معه .  إن التاريخ هو عبارة عن حركة المجتمع ، الوعي الاجتماعي خلال الزمن . هنا ينشأ شكل جديد للعقل ـ العقل التاريخي .

الإيمان ، الدين يعكسان الجانب المجتمعي وليس الفردي من حياة الناس . توجد هنا علاقة وطيدة مع الوحدة العضوية للوطن ، مع مفاهيم الخير والشر . بهذا المعنى ، هنا تناقض واضح مع الفردانية ، التي تبيح كل شيء غير ممنوع ، أو بكلمة أخرى ـ ممكن فعل كل شيء شريطة أن لا أتحمل المسؤولية . وليس صدفة كان مجيء المسيحية للحلول بدلاً من إيديولوجية المجتمع المادي لروما القديمة ، الذي غرق في الفردانية ، النفعية ،الفساد والقسوة . فقط المسيحية هي التي دلت على طريق الخروج من تلك الحالة المنحرفة للوعي الاجتماعي ، الذي كان متسيداً في الإمبراطورية الرومانية القوية جداً .   نفس العملية ، من حيث تراجع و انحطاط الوعي الاجتماعي ،  تجري في أقوى دولة في العالم الآن ـ الولايات المتحدة الأمريكية .

 

الوعي التاريخي

إن الوعي المجتمعي غير جامد ، هو متحول . تغير العالم المحيط و تحول الوعي في الماضي ـ هذا هو التاريخ . فالماضي يدخل كلية  في الحاضر . الناس والمجتمع ككل يختارون في كل لحظة ، وهذا الطريق المختار يظل في الوعي الاجتماعي . بل يمكن القول أن أساس الوعي المجتمعي هو الوعي التاريخي .

      في الظروف الطبيعية من التطور المتوازن ، يعتبر الإنسان نفسه جزءا من العملية التاريخية ، جزءا من تاريخ شعبه أو البشرية بأكملها . وفي الفترات الانتقالية ، إن الناس يرجعون إلى تاريخهم ، من اجل الحصول على أجوبة  للقضايا الماثلة أمامهم في الوقت الحالي من ماضيهم ، من أجدادهم . لكن هنا قد تكمن خطورة التلاعب بالوعي . لهذا الغرض قد تستعمل قياسات معينة لتقييم هذه أو تلك من الموضوعات ، دورها ، أهميتها وحدود استخدامها . لا يمكن التقييم السليم بدون الأخذ بعين الاعتبار خصائص ومكونات الحقبة المعينة . ومع ذلك ، غالبا ما يجري قسر الحاضر في إطار الماضي ، فينشأ وضع يعيش المعاصرون في الزمن الفائت، و يجري النظر إلى العلاقات بين الناس من وجهة النظر المعتادة ، التي تُعلن الوحيدة الممكنة. عن مثل هذه الحالة نورد أبيات غوته :

          " لا تلمسوا القديم البعيد .  لن نستطيع  كسر أقفالها السبعة .

  وما يسمى روح العصر ، هو روح المفاهيم والأساتذة ،

  الذي يقدمه هؤلاء السادة بدون حق كأنه الحقيقة .

  كيف نتصور نحن النظام القديم ؟ كالكرار المملوءة سقط المتاع ،

  والبعض بل أسوأ بكثير ـ  كمسرح العرائس  ، كمعرض المجون .

  فحسب رأي البعض ، أجدادنا لم يكونوا بشرا ، بل دمى " .

 

ونحن عندما نعصرن الماضي ، نلجأ إلى إلصاق وجهة نظرنا بأناس ذلك الزمن . وعندها يمكن إنجاز أي  تحريف ، عن طريق تحويل الأشخاص ، حسب الضرورة ، إلى أشرار أو إلى ملائكة . هنا تنفتح الإمكانية لخوض الحرب التاريخية ، مصوبين بشكل مباشر على الماضي .

 

اتجاهات تحول الوعي الاجتماعي

يمتاز القرن الأخير بالتدمير التدريجي للمجتمع التقليدي . فالمجتمع التقليدي شكل عائقا قويا على طريق الأشكال السلبية لسلوك الإنسان . فالمجتمع التقليدي قام بشكل أساسي على السكان العاملين في الزراعة ، والذين كانوا حتى نهاية القرن العشرين اكثر من سكان المدن . لكن الحالة تبدلت . فقد حصلت على مستوى العالم عملية انتشار المدنUrbanization  بشكل متسارع للغاية .  والآن تقطن في المدن الكبيرة مجموعات  بشرية ضخمة  ـ ميغالوبوليس Megalopolis   . وهناك نشأت شروط جديدة لعيش الناس : التزاحم ، ضيق المساحة ، الضجيج ، التلوث ، ازدحام حركة المرور ، قلة الحركة ،  لكن مع  نمط حياة مليء بالتوتر ـ كل ذلك ساعد على انتشار مختلف أنواع الأمراض بما فيها التحسسية والسرطانات. وعند الكثير من الناس في المدن الكبيرة تنشأ انحرافات نفسية : فقدان التوازن ، عدوانية ، اكتئاب ، الشعور بالوحدة وغير ذلك . و من الصفات المميزة لحياة المدينة : الإدمان على المخدرات والكحول ، العنف ، الجريمة ، البغاء . تزداد شريحة الأشخاص الغير قادرين على التأقلم مع ظروف المجتمع الحديث . في تلك المدن الكبيرة ، حيث الناس متفرقين ، يصبح من السهل التحكم بهم .

تقوم وسائل الإعلام الجماهيرية ، خصوصا التلفزيون ، بصياغة الموضة ، القيم ، ومعايير السلوك . دون أن يتحسسون العالم المحيط بشكل صحيح ، يعيش الكثيرون في عالم افتراضي ومتخيل . أما في الواقع ، فإنه تتم عملية فقد التقاليد ، التواصل وتتالي الحقب الزمنية . وهذا ينسحب بالمناسبة على اتجاهات تغير الوسط الروحي أيضا . إن تدمير المجتمع التقليدي و شرذمة الناس ترك آثارا سلبية قوية على الجانب الإيماني ، على جاهزية الإنسان العمل من اجل خدمة الآخرين . ومع انه في المجتمع ما بعد الصناعي يجري كلام كثير عن الدين ، وفي الولايات المتحدة الأمريكية مكتوب " نحن نؤمن بالله " ، فإنه لم يبق من الدين سوى المظاهر الطقوسية فقط . وبحيث انه من شكلي الوعي الاجتماعي : الشخصي والمجتمعي ـ قد اصبح الجانب الشخصي هو الأقوى والأكثر تأثيرا . ترسخت عبادة جديدة ـ عبادة الاستهلاك . إذا كنت تملك النقود وأنت قوي ، فأنت يمكنك أن تحصل على كل شيء . لكن ، إذا لم يوجد الإيمان ، فسيكون "  كل شيء مسموح " ، كما كتب ف . م . دستويفسكي في روايته  " الاخوة كارامازوف "  . 

      تزداد كمية المعطيات التي تشير إلى أن مجتمع الاستهلاك يقود إلى طريق مسدود ـ إنه النهاية .  وتعتبر الولايات المتحدة الأمريكية المركز العالمي لمجتمع الاستهلاك و الفردانية كمنظومة إيديولوجية .

      وكرد فعل غريزي على التغيرات في الوعي الاجتماعي عند الناس تبدأ بالظهور الرغبة والميل إلى الاتحاد ، إلى القيم العامة ، وليس فقط إلى الربح والاستهلاك . وهذا اكثر ما يتبلور في ازدياد دور الدين ، خصوصاً الإسلام . هناك الكثير من رجال الدين الذين ينظرون إلى التحولات الجارية في الوعي كمؤشر على الشر الكوني . على كل حال ، إن التطور الجاري يسمح بالحديث عن اضطراب كوني قادم للوعي الاجتماعي .

 د . إبراهيم استنبولي



#إبراهيم_إستنبولي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دروس من التاريخ : من الوثائق السرية للجنة المركزية للحزب الش ...


المزيد.....




- -نيويورك تايمز-: المهاجرون في الولايات المتحدة يستعدون للترح ...
- الإمارات تعتقل ثلاثة أشخاص بشبهة مقتل حاخام إسرائيلي في ظروف ...
- حزب الله يمطر إسرائيل بالصواريخ والضاحية الجنوبية تتعرض لقصف ...
- محادثات -نووية- جديدة.. إيران تسابق الزمن بتكتيك -خطير-
- لماذا كثفت إسرائيل وحزب الله الهجمات المتبادلة؟
- خبراء عسكريون يدرسون حطام صاروخ -أوريشنيك- في أوكرانيا
- النيجر تطالب الاتحاد الأوروبي بسحب سفيره الحالي وتغييره في أ ...
- أكبر عدد في يوم واحد.. -حزب الله- ينشر -الحصاد اليومي- لعملي ...
- -هروب مستوطنين وآثار دمار واندلاع حرائق-.. -حزب الله- يعرض م ...
- عالم سياسة نرويجي: الدعاية الغربية المعادية لروسيا قد تقود ا ...


المزيد.....

- المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021 / غازي الصوراني
- المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020 / غازي الصوراني
- المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و ... / غازي الصوراني
- دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد ... / غازي الصوراني
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية / سعيد الوجاني
- ، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال ... / ياسر جابر الجمَّال
- الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية / خالد فارس
- دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني / فلاح أمين الرهيمي
- .سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية . / فريد العليبي .


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - إبراهيم إستنبولي - مبادئ الحرب الإعلامية