هل يستطيع اليسار المغربي التخلص من ثقافته السياسية التقليدية ليخطو نحو المصالحة مع ذاته، وبالتالي تجميع شتات مكوناته لمواجهة التحديات والعمل على كسب الرهانات المطروحة عليه؟ وما هي طبيعة الصيغ أو الخيارات التي يمكن أن يصطف في إطارها فعله الوحدوي في حالة تحققه؟ وما هي المعيقات الذاتية والموضوعية التي تقف حجر عثرة أمام تحول التوحد من مجرد هاجس يسكن قوى اليسار إلى واقع محسوس وملموس؟ ومن هي الاطراف المعنية داخل العائلة اليسارية بمشروع الانخراط في تكتل يساري قوي؟
عادت مسألة توحيد قوى اليسار لتطفو على سطح النقاش السياسي الجاري راهنا بين من كانوا يمثلون مكوناته الأساسية. و قد كان صدور بيان المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية حافزا على تأجيج النقاش والحوار حول هذه النقطة الساخنة.
التجميع يعود إلى الواجهة ـ
لعل تجميع قوى اليسار اليوم يعد مطلبا اتحاديا له ما يبرره لاعتبارات متعددة: أولها أن الاتحاد الاشتراكي لا يمكن أن يوجد نفسه خارج دائرة هذا اليسار خصوصا وأن عموم اليساريين كانوا يراهنون تاريخيا على هذا الحزب ليأخذ الموقع الريادي في عملية التجميع هذه وقيادتها،
ثانيها أن حزب التقدم والاشتراكية قد قطع شوطا هاما بعد خلقه تحالفا مع الحزب الاشتراكي الديمقراطي وحزب العهد في إطار ما يسمى بالتحالف الاشتراكي، الشيء الذي يدفع بالاتحاد الاشتراكي إلى البحث عن موقع ما داخل التكتلات الراهنة، خصوصا بعد أن فقد قاعدته النقابية الشعبية المتمثلة في الكونفدرالية الديمقراطية للشغل التي كانت ورقة سياسية أسعفته في لعب أدوار مختلفة..،
ثالثها أن الاتحاد الاشتراكي أراد نهج أسلوب مرحلي يهدف من ورائه استعادة مناضليه داخل صفوف كل من المؤتمر الوطني الاتحادي والوفاء للديمقراطية..، بمعنى أن الاتحاد فتح الباب في وجه من طالبوه بالأمس القريب بالديمقراطية الداخلية (تقنين التيارات..)، وهو الشيئ الذي أكده محمد اليازغي الرجل الأول داخل الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في الندوة التي نظمتها مجلة "نوافذ" يوم 26 دجنبر 2003بالعاصمة الادارية الرباط، حيث أشار إلى أن الاتحاد يطمح أن يكون بيتا لكل الاشتراكيين مضيفا أنه يمد الجسور مع الجميع بمن فيهم الذين غادروا الاتحاد،
رابعها ميلاد اتحاد الحركات الشعبية التي يضم في صفوفه الحركة الشعبية وشقيقتها الحركة الوطنية الشعبية والاتحاد الديمقراطي، هذا التحالف الذي كان وراءه بعض الدوائر النافذة داخل مؤسسات الدولة لخلق قوة سياسية داخل الغرفتين الأولى والثانية وبالتالي التشويش على الاتحاد الاشتراكي،
وخامسها استعادة الاتحاد الاشتراكي مكانته ودوره في احتضان مطالب اليسار المتمثلة أساسا في الإصلاحات السياسية والدستورية، حتى لا تنفلت هذه المطالب من دائرته كما وقع مع حركة المطالبة بدستور ديمقراطي التي وصلت إلى الباب المسدود، وهي للإشارة حركة مدنية كان من صميم انشغالاتها طرح اقتراحات عملية ترمي إلى إصلاح دستوري جوهري. فهل يستطيع الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية أن يلعب نفس الدور الريادي في ضوء المتغيرات السياسية الراهنة، وهل لا زال في الكتلة الديمقراطية رمق لإحياء نفسها من جديد؟
ـ الإطـــــــــــــــــــار
الأكيد أن ميلاد الكتلة الديمقراطية أملته شروط سياسية واجتماعية معينة، كما أن مساحة حركتها مرسومة سلفا، ونفس الأمر بالنسبة للأهداف المتوخاة من هذا القطب، فقد ابتدأت الكتلة بخمسة إطارات حزبية (الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، حزب الاستقلال، الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، منظمة العمل الديمقراطي الشعبية وحزب التقدم والاشتراكية) ثم تقلصت إلى أربعة بعد انسحاب حزب مولاي عبد الله إبراهيم، ثم انكمشت إلى ثلاثة بعد الخلاف الذي نشب بين الإطارات المذكورة وحزب التقدم والاشتراكية بقيادة المرحوم علي يعتة على إثر التصويت بالإيجاب على دستور 1992، ثم عاد الدفء إلى صفوفها بعد تجميد الخلاف بينها في حدود سنة 1996، وهي السنة التي تؤرخ للتصويت على التعديلات الدستورية لتلك السنة، 1996، إذ صوتت منظمة بنسعيد برفضها لهذه التعديلات وانشقت مجموعة من أطرها أطلق عليها اسم "مجموعة فندق حسان" التي تحولت في ما بعد إلى الحزب الاشتراكي الديمقراطي بقيادة عيسى الورديغي. ولعل مشاركة مكونات الكتلة الديمقراطية في حكومة التناوب التوافقي ( باستثناء منظمة العمل الديمقراطي الشعبي) كانت بمثابة آخر مسمار يدق في نعش الكتلة الديمقراطية، ذلك أن عبد الرحمان اليوسفي قد عمل على تغليب وترجيح كفة الأغلبية البرلمانية على كفة التحالف الكتلوي لاعتبارات أساسية في مقدمتها أن هم عبد الرحمان اليوسفي الأساسي كان هو توفير الدعم السياسي الضروري لحكومة التناوب التوافقي.
لعل الكتلة الديمقراطية، إذن، كانت قد استنفذت وظيفتها بعد التصويت الإيجابي على الدستور عام 1996 والمشاركة في حكومة التناوب التوافقي، وبمعنى أكثر وضوحا فإنها بلغت نسبيا سقف مطالبها من خلال التصويت والمشاركة. كما أن مؤسسيها قد غيبتهم الأحداث، فعلي يعتة رحل إلى مثواه الأخير، وامحمد بوستة ابتعد عن الأمانة العامة لحزب الاستقلال واليوسفي اعتزل العمل السياسي ومولاي عبد الله إبراهيم يصارع المرض (نتمنى له طول العمر) ولم يبق إلا بنسعيد آيت ايدر على رأس اليسار الاشتراكي الموحد، كرمز ليس إلا.
لقد أبدى كل من حزبي الاستقلال والتقدم والاشتراكية رغبته في إعادة إحياء العمل الكتلوي بعد الدعوة الصادرة عن القيادة الاتحادية، الشيء الذي نوه به محمد اليازغي في التقرير السياسي الذي تلاه في الدورة الأخيرة للجنة الإدارية للاتحاد، لكن هل يمكن حقيقة بعث وإحياء الكتلة من رمادها في ظل المعطيات السياسية الراهنة؟.
ـ الخيارات المطروحة
إن عملية إحياء الكتلة الديمقراطية في شكلها أو صيغتها السابقة تبقى بدون شك متجاوزة، مما يطرح أمام الطامحين إلى إحياء العمل الوحدوي خيارين، الأول يتمثل في توسيع تحالف الكتلة، وذلك بانضمام هيآت سياسية جديدة إليه ـ كما هو الحال بالنسبة إلى الحزب الاشتراكي الديمقراطي الذي سبق أن أبدى قياديوه رغبتهم في الالتحاق بصفوف الكتلة ـ إلا أن "فيتو" رفاق بنسعيد كان قويا حينها وحال دون حدوث ذلك، مع العلم بأن رفاق الورديغي يعتبرون أنفسهم من بين مؤسسي هذا التحالف الكتلوي، وأيضا بانضمام المؤتمر الوطني الاتحادي واليسار الاشتراكي الموحد( المكون من منظمة العمل، الحركة من أجل الديمقراطية، حركة المستقلون الديمقراطيون والفعاليات اليسارية المستقلة)، والخيار الثاني يتمثل في تأسيس جبهة يسارية بقيادة الاتحاد الاشتراكي، تضم في صفوفها الفصائل اليسارية خاصة منها المتواجدة داخل الحقل اليساري الرسمي.. وفي هذه الحالة سيصعب على الاتحاد الاشتراكي ترك حليفه الكتلوي حزب الاستقلال على اعتبار أن برنامج المرحلة الراهنة يلزم الاتحاد بوضع يده في يد الحليف الاستقلالي وذلك لأن هذا الأخير سيضطر إلى التحالف مع أحزاب كالتجمع الوطني للأحرار والعدالة والتنمية في حالة نجاح سيناريو أصدقاء الأصولي عبد الإله بنكيران في فرض خيارهم السياسي في المؤتمر المقبل لحزب الدكتور عبد الكريم الخطيب، ومن هذا المنطلق يبقى موقف الاتحاد الاشتراكي جد صعب بين التخلي عن حليفه التقليدي والبحث عن حلفاء جدد.. مع العلم بأن الواقع الطبيعي يستدعي أن يكون الاتحاد الاشتراكي في موقع يجعله يقود القوى اليسارية وأن يكون حزب الاستقلال في المقابل في موقع يستطيع فيه قيادة القوى اليمينية.. فضلا عن خيار الكتلة التاريخية التي سبق أن تحدث عنها سياسيا الفقيه محمد البصري ونظر إليها فكريا المفكر محمد عابد الجابري.
وعموما فالصيغة التي يمكنها أن ترى النور ـ في ظل الشروط السياسية الراهنة ـ هي تلك التي لا يمكنها أن تشوش على مخططات أقطاب "الحكومة البلاطية"، فموازين القوى السياسية هي ، اليوم، ليست في صالح القوى اليسارية، ولعل إبعاد الاتحاد الاشتراكي عن الوزارة الأولى وإسنادها إلى التقنوقراطي إدريس جطو رغم أن العرف الديمقراطي كان يقتضي أن تسند إلى الاتحاد الاشتراكي.. وإبعاده أيضا عن عمودية الدار البيضاء
( رئاسة مجلس المدينة) وإسنادها إلى الدستوري محمد ساجد.. يفسر الموقع المتأخر الذي يوجد عليه حزب الاتحاد الاشتراكي وأمثاله علاوة عن العراقيل التي يضعها أمامه بعض أقطاب "الحكومة البلاطية" .
ـ المعيقــــــــــــــات
تقف عدة معيقات ذاتية وأخرى موضوعية حائلا دون تمام عملية تجميع قوى اليسار، منها أن اليسار عموما يفتقر إلى رؤية سياسية وايديولوجية قادرة على إخراجه من عنق الزجاجة، إضافة إلى أزمة الهوية التي أضحت عنوانا لطبيعة اليسار المغربي خصوصا بعد المتغيرات العالمية المتمثلة أساسا في انهيار جدار برلين وتفكك الكتلة الشرقية بزعامة الاتحاد السوفياتي وعدم قدرة الفكر الاشتراكي على إعطاء أجوبة شافية عن أسئلة المرحلة.. وأيضا المتغيرات المحلية التي في مقدمتها المشاركة في الحكومة في ظل شروط سياسية أسالت الكثير من المداد.. ومن بين هذه المعيقات أيضا أن مكونات اليسار تعرف أزمة مزدوجة تتمثل في إقفال باب الاجتهاد الإيديولوجي ورمي مفتاحه في أعماق البحر.. والغوص في مشاكل تنظيمية لا حصر لها باعثها غياب التدبير الديمقراطي للشأن الحزبي، فأزمة الديمقراطية هذه هي التي ولدت، أولا، الانشقاقات الحزبية وحتى النقابية، وتكفينا إطلالة على المشهد السياسي لنقف على واقع التشرذم والتمزق والتجزئة الذي يعرفه هذا اليسار.. وثانيا، ظاهرة "الزعامة التاريخية" التي تطغى على أحزابنا اليسارية خصوصا، وهي الظاهرة التي وقفت ضد مأسسة الأحزاب وحولتها إلى ما يشبه "ضيعات سياسية" في يد أسماء لازالت تستمد استمرارها من "الشرعية التاريخية" وليس شرعية الإنجاز.. فالنصف الثاني من عقد التسعينات عاش فيه اليسار المغربي أسوأ محطاته، ذلك أن منظمة العمل الديمقراطي الشعبي أدت ضريبة التصويت السلبي على الدستور. فوقع ما وقع من انشقاق رفاق الأمس وتأسيسهم بعد ذلك الحزب الاشتراكي الديمقراطي، وقد تبعهم بعدها رفاق محمد المريني، حيث أسسوا حركة الإصلاح الديمقراطي قبل أن يلتحق البعض منهم بالاتحاد الاشتراكي والبعض الآخر بالحزب الاشتراكي الديمقراطي الذي لم يسلم هو الآخر من لعنة الانشقاقات، ذلك أن وزير التعليم السابق عبد الله ساعف ابتعد مؤخرا عن حزبه ليؤسس حركة المبادرات الديمقراطية، ونفس الأمر بالنسبة إلى حزب المرحوم علي يعتة، ذلك أن أزمة الديمقراطية خنقت رفاق التهامي الخياري الذين وجدوا في " داخلية البصري"( نسبة إلى وزير الدولة في الداخلية الأسبق إدريس البصري) المحضن الذي وفر لهم شروط الانسحاب وتأسيس جبهة القوى الديمقراطية.
الاتحاد الاشتراكي بدوره أدى ضريبة مشاركته في الحكومة ـ التي تمت وفق شروط أقل بكثير من تلك التي عرضت عليه في بداية التسعينات، فعدم وجود آليات ديمقراطية لتدبير الخلافات والاختلافات أدى إلى انسحاب رفاق الكونفدرالي نوبير الأموي إبان المؤتمر الوطني السادس المنعقد بالدارالبيضاء وتأسيسهم للمؤتمر الوطني الاتحادي بقيادة عبد المجيد بوزوبع، ليلحق بهم بعدها رفاق محمد الساسي الذين قاطعوا المؤتمر قبل أن يعلنوا رسميا عن انسحابهم من حظيرة الاتحاد الاشتراكي، فضلا عن تجميد نشاط مجموعة من الأسماء التي كانت تتحلق حول الفقيه محمد البصري.. كذلك غياب القدرة على بلورة برنامج عملي واضح المعالم ومحدد الأهداف نظرا لغياب رؤية سياسية واضحة لديها، ثم لارتباط مصالحها عضويا بمصالح النظام، الشيء الذي استتبع غياب القدرة لديها على التوفيق بين هذه المصالح المشتركة لنخبة اليسار مع الحكم وواجبها إزاء الطبقات الشعبية.. فضلا عن "الانتهازية الجديدة" التي غدت هاجسا يسكن الكوادر اليسارية.. حيث أصبح همها الوحيد والأوحد هو التقرب من دائرة الحكم والاستفادة من منافع نظام المكافآت والامتيازات واستجداء الرضى من هاته الدائرة قصد السماح لها بالمشاركة في اللجن والمجالس ومؤسسات الدولة...
ولعل في كلام إدريس البصري وزير الدولة في الداخلية الاسبق عن هذه الأحزاب ما يكفي من الدلالات والمعاني، حين طالب ـ في حوار له مع أسبوعية" لوجورنال هيبدومادير" بعيد الإعلان الرسمي عن تشكيلة حكومة إدريس جطو ـ بالحصول على تعويضات عن الوقت الذي تمت إضاعته بسبب هذه القوى، وذلك حين اتضح له في آخر المطاف أنه كان إزاء أناس أغلبه مدفوع بمصالح شخصية.. فهذه القوى تعنتت لزمن طويل متسببة في ضياع وقت الجميع حول تفاصيل لا قيمة لها..
وتأسيسا على ما سبقت الإشارة إليه، يتضح أن أرضية التوافق الاتحادي أعادت فتح جسور النقاش حول موضوع التوحد ليدخل في رحلة جديدة ووفق متغيرات سياسية جديدة للبحث عن الصيغ الممكنة لجمع شتاته.