بداية يجب أن اعترف أن افتتاحية جريدة تشرين الصادرة في الأول من كانون الأول لعام 2003م "نحو مشاركة مجتمعية فاعلة"، بقلم الدكتور خلف الجراد، كانت قد حفزتني على كتابة ما يشبه الحوارية معها، لكنني أجلت ذلك وكدت أغض النظر عنه، حتى قرأت ما كتبته السيدة بثينة شعبان وزيرة المغتربين، في الجريدة ذاتها بتاريخ20 كانون الأول، تحت عنوان "إفلاس العقلية الفردية". إن ما كتبه السيد خلف الجراد، و ما كتبته السيدة بثينة شعبان جعلني أتساءل: هل بدأت السلطة تفكر جدياً بإشراك القوى والفئات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المختلفة في مشروعها الخاص "للتحديث والتطوير"، بحيث يصبح عندئذ مشروعا" وطنيا" بامتياز، يشارك المواطنون في إعداده وتنفيذه وتحمل مسؤوليته، فهم في البداية والنهاية أدواته وغايته؟ هل سوف تتخلى سورية عن العقلية "الفردية"، التي ساست البلاد والعباد طوال العقود الماضية وكان من نتيجتها أن نُزعت السياسة من المجتمع، وحتى من حزب البعث ذاته، وكادت تقضي على الروح الوطنية التي تميز بها السوريون على امتداد تاريخهم المعاصر؟ أم هي الاعتبارات الظرفية التي تعوم اللغة والمفاهيم، وتسطح الأفكار، فلا تجد السلطة عندئذ أي حرج في أن تستعير من المعارضة بعضاً من لغتها، ولا تجد المعارضة حرجاً في النظر إلى العديد من القضايا "المستجدة" من موقع السلطة، أم هو اتساق الواقع والحال الذي يجمع الجميع تحت راية "الوحدة الوطنية" الخالدة. وما إن انتهيت من قراءة المقال الافتتاحي للدكتور خلف الجراد، ومقالة السيدة بثينة شعبان المشار إليهما أعلاه، حتى عدت إلى يقينياتي المنفتحة دائما على الشك، فالواقع السلطوي عنيد ويعاند، لا تستطيع الاعتبارات الظرفية أن تغير من اتساقه، على الرغم مما أدخلت عليه من ارتباك وتردد.
السيدة بثينة شعبان وهي تنظر في حال الآخرين(ويا ليتها نظرت في حالنا) هذه الأيام، وجدت أن المواقف تلتبس حتى على أولئك الذين" تمتعوا دائما بالوضوح في الفكر والمنهج "، لذلك فهي لا تعرف ما إذا كان يجب أن "توجه (غضبها) على المحتلين، أم على الأنا المتورمة لدى الطغاة، التي لم تر وطناً أو شعباً، أم على الجلادين الذين أشبعوا شعوبهم قمعاً وفقراً، ينهبون الأوطان ويستبيحون الشعوب باسم تحرير الأوطان وحقوق الشعوب". دعيني أُذكرك يا سيدتي بحكاية أشجار الغابة مع الفأس، التي تنسب إلى الجاحظ، لعلها تساعد في إزالة بعض الالتباس الذي يبدو أكثر وضوحاً من الموقع الذي تنظرين منه في "أحوالنا" هذه الأيام .
يحكى أن أشجار الغابة استيقظت في صباح يوم، والوجوم يسيطر على وجوهها، على غير العادة، خوفا من الفأس التي وجدوها مرمية في وسطهم. وهم في حالهم هذه من الارتباك والخوف قالت لهن حكيمتهن: لماذا الخوف، فإذا لم تتبرع إحداكن للدخول في إستها فهي بلا ضرر(الفأس بلا ذراع لا تنفع الحطاب)، بل قد تكون نافعة عندما يحللها الصدأ. عذرا من الجاحظ قد أكون أسأت إلى جمالية قصته.يا سيدتي لماذا نلعن المحتلين من إمبرياليين وصهاينة، وحكامنا الأشاوس على امتداد الوطن العربي، بل وغير حكامنا، يتزاحمون أمام إستهم في العلن والسر. والتزاحم هنا لا يقتصر على السلوكيات المباشرة، من قبيل تلقي الأوامر، أو التبرع بتقديم الخبرات المتحصلة من اختبارات جربوها علينا. بل الأخطر من ذلك هو استمرار العمل على خلق المناخات المناسبة لاحتضان مشاريعهم الشريرة، والقضاء على أية محاولة جدية لمقاومتها، حتى ولو كانت لا تزال في حيز التصور والممكن النظري، بحيث غدت " الأغلبية صامتة، أو على الحياد ". المسؤول الذي جعل شعوبنا وبلداننا " لقمة سائغة " في متناول كل طامع، وعاجزة عن النهوض لملاقاة استحقاقات الحداثة الجارية، هو حكامنا المستبدون. فهم الذين ينهبون الأوطان ويستبيحون الشعوب باسم "تحرير الأوطان وحقوق الشعوب". هم الذين بنوا مجدهم الشخصي، على حساب مجد أوطانهم وشعوبهم،وهم الذين راهنوا على "المتزلفين والأزلام ". ويا له من مجد، مجد المتزاحمين أما إسـ .. .هم الذين جمعوا الثروات الطائلة على حساب لقمة شعوبهم، ولم يحرصوا على "عزة الوطن وكرامته ووحدته". هؤلاء الحكام هم الذين يجب أن يلعنوا، بل وأن يقاوموا ديمقراطيا. الأمريكان والصهاينة وغيرهم يعملون في سبيل تحقيق مصالحهم كما يرونها هم، السؤال ماذا فعلنا نحن للدفاع عن حقوقنا ومصالحنا في أوطاننا وفي ثرواتنا؟.
المحتلون يا سيدتي يُقاومون، فاللعن لا ينفع معهم. و بالمناسبة هم يسمحون لنا بلعنهم، طالما نحن على الأرض نقوم بكل ما يحقق مصالحهم، وهي في الغالب الأعم تكون على حساب مصالحنا. ماذا تنفع " وحدة الصف " العربي، طالما هي وحدة التزاحم أمام إست المحتلين الأمريكيين والصهاينة. بل ماذا تنفع "الوحدة الوطنية" القائمة على الخوف والفقر. الذي ينفع، يا سيدتي، هو العودة إلى الشعب وإعادة الحرية إليه، تلك الحرية التي نزعناها منه تحت ذريعة "الوحدة الوطنية"، فكانت وحدة الخوف والشلل واللامبالاة. وإذا كان من درس علينا تعلمه من الدول المتقدمة عدا عن " العلوم والفنون والاقتصاد"، هو أن المؤسسة المكونة من أفراد أحرار هي الأهم وهي التي تشكل وطنا يزدهر ويتقدم. لا يخفى عليك يا سيدتي أن "المؤسسة" يمكن أن تكون من أفراد "أزلام و متزلفين"، وتأخذ عندئذ صفة الجهاز، وما أكثر الأجهزة في بلدنا. الوطن يا سيدتي ليس الجغرافيا وليس الحجر والشجر، بل وقبل ذلك وبعده هو البشر. وبحسب كون هؤلاء البشر أحراراً أو مستعبدين يكون الوطن أو لا يكون.
اللهم احم سورية، فهي في خطر مزدوج، خطر الطامعين من الخارج، وهو الخطر الأقل إرباكاً، فالوطنية السورية التي رغم ما لحق بها من تشويه، لا تزال قوة يمكن الاعتماد عليها. الخطر الأكبر هو الخطر الناجم عن الاستبداد، وما تركه من أثار عميقة في شخصية المواطن، كادت تقضي على روح المواطنة فيه. من منا، أولئك المهتمين بالشأن العام، لم يسمع والألم يعتصره، مواطنا يقول بعد الذي حدث لنظام الحكم في العراق، اللهم خلصنا... حتى ولو كان ذلك على يد العم السام. قد يكون هؤلاء قلة، لكن "الأغلبية الصامتة" أو "الواقفة على الحياد"، حسب تعبيرك سيدتي، لا ينفع معها كل الوعظ الديني والأخلاقي الذي حفلت به مقالتك، لأن المشكلات السياسية لها حلول سياسية فقط .
وفي طليعة هذه المشكلات التي يجب أن نفكر ونعمل جميعا على إيجاد الحل لها هو الاستبداد، فالاستبداد هو مشكلة المشاكل في وطننا العربي.ولا فرق كبير بين استبداد الفرد، أو استبداد الطغمة، أو العائلة، أو الحزب الواحد. ويكون ذلك بالانتقال المتدرج والسلس من طراز الدولة الأمنية التي بناها خلال العقود الماضية، والتي أثبتت الحياة عقمها، وإنها لم تؤدي إلا إلى مزيد من التخلف والضعف، إلى دولة المؤسسات والقانون. واستهلال عملية الانتقال هذه تكون بإلغاء نظام الأحكام العرفية، وتجميد قانون الطوارئ. أو في الحد الأدنى التقيد الدقيق بأحكامه.من غير المقبول استمرار ملف الاعتقال السياسي مفتوحا، وخصوصا توريط الجهاز القضائي بتوليه بمرجعية عرفية أو قانونية مخالفة للدستور، بعد أن تولته لعقود خلت الأجهزة الأمنية. إن من يقرأ الدستور السوري يجد فيه العديد من النصوص التي تنص على الحقوق الفردية والجماعية السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها لا تزال تنتظر تنظيمها بقوانين خاصة بها منذ أكثر من ثلاثة عقود من السنين. وأكثر من ذلك لا تزال القوانين الاستثنائية المخالفة لنصوص الدستور السوري وروحه سارية المفعول وتشكل إحدى مرجعيات المحاكم الاستثنائية، وسيفا مسلطا على أصحاب الرأي المخالف، علماً أن الدستور في فصل أحكامه الختامية كان قد نص في مادة مستقلة على ضرورة تشكيل لجنة للنظر فيها وتعديلها بما ينسجم مع أحكامه وروحه، لكن هذه اللجنة لم تشكل، بل وشطبت المادة التي تنص عليها من الطبعات الأخيرة للدستور السوري.
من غير المقبول عدم وجود حياة سياسية طبيعة ينظمها قانون عصري للأحزاب، يتيح فرصاً متكافئة أمام الجميع. أقول كمواطن سوري يعتز بوطنه، إنني أشعر بالحرج والضيق عندما أعلم أن اليمن قد سبقتنا في هذا المجال، وكذلك فعلت الأردن ومصر والمغرب والجزائر، وقد تسبقنا غداً بعض دول الخليج العربي. وفي هذه المناسبة أدعو المعنيين إلى إعادة الروح السياسية إلى حزب البعث ذاته، وذلك من خلال إعادة الحياة الديمقراطية إليه، والفصل التام بينه وبين الدولة وأجهزتها المختلفة، وإلغاء جميع الامتيازات الممنوحة له بقوة "القانون"، وإعادته إلى ميادين المجتمع المدني، يستمد شرعيته ودوره السياسي منها عبر صناديق الاقتراع.لا يجوز أن يتوهم أحد كما يفعل بعض أيديولوجي النظام، أن العلاقة بين قوة الدولة وهيبتها وقوة المجتمع المدني هي علاقة عكسية، بل العكس هو الصحيح.فالدولة القوية فعلا يكون مجتمعها المدني قوياً أيضاً. وينطبق ذلك على السلطة أيضاً. لقد عبر عن هذه الحقيقة الرئيس اليمني عبد الله الصالح بقوله خلال مقابلة أجرتها معه قناة الجزيرة الفضائية: الحكومة تكون قوية عندما تكون المعارضة قوية، وليس العكس .
الخطوة الموازية التالية على طريق التحول باتجاه دولة المؤسسات والقانون، تتمثل في الإعلاء من شأن الحريات العامة، بما فيها حرية التعبير والاعتقاد والصحافة والإعلام والتنظيم والتظاهر..الخ. الإنسان الحر هو الإنسان الفاعل والمبدع، وهو الإنسان المسؤول. لم يعد مقبولاً اعتقال شخص لرأي عبر عنه، أو لكتاب اشتراه، أو يحاكم لمجرد انه توجه لحضور محاضرة..الخ.العبيد،يا سيدتي، لا يمكنهم تعزيز "اللحمة الوطنية " ولا يستطيعون بناء "سياج الوطن" الذي يضمن "الكرامة والعزة والإباء" لجميع أبنائه .
والخطوة الموازية التالية الأخرى تتعلق بإعلاء شأن القانون والمؤسسات القانونية، وهي تتطلب فصل القضاء عن السلطة التنفيذية، وإصلاح المؤسسة القضائية وتزويدها بالكادر القضائي الكفء والنزيه،وتأمين الشروط المادية والمعنوية والإجرائية الملائمة لحسن سير عمليات التقاضي.
وهناك خطوات أخرى عديدة موازية لا بد من اتخاذها على الصعيد الاقتصادي والإداري تعيد تحريك العجلة الاقتصادية على طريق التنمية الشاملة،تعيد الثقة للمواطنين باقتصادهم وللمستثمرين بأمن استثماراتهم وجدواها، وللعاملين بأن حقوقهم مصانة من كل تعديات..الخ.لم يعد مقبولا استمرار عمليات النهب المتعددة الوجوه والأساليب للاقتصاد الوطني من قبل حفنة من المتنفزين في الجهاز البيروقراطي بالاشتراك مع حلفائهم من برجوازيين طفيليين وكمبرادور ،وتهريب ذلك إلى خارج البلاد. لقد زاد حجم الأموال المهربة، أو الهاربة من سورية خلال العقود الثلاثة الماضية، حسب أغلب التقديرات، حدود المئة والعشرين مليار دولار.وكان الاقتصادي العربي المعروف الدكتور رمزي زكي في كتابه "الاقتصاد العربي تحت الحصار" قد صنف سورية في طليعة الدول العربية من حيث نسبة الأموال المهربة إلى إجمالي المديونية.
أوافقك الرأي، يا سيدة بثينة، أنه " لا بد من مراجعة لأسلوب عمل قد أثبت إفلاسه و توضحت نتائجه المدمرة".نعم لقد أثبتت " العقلية القبلية إفلاسها" ،ولا بد من وضع "أسلوب عصري لبناء الأوطان يعتمد التجارب الناجحة في العالم"،وهي جميعها كما نعتقد قامت ونجحت على أرضية الحرية والديمقراطية،فهل تعنيها يا سيدتي في سورية.
إن محاولة فهم الحاضر واستيعابه ، والتطلع نحو المستقبل، يتطلب من السلطة قبل غيرها، أن تطرح على نفسها الأسئلة الصعبة وان تحاول الإجابة عنها بطريقة مختلفة.هذا لا يعفي المعارضة من أن تطرح هي الأخرى على نفسها أسئلة لا تقل صعوبة وإيلاما عن أسئلة السلطة، وهي مطالبة أيضاً بالإجابة عنها بصورة مختلفة. عندئذ يمكن إزالة ما شكل على الدوام العقبة الرئيسية التي تقف في وجه هذا التفكير والمتمثلة بـ"العقلية المطلقة" التي تصنف الناس " إما مع وإما ضد" وقد تلحق الضد بصفات عديدة من قبيل: حاقد وموتور، وقد تصعد الصفات إلى مرتبة الخيانة والعمالة..الخ.
عندما يسود التفكير السليم والحوار الوطني الشامل على قاعدة المصالحة الوطنية وفي مناخ الحرية والديمقراطية، عندئذ وعندئذ فقط، يمكن الحديث عن وحدة وطنية حقيقية، تشكل أرضية صلبة للنهوض الوطني على طريق التقدم والازدهار، وتضع حدا "لحالة اليأس والإحباط" التي يعيشها شعبنا العربي السوري والشعوب العربية الأخرى، فالحال بعضه من بعض.