مهدى بندق
الحوار المتمدن-العدد: 2262 - 2008 / 4 / 25 - 09:00
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
ردا ً علي مقالتين – لكاتب هذه السطور نشرتا بهذه الصفحة – كتب الدكتور خالد عبد الغنى بجريدة القاهرة ( الثامن من إبريل 2008) يقول إنه لا يرى بأسا ً في أن تكون مصر مصرية أو عربية أو إسلامية أو حتي إفريقية ! ومع التقدير لحقه في أن يرى ما يشاء ؛ فإنه من وجهة نظر علم الإجتماع ، لا مفر من ظهور نتائج كارثية تترتب علي كل محاولة تسعي لطمس هوية شعب من الشعوب لصالح شعب آخر .. والأمثال علي ذلك كثيرة في التاريخ . ومن ثم صار ضروريا ّ لصالح شعبنا المصرى – حسب رؤيتنا المحدودة بحدود نسقنا المعرفى النسبى – أن نلقي مزيدا ً من الضوء علي مسألتين : حقيقة الهوية في ارتباطها باللغة وبالممارسة ( = الديمقراطية ) والإسلوب المعتمد تاريخيا ً لاستخراج الصواب من جملة الأخطاء الموروثة عبر آلية النقد الذاتى .
***
وكمحاولة لتلمس مبدأ الهوية المصرية – الذى هو عملية مستمرة في الزمان وليس إقنوماً ثابتا ً طبعا ً – دعنا نبدأ بالنقد الذاتي باعتباره أول خطوة علي طريق التغيير, تجاوزاً لسلبيات ترسخت، واختراقاً لحصار طال أمده ، وانطلاقا إلي فضاء طالماً اشتهت الروح أن تتنفس فيه وتتألق وتبدع.
وعلي هذا فليس مما يمكن تسميته بالنقد الذاتي تلك الاتهامات التي نتوجه بها إلي أنفسنا في ساعات الهزائم ، أو فترات الإحباط ، مثل القول بأننا مقصرون، فاشلون، سلبيون كسالي, عباد ملوك ومنافقو رؤساء... إلي آخر هذه القائمة المنبثقة عن حالة سيكوباتية يتطوع بتردادها العامة و الكتاب السطحيون.النقد الذاتي مسألة مختلفة تماما. فهي عملية Process ذات منطلقات تعرف إلي أين تتوجه . تبدأ بالحفر حتي الجذور حيث تختلط ثمة الحقائق بالخرافات، وتتصارع علي ساحتها البراءة والايديولوجيا ، ويمضي في دروبها المتعرجة النضالُ من أجل التحرر جنباً إلي جنب دواعي الاستكانة، و القبول المتخاذل بالاستلاب Alienation بل والدفاع عنه أحياناً ، فكم من عبيد حاربوا في صفوف أسيادهم ضد من جاءوا ليحرروهم ، وكم من عمال مقهورين ناصروا رأسمالييهم المستغلين لهم!
بهذا الوعي للإمكانيات المنهجية، يغدو النقد الذاتي بمثابة " الغربلة" التي تقصد إلي فصل الأرز عن " الذنيبة", وإلي فتح الحدود أمام موكب التقدم , لإنهاء الحصار المضروب علي العقل باسم " الثوابت" أو الطبيعة البشرية العاجزة, أو الطبيعة القومية المتميزة. وحيث يضع هذا الموكبُ العقل َ علي أرض مصالحة الحقيقية ، في صراعها " الواقعي" مع مصالح الغير،, فإنه-لاغرو- سيقبل بالدخول في هذا الصراع مسلحاً بأدواته الأصلية ( الشك, طلب الوضوح, التحليل , التركيب) وبذلك لا ينزلق إلي مهاوي الخرافة ومنها الإيمان بنظرية المؤامرة Consparcy theory تلك التي تفترض أعداء (دهريين؟!) لا هم لهم إلا الإضرار بنا, وإيذاءنا، وتحجيم قامتنا، استجابة منهم لطبيعة " شريرة" ركبت فيهم ( فما خطأهم إن صح هذا ؟!) بالضد علي "طبيعتنا الخيرة الوديعة" ! كذلك سائر الخرافات السياسية مثل الإيمان بالمخلص الفرد ، واعتبار الماضي- أيا كان – ذهبياً نقياً.. وهكذا ما أن يتخلص العقل من الخرافة حتى تشرع منهجية النقد الذاتي في بناء نموذج معرفي حداثي مؤسس على أن الإنسان هو صانع مصيره. أما أعمدة هذا النموذج فنتائج العلوم الإنسانية ، والقوانين المنبثقة منها، وهي قوانين مغايرة تماماً لقوانين الطبيعة وشرائع الغاب، وأما سقف النموذج فملكوت الحرية، إن كان للحرية سقف. وهو بعد وذاك نموذج يقطع مع الميتافيزيقا بترسيخ الوعي المادي التاريخي الذى لا يفصل بين ما هو سياسي ، وما هو اقتصادي .
وهكذا فإن مادية هذا النموذج الذي يسعي النقد الذاتي إلي بنائه, لا يخلو من الروح(=الديمقراطية) فالديمقراطية ليست مجرد أداة للحكم بقدر ما هي فلسفة تضع الأنا في دعوى يقابلها نقيض ( =الآخر المختلف) يمتصهما مركب Synthesis هو نحن (=الجنس البشري) فالأنا لا معنى له إلا بوجود الآخر, و الآخر هو الأنا خارج جسدي، وسعيي للتوحد به سعي لتأكيد الذات, بقدر ما يكون نفيه نفيا ًلذاتي. ومن هنا فإن الموقف " العلمىّ " من قصة حي بن يقظان يكشف عن استحالة وصول هذا الشخص المنعزل إلي حقائق الوجود، فتسمية الأشياء تحتاج إلى لغة، ولا توجد لغة بغير جماعة تتوافق على تسمية الأشياء أثناء ما تعمل وتنتج وتتكاثر وتدير شئونها . وعبر التاريخ توافقت الجماعات البشرية علي " تسمية " معينة لإدارة شئونها بأقل الأضرار ، فكانت هذه التسمية هي " الديمقراطية " أغلبية تحكم ، وأقلية تعارض . ولقد يعكر علي هذا النظام المعقول أخطاء في التطبيق .. وأسوأها أن يعهد العامة – تحت وطأة الفقر والجهل – بمصائرهم إلي مستغليهم بالإستسلام المهزوم عسكريا ً ، أو حتى من خلال " الشَرَك" الإنتخابي فيصوتون للفاشيين الذين يقومون بإلغاء النظام الديمقراطى ذاته بمجرد وصولهم للحكم ! ومع ذلك تبقي الديقراطية مطلبا ً إنسانيا ً حتي وإن ظل كامنا ً قائما ً بالإمكان Potential
كيف للمصريين اذن أن يمارسوا إنسانيتهم دون أن تكون الديمقراطية وسيلتهم لإدارة شئونهم العامة ؟ وهل يمكن للديمقراطية أن تمارس داخل جماعة لا تعي من تكون على وجه الدقة ؟ دون أن تمارس النقد الذاتي علي تاريخها الموروث وحاضرها المعيش ؟
بمقدور كاتب هذه السطور أن يضرب بعض الأمثال علي ممارسات لآلية النقد الذاتي ، بادئا ً بنفسه .. فلقد سبق وأن تبني في صباه – تأثرا ً بالإيديولوجية السائدة في ستينات القرن الماضي – أفكارا ً تعارض المفكرين من أمثال لويس عوض ، وحسين فوزى وسلامة موسى ، ليجد نفسه متعلقاً بالبديل " العروبي " ليدرك فيما بعد أن مضاد الخطأ ليس صواباً بالضرورة. فالعروبة والفرعونية ليستا نقيضتين إنثروبولوجيا ً، بينما الاثنتان غطرشتا على الصفة الأصيلة ألا وهي مصرية المصريين، حين نرجع إلى ما هو أبعد من العروبة والفرعونية معاً.
وبقدر ما يفتح النقد الذاتي فضاء الفكر كي ينطلق محلقاً بجناحي العلم والخيال المبدع، بقدر ما يشكل غيابه دائرة حصار ، يقبع فيها سجناء الفكر الماضوى، بجانب سجناء فكر اللحظة الراهنة من مثقفين تقليدين ، ومثقفين براجماتيين وقد تنشب بين هؤلاء وأولئك معارك طاحنة، لكنها معارك لا تنتج إلا جروحاً وأوجاعاً لا طائل منها. وحتى الذين يسعون منهم إلى التخفيف من حدة هذه الأوجاع – بنهج براجماتي سطحىّ – فإنهم لا يظفرون إلا بسخط طرفي الصراع. أنظر مثلاً إلى كتابات حسن حنفي التي تناقض ذاتها ما بين الدعوة للديمقراطية والعلمانية، وبين تربيت أكتاف دعاة الدولة الدينية، لطمأنتهم – بمخايلة تاريخية – إلى أن أيديولوجيتهم سوف تسود العالم لخمسة قرون كاملة قادمة. وماذا بعد هذه القرون ؟! وأين النقد الذاتي هنا ؟ ناهيك عن غياب النقد أطراف الصراع هذا الصراع الفكري جميعا ً .
ثمة نموذج آخر للمفكرين الذين – يحجمون عن ممارسة النقد الذاتي، فيستدرجون من ناصية إحجامهم هذا إلى أرض الثقافة التقليدية (التبرير للسائد) أو إلى البراجماتية الفظة المفتقدة إلى أي أساس فلسفي. ومثال المثقف البراجماتي هنا: الدكتور ميلاد حنا. فهو وإن أثبت حرصاً نبيلاً على الوحدة الوطنية، إلا أنه أقام بناءه على غير أساس نظري صلب، ، فلم يتمكن من توجيه أي نقد لـ "تراثه الفرعوني .. القبطي.. الإسلامي". ومن حيث أراد أن يربط "الشخصية المصرية" إلى أعمدة أربعة أخرى (ليكمل العدد المقدس سبعة!) فإنه جعل من هذه الشخصية بمثابة كرنفال أزياء لا تناسق ولا انسجام بينها. فالفراعنة، والجريكو رومان ، والمسيحيون، والعرب المسلمون، والأوربيون العلمانيون ، والأفارقة الوثنيون جميعهم في غاية الكمال ، ولا عيب فيهم يتطلب النقد ! ولقد اضطره هذا المنهج التلفيقي Eclectical method إلى مجاملة العرب، مجاملة غير تاريخية، حين أكد أن الفتح العربي لمصر لم بتم بحد السيف، بل تم بترحيب المصريين بالعرب كجزء من الخلاص في عهد الاضطهاد الروماني" وهي أريحية لا يشاطره إياها المؤرخون العرب أنفسهم، مثل ابن خلدون ، وابن عبد الحكم، والكندى، والمقريزى، بله ساويرس بن المقفع. فمن المنطقي أن يكون الفتح العربي – في عصر الفتوحات الكبرى – قد خلف ضحايا لا يستهان بها، وسواء تم الفتح عبر القتال الدامي، أو عبر التسليم الخاضع من المقهورين فإن العنف كان شرطاً هيكلياً لا مراء فيه . ويؤكد هذه الحقيقة أنه في خلال عشرة أعوام – في بداية عصر الفتوحات - أخضع العرب الفاتحون لطاعتهم 36 ألف مدينة ! ولا مشاحة أن تكون هذه الفتوحات قد جرت في معظمها قتالاً أو تخويفاً بالقتال. قد يقول قائل إن ذلك كان سمة عامة للعصور الوسطى . وهذا صحيح لولا انبعاث تيارات سياسية تسعي بثقافة العنف لإعادة تلك العصور . فهل يراد لمصر أن تتعرب بهذا المعنى لكي تقود المسلمين إلي فتح العالم ؟!
على أن الأحداث "العنيفة" أيضاً من شأنها أن تكشف عما في القلب. وآية ذلك أن المخاوف من وصول الأخوان المسلمين إلى السلطة في مصر، بعد نجاحهم المدوى في انتخابات 2005 مقابل التراجع النسبى الخطير لحزب الحكومة (الوطني) دفع بميلاد حنا نفسه إلى التصريح بأن الأقباط سوف يهاجرون من مصر حال تسلم هؤلاء النفر عرش البلاد!.
ليكن أن الرجل قد غير أفكاره. بيد أن التغيير لم يحدث بطبيعة الحال بين عشية وضحاها. ومن هنا فإن النقد الذاتي هو وحده ما سوف يدعونا إلى تقدير هذا التغير. وبدون النقد الذاتي، فلسوف تظل "الشخصية المصرية" عنده – في جانب من جوانبها – مجرد شرائح layers متراكمة بعضها فوق بعض ، دون استصفاء للنافع الذي يمكث في الأرض. وإن هذا الاستصفاء ، لهو بالضبط ما تنتجه عملية النقد الذاتي، كما أوضحنا شروطها ، وقوامها ، وهياكلها آنفا ً . وفي هذا السياق ، فلابد من الاعتراف بوجود مشكلة قبطية ( أعاد إنتاجها صعود ُ الإسلام السياسي – كأنما عدنا إلي زمن الفتوحات !) وما لم يمارس جميع الأطراف – بما فيهم الدولة – عملية النقد الذاتي ، فإن المشكلة لابد سوف تتفاقم بما ينذر بعواقب وخيمة أقلها تدخل قوى أجنبية ذات مصالح في صميم شئون البلاد ، وأعظمها تطبيق استراتيجية اليمين الأمريكي الحاكم المسماة "بالفوضى الخلاقة"! Creative Chaos والتي ستنتهي بالضرورة إلى إعادة تقسيم المنطقة – بما فيها مصر – إلى دويلات هزيلة تقودها إسرائيل ( الوكيل الإمبريالى ) إلى ما تحدده لها الرأسمالية العالمية على خارطة تقسيم العمل الدولي، بما يضمن استمرار نهب ثروات وإنتاج الشعوب المقهورة.
#مهدى_بندق (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟