آرام كربيت
الحوار المتمدن-العدد: 2263 - 2008 / 4 / 26 - 10:11
المحور:
سيرة ذاتية
ـ لقد كتبت في وصيتها أن تحرق ويرمى رمادها في النهر. قلت:
ـ أي نهر. هل حددت اسم النهر الذي سيلقى بقايا جسدها به. قال:
ـ لا.. لم تقبل أن يعرف أي كائن اسم النهرالذي يحتوي بقايا بقائها. قلت:
ـ لماذا فعلت ذلك. أجاب:
ـ لا أعرف ولكنها فضلت ذلك. أن لا يوضع إشارة الصليب على تابوتها, أن لا يقرأ الكاهن أو القس بعض آيات الأنجيل في حضرة جثمانها, أن لا يقف رجل دين على رأسها, أن لا يصلي أو يرتل في حضرة موتها. قلت:
ـ أنها امرأة شجاعة وقوية حتى في موتها. إن الناس الصلبين هو رسل المحبة إلى هذه الأرض, لا يهتزون أمام الموت والفناء. قناعاتهم تمدهم بسبل البقاء والديمومة والهدوء والقوة.
كانت السيارة تسيرضاربة الرياح الربيعية الباردة. مقدمة السيارة تتنحنح وهي تسير, ندف الثلج الخجول يتساقط بهدوء وصمت ويضرب مرة أخرى الزجاج الأمامي ويتفتت في الهواء كالصمت الثقيل.
سرنا مسافة عشرين كيلومتراً على الطريق المعبد ونحن نحتسي القهوة السويدية الخفيفة ونتكلم. قلت:
ـ لولاها, لولا كريتل لكانت حياتنا في متاهة وضياع. قال:
ـ صحيح. قلت:
ـ مجتمعنا صعب, عاداته وتقاليده, ضراوة العيش فيه يفتت الحصى والرمال ولون الضياء على محيا الأفق. لقد حاولنا كلنا, أسرتنا, أنا وأختي وأبي وأمي وبقية أفراد الأسرة الاستمرار والبقاء وتحمل ضغط مجتمعنا رغم مرارة الواقع وثقله وقسوته.
لقد هزمونا يا صديقي, حولوا بيتنا وحياتنا إلى جحيم وكابوس أسود ثقيل, نظرات الناس الوقحة إلينا, نظرات الشك والاستفزازالتي يرمونا بها, استفزازهم لنا لأننا تعاملنا مع المشكلة بالعقل والحكمة. دائماً يا صديقي يهزم العقل أمام موجة الخراب, يهزم الفرح أمام القلق, والصدق أمام كومة الترهات والكذب وعمق التخلف. لم أكن أرغب وأتمنى أن تسافرأختي, لكنها كانت أمام خيارين أما الأنتحاروالموت المجاني أوالهروب. وفي الهروب دروب موجعة وأحزان لا تعرف معنى النهاية ومن نتائجها الضياع والتشرد ملفوفين بشروط ضيق النجاح.
هل تصدق يا صديقي ما كان يقوله أقرب الناس لي.
ـ ماذا كانوا يقولون.
ـ كانوا يحرضوننا على قتلها. كانوا يضغطون علينا من أجل التخلص منها. لقد خربت أختي أيقاع الحياة النمطية القائمة في مجتمعنا وفي محيط علاقاتنا. لم أكن أعرف مقدارالكره الذي يكنه مجتمعنا للضعيف, لم أكن أدرك إنهم بهذه القسوة في حل مشكلة أجتماعية مخالفة للمألوف والسائد. أقول:
ربما هذا الضعف يكشف لهم عجزهم وهزيمتهم, لذا يريدون التخلص منه. كما لم أكن أعرف أن مجتمعنا مفكك لهذه الدرجة وأنهم مستلبون, يعيشون تحت رحمة كم هائل من الوصايا. وأن المؤسسة الدينية هي التي تحرك عقولهم وقلوبهم بالمطلق. قال صديقي:
ـ كنت أعرف هذا القصص كلها, كنت أشفق عليكم, على أسرتكم, لكن لم يكن باليد حيلة, إنه ترائنا وتقاليدنا, ونمط حياتنا الذي خط سيره آلاف السنين وليس باليد حيلة إلا بتفكيك المقدس من الداخل وتخريب نواميسه التافهة, قوانينه وأنظمته عبرالعمل والجهد والبحث عن كيفية تقطيع هذا الفكر السائد.
ـ لا أعتقد إننا نستطيع, كل الدول, المؤسسات, المتنفذين في شؤون وشجون العالم ترعاه, لأنه جزء منها, ولد من ضلعها, لهذا لها مصلحة في بقاء الصنم واستمراره. مشكلتنا كأسرة حلت من هذا الجانب ولكن كيف ستحل مشاكل بقية الناس, المأزومين, المهزومين, الجياع والعطشى, قضايا المرأة المستلبة وغيرها من الأشياء الأخرى المصيرية والتي تترك آثارها على الناس مدة طويلة.
شربت المزيد من القهوة وأكلت شطيرة الجبنة وضحكت وتمتعت بقرص الشمس الخارج من بين الغيوم الهاربة.
عندما سافرت أختي في آذارمن العام /1987/ ذهبت كريتل إلى المطاروأستقبلتها, أخذتها إلى بيتها, ذهبت معها إلى المسؤولين عن مثل هكذا قضية في الدولة السويدية. أمنت لها بيتاً, دخلاً تعيش منه إلى أن شقت لها طريق القبول في هذه الديارالمترامية الأطراف.
أستأجرت لها بيتاً, وكانت تشق عليها كل يوم, تطمئن على سيرحياتها وأنسجامها مع الواقع الجديد بغياب لغة مشتركة بينهم.
يقولون الغربة موت وضياع فما بالك إذا كان وقعه على فتاة في مقتبل العمر. وجود قلب حنون مثل قلب كريتل سهل عليها الطريق وفتح لها أفاق البقاء على قيد الحياة.
منذ لحظة وصولها إلى السويد طلبت الطلاق وحصلت عليه بسهولة.
اليوم هي متزوجة ولديها أبنة في الثامنة عشرة من العمروطفل في الثامنة, رائعون بكل المقاييس, حلوين وأذكياء وناجحون في مدرستهم وحياتهم. بينما تعمل أمهم مع زوجها منذ أن تعارفا وتحابا وتزوجا.
عند أقترابنا من حدود مدينة Gnesta اتصل أبن كريتل مع صديقي عبرالهاتف الجوال. قال له أين أنت, إننا ننتظرك يا صديقنا. قال لهم: عشرة دقائق, سأكون عندكم.
فتحت السهول أبوابها علينا في فسحة نادرة في هذه الأراضي, كانت السهول مترامية الأبعاد, متكئة على بقايا الغيم والسماء والبرد واللون الأخضر المنبعث من الأعشاب الندية. كنت سعيداً لمعانقتي لون الطبيعة وشكل الحياة المهندم بألوان متداخلة. أحب أن تطول المسافة لأرى ما لم أراه من قبل. صارت البيوت أكثر بعداً والمسافات أكثرأسترخائاً تحت حضن نفسها. مالت السيارة نحو اليمين وراحت تسيرفي طريق أضيق. سرنا مسافة خمسة كيلومترات, فرأينا سيارة واقفة على الطرف الأخر تنتظرنا. سرنا بمحاذتهم فرأينا رجلاً طويلاً يترجل من سيارته ويلوح لنا. أقتربنا منه وأوقنا سيارتنا. نزلنا من سيارتنا ونزل بقية الركاب من السيارة الأخرى, رجلان وسيدتان. أبنها يركروصديقته وأبنتها باولا وصديقها من أسبانيا. لقد قدما من أسبانيا البارحة. قبلنا بعضنا وقدمنا بعضنا كتعارف. قال لهم:
ـ صديقي, إنه أخو/ص/ جاء معي لأنه يعرف كريتل, سمع صوتها عندما كنت أتكلم معها من بيتهم في سوريا. أبتسموا أبتسامة خفيفة وترافق ذلك مع رقرقة دموع رقيقة تخللها الحزن وترحيب شفاف وبسيط. ثم أردف الشاب الطويل يركريدعونا إلى الانطلاق. ركبوا سيارتهم وركبنا سيارتنا وسرنا ورائهم. دخلنا بلدة كنيستا الصغيرة مثل الكثير الكثير من البلدات السويدية, شوارع نظيفة وسكان قليليين, يسيرون في الشوارع, يتبضعون حاجياتهم أو يزورون أقربائهم أو يذهبون مع أولادهم إلى الملاعب أو صالات السينما.
وقفنا أمام بيت أرضي, ترجلنا وسرنا ورائهم. كانت بالولا مقيمة في أسبانيا وبيت يركربعيد عن المكان. دخلنا بيت صديقة باولا, كانوا في أنتظارنا على مدخل البيت. قالوا تفضلوا. كان البيت في حالة أستنفار وأستعداد لأستقبال وتوديع الناس. دخلنا المطبخ وجلسنا هناك, قدموا لنا القهوة السويدية وبعض أقراص الكاتو. كانت الساعة تشير إلى الواحدة ظهراً. لقد بقي ساعة من أجل حضورالمراسيم المطلوبة القيام بها. كان البيت مثل ورشة عمل, كل واحد يجهز نفسه, يتحمم, يلبس, يتهيأ للذهاب. بقينا أنا وصديقي وبعض الناس الأخرين. عند حلول الوقت ركبنا السيارات وسرنا إلى المقبرة. أوقفنا سياراتنا وسرنا. المكان, المقبرة هادئة ومنظمة, تقبع بالقرب من بحيرة عذبة, بل تنام المقبرة على أكتاف البحيرة, يتخللها القليل من الأشجار. كل شيئ نظيف ومرتب, أسماء الموتى وتأريخ الولادة والوفاة, عليها أحجارغير عالية, على مستوى واحد لا يتجاوزالنصف متر, لا فرق بين غني وفقير, الجميع سواسية في الموت. كان البرد قارساً, والرياح مسترخية في قلب البرد. سرنا مسافة مئة متربأتجاه البحيرة ودخلنا غرفة صغيرة فيها تابوت كريتل. وقفنا على صفين, كل صف عشرة أشخاص, رجال ونساء مع بعض, أغلق باب الغرفة درءاً للبرد, تقدم بعض الأفراد وقرأوا مناقب المراة المسجاة أمامنا. بعدها تقدم كل واحد أبتداءاً بأبنها وأبنتها في وضع باقة من الورد على جثمانها وفعلنا أن وصديقي نفس الأمر. سألته:
ـ متى سيتم حرق الجثمان. قال:
ـ ليس الأن كما تفكر. كل شيئ سيبقى في مكانه, هناك جهة ستاتي وتأخذ النعش وتحرقه.
كان يتخلل المكان بكاء خفيف وعقلاني وهادئ. قطرات من الدمع انسابت على خذ الأبن والبنت والأخت وأولادها بالتبني. أولادها بالتبني بكوا أكثرمن كل الموجودين. كانت أمهم التي رعتهم وربتهم وأهتمت بهم منذ أن كانوا أطفالاً صغار. سرنا إلى صالة صغيرة بعد أن ودعنا النعش ودخلناها. جلسنا على الكراسي مقابل الطاولات, قدموا لنا بعض قطع الكاتو والقهوة وراحت الناس تتكلم مع بعضها بهدوء وأدب جم على شكل مجموعات متحلقة حول الطاولات.
حتى في بكائهم مختلفون عنا.
#آرام_كربيت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟