آرام كربيت
الحوار المتمدن-العدد: 2262 - 2008 / 4 / 25 - 10:39
المحور:
سيرة ذاتية
المسافات مفتوحة على بعضها, بلدات صغيرة مرمية مثل البيوت على طول الطريق, كل شيئ يتشابه هنا, البيوت والحارات, الشوارع والأسواق وتوزيع المحلات والمتاجر, لكن كل شيئ نظيف ومرتب ومنظم, لا يوجد شيئ أسمه فوضى, فالسكن السويدي هو الأفضل في أوروبا, والتنظيم هو الأعلى والأجود أيضاً.
الربيع يتاخرفي ربوع هذه البلاد, يتفتح الزهروفيالق الشجر في أيار, وتبدأ الطبيعة تنهض من غوتها لتعود إلى دائرة نفسها في تكراردوارالحياة ودوراتها الأربعة. على طول الطريق بحيرات, شجروعشب وطراوة البشروهدوئهم, طبيعة جميلة وغنية بالأخضرار, سهول تعانق الضوء والسماء. كنا نقصد بلدة كنيستا, بلدة غافية على جدوع البحيرات المتناثرة حولها من كل الأطراف ومحاطة بالغابات والأشجار, أقتطعها البشر من السماء ووضعوها في هذا المكان. تسيربنا السيارة ونحن نلحن زوادتنا في أجترار الحياة التي وضعنا فيها دون إرادة منا, أحاول أن أملئ عيني بكل ما يمرأمامها وأمام خاطري, تعود بي الذاكرة إلى الوراء, كيف كنت أذهب مع أختي إلى حلب, إلى المحنط كل شهر,إلى مطرانية الأرمن الأرتذوكس, من أجل المحاكمة. محاكمة زوجين على أبواب الطلاق. لم يكن لدينا المال لكي نعين محامي, لهذا كنا نقتصد الدفع بالمزيد من الجهد والتعب, نذهب معها إلى ذلك المكان, مرة أذهب أنا معها ومرة ثانية يذهب أخي معها ومرة ثالثة يذهب أبي, وهكذا بالدور. نركب الباص, موديل مغرق في القدم, يسيرعلى الطريق الأجرد, الفارغ, لا شجرة على طول الطريق, لا غابات, لا توجد بيوت بالمعنى الحديث للكلمة. مجرد طريق أسفلتي طويل وغباروتوزوعجاج يهب بين الفينة والأخرى, يلفح وجوهنا وقلوبنا, تتسخ ثيابنا وتغرق عيوننا في الفراغ الفارغ, لا شيئ يدل على وجود الحياة في هذا الأنحاء الطويل, الطويل. نقطع مسافة ثلاثمائة وخمسون كيلومترمن أجل تسجيل حضورها. قال لنا أحد المحنطين:
ـ لن نبث بالطلاق قبل سنتان ونصف السنة, عليكم بالصبر, منظومتنا هكذا, وليس لديكم خيارأخر.
إذاً علينا الذهاب والعودة كل شهروبعدها يحلها حلال, مصاريف ومتاعب وضغط من كل الأطراف. قلت:
ـ ليس في سراديب عقولنا الجاهلة حل أخر, قالوا:
ـ لا, نحن ننفذ وصية المقدس, المحنط, والمومياء. ليس بيدنا خيارآخر.
ـ لكننا في نهاية القرن العشرين والعالم تغيركثيراً, ونحن موظفين ولا نملك المال والمصاريف اللأزمة للوصول إليكم كل شهر. أرحمونا وأرحموا هذه الصبية الصغيرة, أعصابها ومستقبلها وحياتها. لا تحبه, ولا تريده.
أنه رجل مريض وعاجز.
ـ انها إرادة الله على الأرض يا أبني, ليس بيدنا شيئاً نفعله, نحن أسرى مثلك ومثلها.
ـ أليس من سبيل آخرتنقذون شبابها وحياتها وسمعتها.
ـ عليها العودة إلى زوجها والعيش تحت رحمته, وإلا ستتعب وتتعبوا.
ـ لكنها لا تحبه, لا تريده, لا تطيقه يا رجال المقدس والطقوس والرموزالميتة.
ـ أنها مشكلتها, لماذا قبلت به زوجة. ألا تعرف مقولة المحنط:
ـ من تزوج مطلقة فإنه يزني.
آه وألف آه, أيتام الصنم, المقدس والمومياء, حنطوا الإله, ووحنطهم, حنطوا أنفسهم ووضعوه في قالب الإله, دفنوه ودفنوا عقولهم معه. قلت:
ـ ليس لدينا حل يا أختاه إلا الصبر, أننا نقاتل منظومة عاجزة, مرهقة, متعبة, علينا أن نفعل شيئ, أن نصمد ونتحمل لكي نبقى كصخرة على قلوبهم وعقولهم السامة, سنتحداهم ونقف في وجوههم. قالت:
ـ هل نستطيع يا أخي, هل تتحمل ضغط المجتمع المريض والجاهل, الكنيسة وقيودها, الجهل والتخلف. سيضغطون عليك وعلى أسرتنا, ماذا ستفعل وقتها, هل ستتخلص مني, تقتلني أم تخفيني. أنا أضحيت زائدة عن اللأزم في الأسرة والمجتمع, أنهم يلوكون سمعتنا كل يوم, كل خصي يرفع عقيرته ويتجه نحو بيتنا, أنهم ينظرون إلى المطلقة أوالمرأة بدون زوج كأنها بيت دون سقف, وكل واحد يحسب في أوقات عجزه كيف يمكن أن يكون الناب الذي يأكلني. هل ستبقى إلى جانبي يا أخي. قلت:
ـ لن أتخلى عنك, لن أتركك للحشرات والقوارض, لن أتركهم يعبثون بك, سأبقى إلى جانبك, أعرف أنك تمري في ظروف صعبة ولكن لن أستطيع أن أساعدك إن لم تساعدي نفسك. قالت:
ـ لا أعرف, لا أعرف ماذا أفعل.
ـ عليك أن تدرسي, أن تشقي طريقك, أن تثبتي لنفسك إنك أقوى منهم.
ـ لا أستطيع أن أفكر, أن أدرس, المسألة صعبة للغاية.
إذاً ما هو الحل.
ـ لا أعرف, لكن ما أعرفه إنه يجب علي أن أفكر أكثرفيما سأفعله.
ـ يجب علينا أن نعرف ماذا نفعل. سيأكلون لون عينيك, وجهك, طراوة الحياة في قلبك النظيف والنقي, إنهم جياع. أحفاد المقدس جياع لكل شيئ, نهمون, لا يشبعون أبداً, يأكلون كل شيئ, اللون الحلوفي الحياة, الفرح, السعادة. كل شيئ لديهم هو أكل, الجمال هو أكل, الفرح والأمل هو أكل, وأنت غنيمة في ذاكرتهم الجمعية, أمَةُ وحيدة, وعليهم غزو دارك. ضمائرهم مومياء محنطة قابعة في صدورهم المتخشبة.
كل البلاد المفتوحة تحت وهج المقدس لديها قلق وجودي, قلق البقاء, وقلق الرحيل ما بعد الوجود, إلى المجهول, قلق ما بين خلودها الوهمي وهضمها لهذا الإله الذي لم يهضم, لذلك يشكل لهم قلق في استرخائهم تحت ضربات الخوف من ما بعد الموت, ونصل سيف البقاء تحت رحمة الحياة وقسوتها فوق رقابهم. أليست الجنة تبدأ من هذا الطريق, ألم يعلمهم المقدس أن يركعوا طوال الليل والنهارمن أجل المكاسب, الربح, الجنة, ألا ترين كيف يخضعون ويرفعون مؤخرتهم للإله من أجل الربح. لقد عرف الأنبياء والدجالون أن البشر أطفال صغار تحت الطلب, يركضون نحوخوفهم وقلقهم, نحو لعبهم التي لم تنضج, لهذا وعدوهم بالفرح الراحل الذي لن يأتي. قلت لصديقي:
ـ إننا مختلفون كثيراً عن هؤلاء الذين أستقبلونا في ديارهم, لقد خربنا أيقاع حياتهم بهمجيتنا, اندلاقنا على المكاسب وكأننا في غزو, نبحث عن الربح السريع في كل شيئ, الخداع والغش والكذب, التدليس في ممارساتنا وسلوكنا. الكثير منا يترك زوجته, يتزين النهاركله من أجل الذهاب إلى المرقص للحصول على وجبة جنس مع امرأة سويدية. يحجب عائلته في البيت ويسمح لنفسه ان تندلق على الملذات. أليس هذا تناقض صارخ في أخلاقنا وتصرفاتنا التي لا يرضى عنها كائن من يكون, زاحمناهم في كل شيئ, أخذنا أعمالهم, نساءهم, صارلديهم أزمة سكن, صارت محلاتهم محلاتنا, المطاعم, المحلات وغيرها. قال:
ـ صحيح ما تقوله.
إننا من عينة مختلفة, كل شيئ لدينا خاضع لحسابات مسبقة, نحن نفكر بالمقلوب, الحياة تسير إلى الأمام ولكن ما أن تواجهنا معضلة أو مشكلة حتى نحلها بطريقة مرجعية دون أن نفكر أو نطلق العنان للعقل والفكر, نعود إلى المخزون الذي خرجنا منه لنحل مشاكلنا مع الحاضر ومتطلبات الحياة وضراوتها. ليس بالضرورة أن نكون واعين لهذا الأمر ولكن ذاكرتنا, مخزوننا الثقافي ذي المرجعية الدينية هي التي تقررسلوكنا وممارساتنا ويستوي في الأمر الماركسي مع غيره. إننا متشابهين, كلنا في جذورتفكيرنا, نلجأ إلى القدم رغم تمردنا على القيم والأفكار القديمة. قلت:
ـ صحيح. لقد عشت في ظروف بالغة القسوة في السجن, وأحسست أن الإله الميت يعيش في تكوين ذاكرتي, أسمع صوته ينادي من الأعماق, من سراب وسراديب الذاكرة ويوجه طريقي في حل الكثيرمن المعضلات الحاضرة لهذا كنت أرى وأحس في الكثيرمن التناقض الصارخ ما بين سلوكي وما أريده, بين ما أرغب وما أفكر. إننا قلقون متناقضون في كل شيئ يا صديقي.
فتح صديقي المسجلة فأنبعث صوت فيروز الشجي, رحنا ندندن معها ببعض النغمات مع صوتها الحنون. قال:
ـ لقد جهزت لك شطيرة لحمة مع جبن, أعطني واحدة وخذ الأخرى, وفي الترمس قهوة سويدية خفيفة, أملئ الفناجين بها من أجل أن نستمتع برفقة الطريق والطبيعة والحياة. رحنا نرتشف القهوة ببطء ونتذكر, ونغني ونحزن ونتأمل الجمال والكائنات المنتشرة على طول حدود الطريق, النوارس والعصافيروالبط والوزالمنتشرة على طول البحيرات المتناثرة على طول السويد:
ـ سيحرقوا جثمانها اليوم بعد وقوفنا عليه.
ـ سيحرقوه, لماذا!
يتبع ـ
#آرام_كربيت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟